بوابة إلى عالم أفريقيا

بوابة إلى عالم أفريقيا
TT

بوابة إلى عالم أفريقيا

بوابة إلى عالم أفريقيا

يكاد الأدب الأفريقي يكون مجهولاً للقارئ العربي، ليس بسبب غيابه، بل بسبب قلة الترجمات من هذا الأدب، إذا ما استثنينا تلك الترجمات للأعمال التي يصادف أن تفوز بجوائز عالمية، إذ يتهافت المترجمون على ترجمتها.

تقدم مجموعة «رقصة العاج» الصادرة حديثاً عن «الآن ناشرون وموزعون» في الأردن (2025) للمترجم د. باسم الزعبي منتخبات قصصية تعود إلى حقب زمنية متعددة، ولكتّاب أفارقة من دول متعددة. نجد هنا مؤلفين معروفين، ومؤلفين أقل شهرة، وممثلين للاتجاه الفولكلوري في الأدب، والأدباء الذين يصورون حياة المدن، وطيفاً من الأساليب والاتجاهات المتنوعة بدرجة كبيرة، من العفوية إلى الواقعية والسوريالية. إن اللوحات الحياتية القصيرة، والرسومات السيكولوجية، وصور الحياة التقليدية، والاستعارات المجازية المعقدة والأحداث المؤثرة، والقصص الساخرة، والحكايات البسيطة، والأحاديث الرمزية، لم تتعايش على صفحات كتاب واحد وحسب، لكنها قادرة على أن تقدم نفسها وحدة حقيقية، لأن أفريقيا المعاصرة تتنفس على هذه الصفحات بكل تناقضاتها: طيبتها، ودمامتها، حكمتها، وخرافتها، وروعتها الشعرية.

جاء في تقديم الكتاب:

«سيلاحظ القارئ أن قضية التمييز العنصري هي الأهم في الأدب الأفريقي، خصوصاً لدى كتاب جنوب أفريقيا. وسيلاحظ أيضاً شيئاً آخر من دون شك: إن التطرق إلى هذه المواضيع لا يحمل طابعاً شعارياً، ومتحرراً من الصبغة الأخلاقية أو البوليسية. والحلول الساخرة للموضوعات أصبحت ذات خصوصية، فهي على نحو مفارق تؤكد تراجيدية الحالة.

إن الجزء الفولكلوري من المنتخبات يشكّل قسماً متنوعاً، متعدد التلاوين، بعض القصص تبدو إعادة بسيطة للحكايات الشعبية. وعلينا أن نتذكر أن هذا العمل يعد عملاً أدبياً جاداً ومتعدد الوظائف بالنسبة إلى الكتاب الأفارقة. ومن الضروري تكييف اللغة الأجنبية (الغربية) لإيصال القيم الأفريقية، ومن الضروري جعل النص الفولكلوري نصاً أدبياً، وأخيراً يتوجب إيجاد حلول للمسائل التأليفية - الإبداعية. ومع ذلك فإن هذا الكتاب لا يجمع الأعمال الفولكلورية فقط، فعلى أساس المادة الفولكلورية بُنيت قصة (protista) المليئة بالرموز والاستعارات المجازية، القصة المؤثرة والدقيقة، البداية الخاصة بالمؤلف بالتأكيد هي السائدة هنا، أما التحليق السوريالي فيعطي التفاصيل (الفلكلورية) تكويناً غير منتظر، ولوناً خاصاً إلى حد كبير. أما الكاتب الكيني نغوغي فاهتينغو فيتضمن أدبه السيكولوجي العميق الحكاية الشعبية.

أما الجزء الأساسي من هذه المجموعة فتشكله القصص الواقعية، والقارئ الممحّص سيستخلص منها إشارات غنية عن حياة أفريقيا المعاصرة، والذي لا نستطيع تحقيقه من خلال الكثرة، من الدراسات الاجتماعية والإثنوغرافية، والدينية. هنا نجد المعتقدات الدينية التقليدية، والعلاقات البينية القبلية، ووضع المرأة، وعادات الزواج، وولادة البرجوازية المحلية، ورذائل المدينة، وقصص الحب، والدعارة، ومهانة الإنسان، والفضيلة... باختصار، كل شيء يدخل في تكوين صورة أفريقيا اليوم».


