أودري هيبورن… من سماء هوليوود إلى نجمة على أراضي الجياع القاحلة

الممثلة العالمية الراحلة أودري هيبورن (فيسبوك)
الممثلة العالمية الراحلة أودري هيبورن (فيسبوك)
TT

أودري هيبورن… من سماء هوليوود إلى نجمة على أراضي الجياع القاحلة

الممثلة العالمية الراحلة أودري هيبورن (فيسبوك)
الممثلة العالمية الراحلة أودري هيبورن (فيسبوك)

مَن كان ليُصدّق أنّ هاتَين العينَين اللوزيتَين اللتَين أضاءتا خمسينات هوليوود وستينياتها، كانتا بئراً من القلق والأسى. يكشف شون فيرير، ابن الممثلة أودري هيبورن، في وثائقي عن حياتها تعرضه «نتفليكس»، أن «أكبر سرّ محفوظ عن أمه هو أنها كانت تعيسة».

على مدى ساعة و40 دقيقة، يسرد وثائقي «أودري: أكثر من أيقونة»، الذي كتبته وأخرجته البريطانية هيلينا كون، تفاصيل كثيرة عن مسيرتَي هيبورن الفنية والشخصية، وما بينهما من هوّة شاسعة. يُحسَب لكون أنها أخلصت للوقائع وبرهنت عن حرفية عالية في عملها التوثيقي. غير أن الدقة والمهنية لم تَقيا الفيلم من الغرق في بعض الرتابة، لا سيّما خلال دقائقه الأربعين الأولى.

يسلك السرد خطأ تاريخياً مستقيماً ويلتزم بالتسلسل الزمني للأحداث، في ما يشبه قراءةً لسيرة هيبورن على «ويكيبيديا». وحدَه صوت أودري الآتي عبر تسجيلات أرشيفية، إلى جانب فقرات الباليرينا التي تطلّ لتذكّر بأكبر أحلام النجمة، أي الرقص، يلوّن السرديّة الكلاسيكية.

جراح الباليرينا

كان لا بدّ من وقفة عند جذور أودري الأرستقراطية، وطفولتها الصعبة خلال الحرب العالمية الثانية. وقد استفاض العمل بعض الشيء في استحضار أرشيف الحرب، بما لم يخدم في كل الأوقات سياق الحكاية. أما بالعودة إلى الفتاة الإنجليزية التي أمضت سنواتها الأولى متنقّلةً بين بلجيكا وهولندا ولندن، فهي وجدت في رقص الباليه نافذةً طارت منها إلى عالم من الرقّة يقيها قسوة الحرب.

هربت أودري كذلك مما هو أكثر إيلاماً من المجاعة والقذائف؛ استعاضت بالرقص عن والدةٍ قاسية، لطالما أشعرَتها بأنها بشعة، وعن والدٍ هجر عائلته لينضمّ إلى الحزب الفاشي البريطاني عام 1935. كانت في السادسة، ولم ترَه بعد ذلك إلا في العاشرة من عمرها يوم أوصلها إلى المطار لإرسالها إلى أمستردام. مضت السنوات ولم يَزرها أو يسأل عنها يوماً. رافقتها تلك الصدمة وحفرت عميقاً في روحها لكنها لم تنقلب حقداً؛ فبعد 25 عاماً على اختفائه، راحت هيبورن تبحث عن أبيها حتى وجدته في آيرلندا بمساعدة الصليب الأحمر. حاولت وصل ما انقطع بينهما لكنّه لم يبادلها الدفء ولا العاطفة، ورغم ذلك فهي تكفلت بمصاريفه كلها حتى وفاته.

هذا هو جرح أودري هيبورن وسبب القلق في عينيها الباحثتَين باستمرار عن ضائعٍ ما. «هَجرُ والدي لنا سلبني الأمان مدى العمر»، تقول النجمة.

من الصور النادرة التي جمعت هيبورن بوالدها (فيسبوك)

تأخر «الوثائقي» قليلاً في وضع إصبعه على ذلك الجرح. تعامل معه تلميحاً في البداية، إلى أن أطلّت حفيدتها إيما لتتحدّث من دون مواربة عن النقص في الأمان والثقة الذي عانت منه جدّتها. «لقد عكست صورة مثالية عن نفسها لتغطّي نقاط ضعفها». الممثلة التي سطع نجمها في أفلام مثل «Roman Holiday»، و«Funny Face»، و«Breakfast at Tiffany’s»، و«My Fair Lady»، تعلّمت الحب من خلال أدوارها ولم تُدرك أن بإمكانها أن تكون محبوبة، إلا بعدما أبصرت ولعَ الجماهير بها.

تحطّم حلمان في حياة أودري هيبورن: لم تصبح باليرينا كما رغبت، ولم تكن يوماً ابنة أبيها المدلّلة. لكنها بصلابة وعصاميّة، رممت المكسور وحلّقت نجمةً في سماء هوليوود لتفوز بأوسكار وهي بعد مبتدئة، ولتصبح أول ممثلة، إلى جانب إليزابيث تايلور، تتقاضى مليون دولار عن أحد أدوارها. حدث كل ذلك من دون أن تتابع دروساً في التمثيل، بل هي وظّفت التجارب الصعبة التي عاشتها لتستخرج مشاعر تخدم الأداء.

