شانتال ديلسول تهاجم فلسفة ما بعد الحداثة

ضربت عرض الحائط بكل القيم والموازين والمعايير

شانتال ديلسول
شانتال ديلسول
TT

شانتال ديلسول تهاجم فلسفة ما بعد الحداثة

شانتال ديلسول
شانتال ديلسول

أعترف بأني كنت أبحث منذ زمن طويل عن الوجه الآخر لفرنسا، عن الوجه الآخر المشرق والمحترم للفكر الفرنسي دون أن أجده حتى وقعت مؤخراً على مؤلفات الفيلسوفة شانتال ديلسول. وكم كانت فرحتي عارمة بالتعرف على إنجازاتها وتوجهاتها. وتأسفت كثيراً لأني تأخرت في اكتشافها إلى اليوم. كان ينبغي أن أطلع عليها وعلى أفكارها منذ زمن طويل. ولكن كما يقول المثل الفرنسي: «أن تصل متأخراً خيرٌ من ألا تصل أبداً». ولكن هناك سبب آخر لهذا التأخر أو التقصير. في الواقع كنت مبهوراً بفلاسفة ما بعد الحداثة من أمثال ميشيل فوكو وجاك دريدا وجيل ديلوز، وحتى تلامذتهم من أمثال لوك فيري وأندريه كونت سبنوفيل، وهذا الشيطان الرجيم ميشيل أونفري... إلخ. هذا لا يعني أني أنكرهم كلياً أو أني لم أستفد من أفكارهم وإضاءاتهم العديدة. أبداً لا. لكني أخطأت إذ اعتبرتهم الوجه الوحيد للفكر الفرنسي المعاصر أو التيار الوحيد. لا ريب في أنهم يسيطرون على الساحة الباريسية لأن الموضة الدارجة هي هكذا. الريح تمشي في اتجاههم. ودائماً الموضة أو الصرعات الدارجة تخفي عن أنظارنا بقية الصورة.

أولاً دعونا نطرح هذا السؤال: من هي شانتال ديلسول التي لم يسمع بها أحدٌ في العالم العربي على ما أعتقد؟ إنها أستاذة جامعية سوربونية ومشرفة على «مركز الدراسات الأوروبية» في فرنسا. كما أنها عضوة في أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية منذ عام 2007، بل وأصبحت رئيستها عام 2015. وهي أكاديمية عليا تضم كبار الشخصيات الفرنسية والأجنبية. وقد أصدرت كتاباً مهماً بعنوان «نهاية الحضارة المسيحية». وهي تفرق منذ البداية بين المسيحية ديناً والمسيحية حضارةً. فالمسيحية كدين لم تمت ولا يمكن أن تموت ولكنها كحضارة تنظم شؤون المجتمع وتصوغ تقاليده وقيمه وأخلاقه العامة انتهت مؤخراً في فرنسا.

ثم تقول لنا المؤلفة إن الحضارة المسيحية هيمنت على الغرب طيلة 16 قرناً من الزمن بعد اعتناق الإمبراطور الروماني قسطنطين لها واعتبارها دين الدولة. وبعدئذ راحت تصوغ شخصية الغرب وكل قيمه الأخلاقية ومعاييره. لكنها الآن انحسرت للأسف الشديد وحلت محلها فلسفة ما بعد الحداثة المادية الإلحادية الإباحية بشكل مطلق. وهذا الانحسار حديث العهد جداً ولا يعود إلا إلى عشر سنوات أو حتى عشرين سنة خلت على أكثر تقدير (أي منذ مطلع القرن - 2000 أو 2010). قبلها كانت فلسفة ما بعد الحداثة مجرد تيار صاعد من جملة تيارات أخرى. ثم تقول لنا المؤلفة إن فلسفة ما بعد الحداثة قلبت جميع القيم الأخلاقية عاليها سافلها. كيف حصل ذلك؟ على النحو التالي: كانت المسيحية عندما هيمنت على الغرب قبل 1600 سنة قد ألغت معظم القيم الرومانية السابقة عليها. بهذا المعنى كانت المسيحية انقلاباً كاملاً على الحضارة الوثنية للرومان. ينبغي ألا ننسى ذلك. والدليل على ذلك أن الحضارة الوثنية الرومانية كانت تقر بحق الطلاق، وحق الإجهاض، وحق الانتحار. والأخطر من كل ذلك أنها كانت تقر بحق الشذوذ الجنسي أو ما يدعونه الآن بالمثلية. كانت تعتبره شيئاً طبيعياً وعادياً تماماً. ثم جاءت المسيحية وألغت كل ذلك وشطبت عليه بجرة قلم وحرمته شرعاً. لقد قلبت كل القيم الموروثة عن الحضارة الرومانية التي كانت سائدة قبلها. والآن تجيء فلسفة ما بعد الحداثة لكي تقوم بالانقلاب على الانقلاب. بمعنى أنها ألغت القيم الأخلاقية المسيحية وعادت إلى القيم الرومانية. بمعنى آخر فإن أوروبا الغربية لم تعد مسيحية إنما أصبحت وثنية.