مقالات ذات صلة

مؤرخ يهوديّ يفكك مفهوم «معاداة السامية»

كتب مارك مازور

مؤرخ يهوديّ يفكك مفهوم «معاداة السامية»

في خضم الصراعات السياسية والثقافية المحتدمة التي شهدها الغرب على هامش الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، يبدو مصطلح «معاداة السامية» وكأنه فقد حدوده التعريفية.

ندى حطيط
كتب كسر الخوف وتحويله إلى «فزّاعة» عاطفية

كسر الخوف وتحويله إلى «فزّاعة» عاطفية

برغم الحضور البارز لهُوية القرية العُمانية في رواية «الرّوع» للروائي والشاعر العماني زهران القاسمي، فإن البناء النفسي لبطلها «محجان» يبدو هو المحرّك الأعمق للسر

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب في المحافظة الشمالية

أوانٍ فخارية من مدافن دار كليب الأثرية في البحرين

تحوي مملكة البحرين سلسلة من المقابر الأثرية، تُعرف باسم «تلال مدافن دلمون»، سُجلت ضمن قائمة التراث العالمي التابعة لـ(اليونيسكو) في صيف 2019.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون جين اوستن

«عزيزتي كاسندرا»... نافذة على الحياة الخاصة لجين أوستن

بمناسبة مرور 250 عاماً على ميلاد الكاتبة البريطانية جين أوستن، أصدرت دار نشر «فينيتيود» الفرنسية كتاباً جديداً بعنوان: «عزيزتي كاسندرا».

أنيسة مخالدي (باريس)
ثقافة وفنون «الأوسلاندر»... بُعدٌ آخر للمنفى

«الأوسلاندر»... بُعدٌ آخر للمنفى

يقدّم خالد إبراهيم في الجزء الأوّل من ثلاثيته الروائية «الأوسلاندر- تشريع الغربة اختبار الفقد»، نصاً يؤسّس لمرحلة تكوّن إنسان يدفعه وطنه إلى التخلي عنه.

إبراهيم اليوسف

مؤرخ يهوديّ يفكك مفهوم «معاداة السامية»

مارك مازور
مارك مازور
TT

مؤرخ يهوديّ يفكك مفهوم «معاداة السامية»

مارك مازور
مارك مازور

في خضم الصراعات السياسية والثقافية المحتدمة التي شهدها الغرب على هامش الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، يبدو مصطلح «معاداة السامية» وكأنه فقد حدوده التعريفية الواضحة، وتحول إلى ساحة معركة دلالية مسيّسة بأكثر مما هو توصيف لظاهرة تاريخية. كتاب المؤرخ البريطاني البارز وأستاذ التاريخ في جامعة كولومبيا، مارك مازور، «عن معاداة السامية: تأريخ للمصطلح» محاولة تفكيكية جريئة للمفهوم، لا يكتفي فيه بسرد تاريخ كراهية اليهود، وإنما يغوص في تاريخ «الكلمة» نفسها، وكيف تحولت من توصيف لحركة سياسية أوروبية في القرن التاسع عشر، إلى سلاح جيوسياسي في القرن الحادي والعشرين يُستخدم لخدمة سياسات دولة إسرائيل ضد الفلسطينيين والعرب.

ينقسم «عن معاداة السامية» إلى قسمين رئيسيين يعكسان التحولات الجذرية للمفهوم: الأول يتناول صعود وسقوط معاداة السامية كحركة سياسية أوروبية، بينما يعالج الثاني «النموذج المفاهيمي الجديد» الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية، وتحديداً منذ سبعينات القرن الماضي.