هيبورن بدور الملكة آن في فيلم «Roman Holiday» (نتفليكس)

نجمة توارت عن فلك الشهرة

حسب شهادات ضيوف «الوثائقي»، من أفراد عائلتها مروراً بأصدقائها وصولاً إلى مخرجين ومنتجين عملوا معها، فإن هيبورن لم تنبهر أبداً بالأضواء. هي التي أبهرت العالم بجمالها وبأناقتها وبتسريحتها القصيرة الشهيرة، بقيت وفيةً لبساطتها وتواضعها. ويوم تزوّجت من الممثل ميل فيرير وأنجبت ابنَها الأول، انسحبت تدريجياً من عالم التمثيل حتى تتفرّغ لتربيته. أدارت ظهرها لهوليوود عشرة أعوام، واضعةً عائلتها في طليعة اهتماماتها.

يحتاج النجم لكثيرٍ من القوة والنضج حتى يتوارى عن فلك الشهرة، وقد فعلتها أودري هيبورن من دون تردّد. اختارت الخفاء خلال زواجيها الأول من فيرير والثاني من الطبيب النفسي الإيطالي أندريا دوتي، الذي انتهى كذلك بالطلاق. حاولت جاهدةً أن تجنّب ولدَيها شون ولوكا تفسّخاً أسَرياً كالذي عاشته هي، إلا أنها لم تُفلح. ويلفت ضيوف «الوثائقي» إلى أن أودري لم تتخلص يوماً من عقدة الهَجر التي تسبب بها والدها، مما أثّر على علاقاتها بالرجال.

هيبورن مع ابنَيها شون (يمين) ولوكا (يسار) - (فيسبوك)

يوم عادت أودري إلى التمثيل عام 1981 في فيلم «They All Laughed»، كان القلق ينهشها أكثر من أي وقت، على ما يروي رفاق الكواليس. ومع مرور السنوات، ووفق المشاهد والصور الأرشيفية التي يعرضها «الوثائقي»، حفر العمر عميقاً في وجه الممثلة الجميل، كما فقدت الكثير من بريق عينيها. أما في عينَي حفيدتها فتتجمّع الدموع عندما تتذكّر جدة كافأتها النجومية وعشقها ملايين المعجبين، ولم يكافئها الحب من أقرب الناس إليها.

سنوات أودري هيبورن الأخيرة قبل أن يطفئها مرض السرطان عام 1993. شكّلت مكافأة بالنسبة إليها على المستوى الإنساني. فإضافةً إلى علاقتها العاطفية المثالية بروبرت والدرز، الذي هدّأ الكثير من مخاوفها، تحوّلت النجمة الهوليوودية إلى سفيرة لمنظمة الـ«يونيسيف».

يكتسب «الوثائقي» قيمةً إنسانية كبرى عندما يروي في آخر أجزائه تلك التجربة المؤثرة التي خاضتها هيبورن، متنقّلةً بين الصومال وإثيوبيا والسودان وفيتنام، وفي كل بقعة حيث أطفالٌ جياع. كرّست نفسها جسداً وروحاً لمحاربة المجاعة، وعندما سُئلت عن تلك الرحلة التي توّجت بها مسيرتها، قالت: «إن كنت خرجت بأمر مميز من مهنة التمثيل، فهو صوتي هذا الذي استخدمته من أجل خير الأطفال».

حاربت هيبورن المجاعة حول العالم سفيرة لمنظمة اليونيسيف (Unicef)


مقالات ذات صلة

«تسجيلي» مصري يوثّق تاريخ الأقصر «أقوى عواصم العالم القديم»

يوميات الشرق معابد الأقصر تحتضن آثار الحضارة القديمة (مكتبة الإسكندرية)

«تسجيلي» مصري يوثّق تاريخ الأقصر «أقوى عواصم العالم القديم»

لم تكن قوة الأقصر ماديةً فحسب، إنما امتدّت إلى أهلها الذين تميّزوا بشخصيتهم المستقلّة ومهاراتهم العسكرية الفريدة، فقد لعبوا دوراً محورياً في توحيد البلاد.

محمد الكفراوي (القاهرة )
يوميات الشرق مشهد من الفيلم السعودي «ثقوب» (القاهرة السينمائي)

المخرج السعودي عبد المحسن الضبعان: تُرعبني فكرة «العنف المكبوت»

تدور الأحداث حول «راكان» الذي خرج إلى العالم بعد فترة قضاها في السجن على خلفية تورّطه في قضية مرتبطة بالتطرُّف الديني، ليحاول بدء حياة جديدة.

أحمد عدلي (القاهرة )
سينما  مندوب الليل (آسيا وورلد فيلم فيستيڤال)

«مندوب الليل» لعلي الكلثمي يفوز في لوس أنجليس

في حين ينشغل الوسط السينمائي بـ«مهرجان القاهرة» وما قدّمه وما نتج عنه من جوائز أو أثمر عنه من نتائج وملاحظات خرج مهرجان «آسيا وورلد فيلم فيستيڤال» بمفاجأة رائعة

محمد رُضا‬ (القاهرة)
سينما دياماند بوعبّود وبلال حموي في «أرزة» (مهرجان أفلام آسيا الدولي)

شاشة الناقد: فيلمان من لبنان

أرزة هي دياماند بو عبّود. امرأة تصنع الفطائر في بيتها حيث تعيش مع ابنها كينان (بلال الحموي) وشقيقتها (بَيتي توتَل). تعمل أرزة بجهد لتأمين نفقات الحياة.

محمد رُضا (لندن)
يوميات الشرق الفنان المصري أحمد زكي قدم أدواراً متنوعة (أرشيفية)

مصر تقترب من عرض مقتنيات أحمد زكي

أعلن وزير الثقافة المصري الدكتور أحمد فؤاد هنو عن عرض مقتنيات الفنان المصري الراحل أحمد زكي، ضمن سيناريو العرض الخاص بمركز ثروت ‏عكاشة لتوثيق التراث.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.