ينطلق مازور من تمييز جوهري وحاسم بين كراهية اليهود كظاهرة قديمة قدم التاريخ الديني في أوروبا، ومصطلح «معاداة السامية»، الاختراع الحديث نسبياً، الذي تم صكه في أواخر القرن التاسع عشر في ألمانيا، مع التشديد على خطورة الخلط غير البريء بين العداء الديني التقليدي والظاهرة الحديثة. ويرى أن معاداة السامية «الكلاسيكية» نشأت كحركة سياسية مضادة للحداثة، وجاءت كرد فعل مباشر على عصر التحرر الذي منح اليهود حقوق المواطنة المتساوية في الدول الأوروبية. هدف هذه الحركة تجاوز مستوى ترويج صور نمطية سلبية عن السكان اليهود، وسعت إلى إقناع الجمهور بأنهم أقلية تشكل تهديداً وجودياً يمس القضايا الاجتماعية والسياسية الجوهرية للدولة القومية الصاعدة.

في تلك الحقبة، تداخل المفهوم مع النظريات القومية والعرقية الزائفة التي سادت القارة القديمة، لتبلغ هذه الحركة ذروتها مع صعود النازية إلى السلطة في ألمانيا. وهنا يطرح مازور فكرة لافتة: إن هزيمة أدولف هتلر لم تنهِ التحيز ضد اليهود، وإنما أدت إلى «نزع الشرعية عن معاداة السامية كبرنامج سياسي إيجابي». بمعنى آخر، لم يتوقف الناس عن كراهية اليهود بعد عام 1945، لكن التباهي العلني بذلك والترويج له كمنصة انتخابية أصبح أمراً منبوذاً رسمياً وأخلاقياً في الغرب.

القسم الثاني، والأكثر إثارة للجدل، يتفرغ لمعالجة المعضلة المعاصرة، ويجادل بأن العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، وتحديداً بعد تأسيس إسرائيل عام 1948 وحرب 1967، شهدت تحولاً جذرياً في معنى ووظيفة المصطلح. ففي السابق، كان اليهود يُعرّفون بوصفهم أقلية مضطهدة في الشتات الأوروبي، لكن مع تأسيس دولة إسرائيل وانتقال مركز الثقل اليهودي إلى الولايات المتحدة وتل أبيب، بدأت عملية إعادة تشكيل للمفهوم. ويوضح مازور كيف تمت «صهينة» الحياة اليهودية الأميركية، بحيث أصبحت إسرائيل ركيزة أساسية للهوية اليهودية العلمانية. هذا الاندماج أدى إلى ولادة ما يُسمى «معاداة السامية الجديدة» في السبعينات، وهو نموذج مفاهيمي موتور ساوى بين «معاداة السامية» و«معاداة الصهيونية» أو النقد الجذري للدولة العبرية.

يوفر النص تحليلاً دقيقاً لهذا الانزلاق الدلالي، فيتحدث عن جهود مؤسسية، قادتها منظمات يهودية أميركية والحكومة الإسرائيلية، لترسيخ فكرة أن أي عداء لإسرائيل هو بالضرورة نابع من كراهية أزلية لليهود، ويشير أيضاً إلى دور لعبه الاتحاد السوفياتي في نشر «معاداة الصهيونية» كغطاء لمعاداة السامية التقليدية في الكتلة الشرقية، مما زاد المشهد تعقيداً، لكنه يرفض السردية التي تقول إن العداء العربي لإسرائيل هو مجرد امتداد لمعاداة السامية الأوروبية، ويستشهد باعترافات خاصة لديفيد بن غوريون، مؤسس إسرائيل، الذي أقر بأن العداء العربي نابع من نزاع على الأرض («لقد جئنا وسرقنا بلدهم»)، وليس من كراهية عرقية، رغم استغلال بعض النخب العربية أحياناً لنظريات المؤامرة الأوروبية في معرض تبريرها للهزائم العسكرية.

في «عن معاداة السامية» مساحة مهمة لنقد «الأرثوذكسية الجديدة» التي هيمنت على الخطاب الغربي في القرن الحادي والعشرين. هذه الأرثوذكسية، المدعومة بوزارات الخارجية الغربية، تسعى لتعقب معاداة السامية اعتماداً على تعريفات فضفاضة، أبرزها تعريف «التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست» (IHRA). الذي ينتقده مازور بشدة، عادّاً إياه أداة إدارية غامضة أكثر منه تعريفاً علمياً دقيقاً، ويرى خطورته في كونه شاملاً وغير دقيق، ما يسمح باستخدامه لقمع الخطاب السياسي المشروع.

وبالفعل، وبدلاً من حماية اليهود من العنصرية الحقيقية، تحول المصطلح إلى وسيلة لحماية دولة إسرائيل من النقد السياسي. وللمفارقة تقوم أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا (التي جددت تراث الفاشية) واليمين المسيحي في أميركا بتبني مواقف داعمة لإسرائيل بشدة، ما يسمح لهم، وهم مُعادو السامية التقليديين، بغسل سمعتهم عبر توجيه تهمة معاداة السامية نحو اليسار والنشطاء الحقوقيين والطلاب الذين ينتقدون السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين. لقد أصبح اتهام الجامعات الأميركية بأنها «بؤر لمعاداة السامية» تكتيكاً أساسياً في حرب ثقافية أوسع يشنها اليمين ضد المؤسسات الأكاديمية والتقدمية.

ويرى المؤلف بوصفه يهودياً تأثر بأحداث السابع من أكتوبر (تشرين الأول) والحرب على غزة، أن المبالغة في استخدام المصطلح وتوسيع دلالته، يؤديان في النهاية إلى إفراغه من معناه وتقويض النضال الحقيقي ضد الكراهية. لكنه لا يكتفي بالتشخيص، بل يحاول تقديم مخرج من هذا المأزق المفاهيمي عبر العمل ضمن مسارين متوازيين؛ أولهما التعامل مع معاداة السامية كشكل من أشكال العنصرية والتحيز العرقي - الديني الذي يجب محاربته ضمن استراتيجية أوسع لمناهضة العنصرية بأشكالها كافة، وثانيهما التعامل مع الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني صراعاً سياسياً ونزاعاً على الأرض والسيادة وحقوق الإنسان، وهو مجال قابل للنقاش والنقد السياسي الحاد دون أن يوصم ذلك بالضرورة بمعاداة السامية. ويؤكد أنه من الممكن التعبير عن الغضب إزاء مقتل المدنيين في غزة، والمطالبة بالعدالة للفلسطينيين دون الانزلاق إلى نظريات المؤامرة القديمة حول «النفوذ اليهودي العالمي». إذ ينتهي الخلط بين الأمرين إلى خدمة أغراض المتطرفين من الجانبين: أولئك الذين يريدون تحصين إسرائيل من أي نقد، وأولئك الذين يريدون تبرير كراهيتهم لليهود بغطاء سياسي.

يتميز أسلوب مازور بالدقة التاريخية والابتعاد عن الانفعال في محاولته النبيلة لتفكيك طبقات تراكمات تاريخية سياسية غلفت استعمال هذا المصطلح الخطير، ولعل أهم ما يقدمه هو تحذيره الرؤيوي من أن «معاداة - معاداة السامية» بصيغتها الحالية، قد تتحول إلى آيديولوجيا قمعية تغلق باب النقاش، وتضر في نهاية المطاف باليهود أنفسهم عبر عزلهم عن حلفائهم الطبيعيين في حركات العدالة الاجتماعية، وربط مصيرهم بشكل حصري بسياسات دولة واحدة.

«عن معاداة السامية» كتاب عالي القيمة يدعونا إلى ألا ننصاع للتوظيف الآيديولوجي للمصطلحات، بل علينا مساءلتها وفهم سياقاتها، لضمان ألا تصبح اللغة أداة للقمع بدلاً من كونها وسيلة للفهم، لكنه يتطلب بالضرورة جمهوراً مستعداً للتخلي عن الاستكانة التي توفرها الشعارات الجاهزة، وتقبل تعقيدات التاريخ والسياسة.

عن معاداة السامية: تأريخ للمصطلح

On Antisemitism: A Word in History by Mark Mazower, Allen Lane,2025

المؤلف: مارك مازور

الناشر: ألن لين


كسر الخوف وتحويله إلى «فزّاعة» عاطفية

كسر الخوف وتحويله إلى «فزّاعة» عاطفية
TT

كسر الخوف وتحويله إلى «فزّاعة» عاطفية

كسر الخوف وتحويله إلى «فزّاعة» عاطفية

برغم الحضور البارز لهُوية القرية العُمانية في رواية «الرّوع» للروائي والشاعر العماني زهران القاسمي، فإن البناء النفسي لبطلها «محجان» يبدو هو المحرّك الأعمق للسرد، حيث العالم يُعاد ترتيبه وفق هواجس الداخل، لا وفق تضاريس المكان وحدها.

في الرواية، الصادرة في طبعتها الجديدة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة، يظهر «محجان» بطلاً يُحركه الخوف أكثر من أي دافع آخر، فيصنع «فزّاعة» تحرس مزرعته، ينحتها من خوفه، مستعيناً بالقشّ والقماش والخشب، وكأن الرواية تعيد تمثيل موروث «الفزاعة» التي يلجأ إليها البطل للحماية، إلا أن مُخيلته تدفعه إلى أفق أكثر تشابكاً وتعقيداً؛ أفق يقترب في بنيته من طيف «فرانكنشتاين» لدى ماري شيلي، لا من جهة التشابه السردي، بل من حيث وقوف الإنسان أمام «مصنوعه» مأخوذاً ومفتوناً، فيقف محجان أمام فزاعته كمن يُعاين روحه وقد اكتسبت جسداً، فيقول الراوي: «شيء لا يُصدّق! كيف استطاع أن يصنعه أخيراً بذاك الكمال، تكاد الحياة تدب في أوصاله، والدم يتدفق في عروقه، محدقاً فيه بعشق من وجد ذاته» لتؤول فزّاعة الخشب إلى كائن يرى فيه محجان «هشاشته»، أكثر مما يرى فيه حمايةً لقمحه وسنابله.

مُعادل عاطفي

تفيض لغة الرواية بشِعرية دافقة، تضفي حالة من «الأنسنة» على تلك «الفزّاعة»، وهو ما ينعكس على الحالة العاطفية التي تجمع البطل بها، فهو يرفعها إلى مقام الخِطاب، ويشحنها بملامح أنثوية تستعيد مواريث الحماية في الحضارات القديمة، فيرقّيها من درجة الجماد إلى درجة الإنسية ذات الأثر والنداء، حتى يتجاوز حضورها وظيفتها، ليمنحها منزلة وجدانية، كشريكة لهواجسه، لا مجرد أداة حراسة.

يُطلق البطل على فزّاعته اسم «الرّوع»، الذي جمع فيه كل مواريث الرعب التي مرّت عليه في قريته، فيجد في تلك التسمية مقاماً جامعاً للهيبة والمنعة والردع، يمنحها لجسد من قشّ وخشب وقماش، موكلاً إليها حماية مزرعته، وتنقية ذاكرته من كل مصادر خوفه؛ بداية من كائنات الليل وحتى ثياب العجائز السوداء.

لا تنتهي سيرة «الرّوع» بمجرد صنعها، إذ تتحوّل تدريجياً إلى مُعادل عاطفي يذوب فيه الحدّ بين الحب والخوف، وبين الأمان والفزع، فيختصّ البطل نفسه بالتودد لها، ويعتبرها خازناً لأسراره، يقترب منها مستشعراً مهابتها ورهبتها، وفي مفارقة إنسانية يحتضنها ويبكي فوق كتفها، ويتساءل: «الرّوع زعلانة... أنا السبب»، وذلك في لحظة تبرير لعجزها عن حماية مزرعته، وعندما تقف وحدها في الحقل «باسطة ذراعيها مثل وحشٍ جبار نبت فجأة في المكان»، يتسعّ حضورها ليغدو أقرب إلى هيمنة كائن أسطوري منه إلى هيكل فزّاعة هشة.

شريك وجودي

يقدّم النص بطله المركزي من منظورين متقابلين؛ منظور ذاتي، حيث يبدو كائناً مذعوراً يتخبّط في قلقه الوجودي، ومنظور خارجي، حيث يُرى بعين أهل القرية كشخص مُثير للتندر، ومادة للسخرية وسِهام الأمثال الشعبية؛ فيُضرب به المثل ويُختزل في طول قامته اللافت وفجاجة حضوره، فيُحاصره المثل الشعبي القائل: «الطول طول نخلة والعقل عقل صخلة».

هكذا يتوارى اسمه الحقيقي خلف لقبٍ صار لصيقاً به، حتى غلب اللقب على الاسم، فصار «محجان» كناية عن العصا الطويلة التي تُهزّ بها الأشجار لتتساقط أوراقها فتأكلها الحيوانات، وربما من هذا الازدواج الجارح بين الداخل المرهف والخارج الصلف يتولّد الشرخ المؤسس للرواية، شرخٌ لا يردمه البطل إلا بخلق مُعادل يقيه العالم؛ كائن يصنعه بيديه، يحميه ولا يجرحه، ويؤازره في خوفه.

يتسع أفق السرد من علاقة «محجان» بـ«رّوعه»، التي يفترض بها إخافة الطيور والدواب، إلى تحوّلها عبر مفارقات ميلودرامية إلى مصدر رعب لأهل القرية، فلا تعود مجرد دمية من خشب، بل تصبح شُبهة، ونذير شر، فينسج الأهالي حولها حكايات السِحر، ويُحمّلونها هي وصاحبها «محجان» وزر كل ما يطرأ من شر في قريتهم، فيتحّول «رّوع محجان» من محض «فزّاعة» بائسة لإخافة الطيور، إلى لعنة القرية وبلائها.

في هذا الأفق، لا يبدو الخوف محض شعور يصطحب البطل منذ طفولته «التراجيدية»، التي يعاصر فيها إصابة والده بالعمى بعد سقوطه من نخلة، ليكبر «محجان» رجلاً تسكن مناماته الليلية «الجواثيم»، وتطارده هواجس سرقة قمحه بالنهار، فيؤول الخوف شريكاً وجودياً يتطوّر ويتناسل عبر عديد الصور والتمثيلات، ينبت من موروث دفين في تربة الذاكرة الأولى.

وبرغم عناية زهران القاسمي برسم المعالم المحلية العمانية في روايته، فإن العالم النفسي للبطل يبدو هو قاطرة العمل، بما منحه من خصوصية أبعد من حدود سياقه الثقافي، فتستعيد الرواية مواريث «حرق الأخضر واليابس» كاستعارة للجنون المُغلف بالحكمة، وهو الجنون الذي يدفع البطل لحرق ما وراءه قبل أن يلوذ بالهرب، في مصير ضبابي يمنحه له السارِد، ربما لمنحه أبدية ما، وعمراً أطول من خوفه، وسؤالاً معلقاً؛ كفزّاعة في قلب الريح.

تغدو «الرّوع»، بما تحمله من قشّ وذاكرة، مرآة تكشف الجانب المُعتم في النفس أكثر مما تحرس الحقول، فلا نوقن هل نجا «محجان» أم ظلّ عالقاً في حكاية صنعها بنفسه، لكن سردية الرواية تُعزز ذلك اليقين بأن الخوف حين يُنحت ويُسمى ويُخاطَب، يتحوّل إلى كائن يتنفس، حارساً ينازع صدى قديماً، ورفيقاً لا فكاك منه.


لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية
TT

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام (1931- 1987) والذي يتناول التأثير اللافت لهذا المفكر النمساوي على الفلسفة المعاصرة.

وُلد فتجنشتاين في فيينا لأسرة صناعية ثرية ومثقفة، ثم اتجه إلى دراسة هندسة الطيران في مدينة «مانشستر» الإنجليزية، قبل أن يتخلى عن هذا الاتجاه ويتحول تماماً إلى المنطق والرياضيات في جامعة «كامبريدج» متأثراً بالمفكر البريطاني برتراند راسل الذي أشرف على دراسته للفلسفة. تطوع في جيش بلاده خلال الحرب العالمية الأولى وأمضى فترة معلماً في قرية نمساوية، ثم عاد لاحقاً إلى بريطانيا كأستاذ.

ويعد كتابه «رسالة فلسفية منطقية» أبرز مؤلفاته والذي نُشر لأول مرة عام 1921 ويذهب فيه إلى أن حدود اللغة هي حدود عالمنا، وما لا يمكن التعبير عنه بها يجب الصمت عنه، أما «تحقيقات فلسفية» فنشر بعد وفاته عام 1951 ويؤكد فيه على أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت، وهي الفكرة التي كان لها تأثير بالغ على مجلات أخرى كالأدب وعلم النفس.

ويشير المؤلف إلى أنه حصل على أطروحة الدكتوراه في فلسفة المفكر النمساوي لأن أفكاره كانت نقطة تحول حاسمة في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث ويرجع ذلك إلى أهمية المنهج الذي تبناه، وهو المنهج التحليلي المنطقي، يتناول عبارات اللغة التي نصوغ فيها الأسئلة والمشكلات الفلسفية، حيث أثبت أن معظم هذه المشكلات ليست بمشكلات حقيقية وأنها لم تنتج إلا عن سوء استخدام اللغة.

أصبح إسهام فتجنشتاين أشبه ما يكون بالثورة الهادئة على الفلسفة التقليدية، وذلك لأنها غيرت من مفهومها ومجالها ووظيفتها فأصبحت الفلسفة لديه عبارة عن تحليل للغة وانتقل مجال البحث فيها من البحث في الأشياء في ذاتها كالوجود من حيث هو موجود أو العلة أو المطلق أو الجوهر أو اللامتناهي أو العدم إلى البحث في العبارات والألفاظ التي يقولها الفلاسفة وتحليلها لبيان ما له معنى منها وما لا معنى له، أو لبيان الصحيح منها والخاطئ بناء على اتفاقها أو اختلافها مع قواعد الاستخدام العادي المنطقي. ومن ثم تغيرت مهمة الفلسفة فأصبحت تنصب على تحليل مشكلات الفلسفة بدلاً من إقامة أنساق فكرية أو ميتافيزيقية جديدة. وتأثر بأفكاره بشدة عموم التيار الفكري الوضعي التحليلي.

واعتمد المؤلف في دراسته لفلسفة فتجنشتاين على مؤلفاته نفسها فضلاً عن بعض محاضراته بالجامعة، وكذلك محاضراته الخاصة التي نشرت في الكتابين «الأزرق» و«البني»، وأيضاً ملاحظاته عن المنطق والرياضيات كما رجع كذلك إلى ما نشر من رسائله إلى براترند راسل، ولم يكن ذلك بالمهمة اليسيرة نظراً لصعوبة كتاباته وتعقيداتها حتى إن كثيرين من تلامذته والباحثين عموماً كانوا يصفونه بـ«الفيلسوف المتعب للغاية».

ولد لودفيغ يوهان فتجنشتاين في السادس والعشرين من أبريل (نيسان) 1889 وكان والده مهندساً مرموقاً يشغل منصباً قيادياً في صناعة الحديد والصلب بالنمسا، كما كان لأم فتجنشتين أثر بالغ في خلق الميل الفني القوي في الأسرة، فقد كانت هي وزوجها موسيقيين من الدرجة الأولى حتى لقد أصبح المنزل في وقت ما مركزاً لحياة موسيقية جميلة وخاصة حينما كان يتردد عليهم صديق الأسرة الحميم يوهان برامز، الموسيقار العالمي الشهير.

اهتم فتجنشتاين أثناء دراسته في «كامبريدج» بالفلسفة وبأسس الرياضيات الحديثة اهتماماً كبيراً كما استفاد من النشاط الفكري الضخم الذي كان موجوداً في الجامعة قبيل الحرب العالمية الأولى، إذ كان راسل في أوج تفكيره الفلسفي والمنطقي وأخرج هو وألفريد نورث هوايتهد كتابهما «مبادئ الرياضيات» الذي يعد أحد العلامات المميزة في تاريخ المنطق.

على الرغم من اكتساب فتجنشتاين في إنجلترا للجنسية الإنجليزية، فإنه لم يكن معجباً بأساليب الإنجليز في الحياة كما كان يكره الجو الأكاديمي في كامبريدج في ذلك الوقت وحينما انتهت مدة زمالته في كلية ترينتي عام 1930 فكر في زيارة الاتحاد السوفياتي وزاره بالفعل مع أحد أصدقائه. وحين توفي في 29 أبريل 1951 في منزل الطبيب الذي كان يعالجه في بريطانيا، كانت آخر عبارة قالها لزوجة الطبيب: «قولي لهم إنني قد عشت حياة رائعة».

مال إلى البساطة في كل شيء وكان ذلك واضحاً من ملابسه ومن أثاث حجراته في الجامعة، فلم يكن يتمسك في ملابسه بالطريقة التقليدية مثل الأساتذة بل كان يرتدي دائماً بنطلوناً خفيفاً وقميصاً مفتوح الصدر بلا رباط عنق. وتكشف طريقته في إلقاء محاضراته عن أكثر من جانب من جوانب شخصيته، مثل البساطة والجدية والإخلاص للعمل والحب الشديد للحق وأحياناً الخشونة والجفاء والقسوة.

يؤكد فتجنشتاين أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت

لم تكن محاضراته تأخذ الطابع التقليدي، وإنما كانت أشبه باجتماعات برغم إصراره على تسميتها بالمحاضرات. كان يتكلم بلغة إنجليزية وبلهجة الرجل الإنجليزي المثقف وكان صوته رناناً عالي النبرة، وإن لم يكن منفراً، ولم تكن الكلمات تخرج من فمه متدفقة، بل بعد جهد كبير. وجهه كان سريع الحركة بطريقة ملحوظة كما كان معبراً جداً أثناء الحديث وكانت عيناه عميقتين، وغالباً ما كانتا تحملان شيئاً من القسوة في التعبير.

لم تكن مؤلفات فتجنشتاين كثيرة متعددة حتى إنه لم ينشر في حياته إلا كتاباً واحداً هو «رسالة منطقية فلسفية» ومقالاً له بعنوان «بعض ملاحظات على الصورة المنطقية» وبقية ما نشر عدا ذلك كان كله بعد وفاته.

وأهم ما يلاحظ في كتاباته خلوها تماماً من كل زخرفة أدبية أو رطانة في الأسلوب، فنجدها بسيطة قوية تعتمد على خصوبة الخيال، وهو ما تأثر بها كثير من الأدباء لاحقاً. استخدم التحليل كمنهج في الفلسفة لا كغاية، فهو لا يستهدف التحليل لمجرد تقسيم العالم إلى مجموعة من الوقائع أو رد اللغة إلى عدة قضايا أو رد المعنى إلى طريقة استخدامنا للألفاظ، إنما هو يستخدمه لكي يوصله إلى غاية أبعد من ذلك، وهي توضيح المشكلات الفلسفية التي إذا ما وضع معظمها تحت مجهر التحليل زال عنها كل غموض، واتضح أنها مشكلات زائفة أو أنها ليست بمشكلات أصلاً، على حد تعبيره.

وقد عبر عن هذا المعنى تعبيراً دقيقاً بقوله: «إن معظم القضايا والأسئلة التي كُتبت عن أمور فلسفية ليست كاذبة، بل هي خالية من المعنى، فلسنا نستطيع إذن أن نجيب عن أسئلة من هذا القبيل، وكل ما يسعنا هو أن نقرر عنها أنها خالية من المعنى، فمعظم الأسئلة والقضايا التي يقولها الفلاسفة إنما تنشأ عن حقيقة كوننا لا نفهم منطق لغتنا، فهي أسئلة من نوع السؤال الذي يبحث فيما إذا كان الخير هو نفسه الشيء الجميل على وجه التقريب، وإذن فلا عجب إذا عرفنا أن أعمق المشكلات ليست في حقيقتها مشكلات على الإطلاق».