ثم تردف المؤلفة قائلة ما معناه: في الماضي وطيلة هيمنة الحضارة المسيحية على الغرب كان الشذوذ الجنسي ممنوعاً منعاً باتاً ومحرماً دينياً. لكنه أصبح الآن في عصر الحداثة (أو ما بعد الحداثة بالأحرى) ليس فقط محللاً ومشروعاً، وإنما محبذ وممجد. لقد أصبح يمثل أعلى درجات الحضارة وأرقاها. صدقوا أو لا تصدقوا أنتم أحرار. أعجبنا هذا الكلام أم لم يعجبنا سيان. اضرب رأسك أيها الكاتب الجاهل في الجدار إذا شئت. أنت مجرد شخص قديم متخلف عن ركب الحضارة والعصر. أنت عاجز عن مسايرة التقدم والتطور... إلى الجحيم أيها المثقف الرجعي المنقرض أو المرشح للانقراض.

والسؤال المطروح الآن هو التالي: كيف حصل ذلك؟ كيف وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم من تدهور حضاري مريع في أرقى مجتمعات العالم وأكثرها تقدماً؟ كيف أصبح زواج الرجال بالرجال مفخرة المفاخر في أوروبا؟ شيء مذهل. شيء يدوخ العقول. هذا إذا بقيت عقول. (بين قوسين في أوروبا الغربية فقط لا الوسطى ولا الشرقية التي ظلت لحسن الحظ مسيحية تحترم القيم الإنجيلية الأخلاقية والمثالية العليا). ولكن هذا الانحطاط المريع لا ينتهك القيم الدينية فقط إنما ينتهك أيضاً القيم العلمانية الكانطية التي تحترم الفطرة السليمة والحس الصائب. ومعلوم أن كانط (أكبر فيلسوف في الغرب) كان قد أدان الشذوذ إدانة قاطعة مانعة واعتبره فضيحة كبرى أو «عاراً وشناراً»، حسب تعبيره الحرفي. ثم نشرت الفيلسوفة شانتال ديلسول مقالاً صاعقاً في جريدة «ألفيغارو» بعنوان: «لا للزواج المثلي الشذوذي». لا وألف لا لأنه يهدد العائلة الفرنسية بل والمجتمع الفرنسي كله في الصميم. وكان ذلك يمثل شجاعة خارقة لأن كل التيار الجارف في فرنسا كان مع هذا الزواج الذي صوّت عليه البرلمان شرعاً. بالتالي فمن يقف ضده كان يخاطر بنفسه. أقصد تيار النخب الإعلامية والأضواء التلفزيونية وليس الشعب الفرنسي العميق الذي نزل بالملايين احتجاجاً على هذا القانون الجنوني. هل تعلمون أن كبار فلاسفة فرنسا كانوا يزايدون على بعضهم بعضاً بخصوص هذه المسألة. كل واحد كان يريد أن يثبت أنه مؤيد للزواج المثلي الشذوذي أكثر من سواه حتى ولو لم يكن هو ذاته مثلياً شذوذياً... هذا ما فعله للأسف لوك فيري وأندريه كونت سبونفيل وبالطبع ميشيل أونفري. وهذا الأخير ألف كتاباً ضخماً عن «الانحطاط» الفرنسي دون أن يقول كلمة واحدة عن الشذوذ الجنسي الذي لا يعتبره علامة على الانحطاط أبداً. بل يعتبره قمة القمم الأخلاقية والحضارية. لكنه بالمقابل شن حملة شعواء على المسيحية وفككها تفكيكاً ودمرها تدميراً حتى لكأن فرنسا تعاني من الأصولية القروسطية الظلامية، حتى لكأن فرنسا هي أفغانستان الطالبانية... نقول ذلك ونحن نعلم أن المسيحية لم يعد لها أي وجود قمعي أو إكراهي في فرنسا. بل ولم تعد موجودة تقريباً. وهي خائفة حتى من ظلها. وفي كل يوم يستهزئون بها وبشخصياتها وعقائدها على شاشات التلفزيون. لم يعد للأصولية المسيحية التكفيرية أي وجود بعد انتصار التنوير في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ومع ذلك فإن هذا العبقري ميشيل أونفري لا يجد عدواً له إلا المسيحية دين آبائه وأجداده. لماذا تثقب أبواباً مفتوحة يا رجل؟ لماذا تتعب نفسك بمشكلة حلها فولتير قبلك منذ 250 سنة على الأقل؟

أخيراً تقول لنا السيدة شانتال ديلسول ما فحواه: نعم للحداثة التنويرية التي أنقذتنا من براثن الأصولية التكفيرية والإكراه في الدين ومحاكم التفتيش. لكن لا وألف لا لفلسفة ما بعد الحداثة المتطرفة الهوجاء التي ضربت عرض الحائط بكل القيم والموازين والمعايير. وهي فلسفة عدمية تساوي كل شيء بكل شيء: الأبيض والأسود سيان، الجنس الطبيعي والجنس الشذوذي المثلي سيان... إلخ. بل وحتى العائلة الطبيعية المؤلفة من أب وأم وأطفال وحنان أصبحت معتبرة رجعية متخلفة في عصر ما بعد الحداثة. ما هي العائلة التقدمية إذًا؟ إنها العائلة المشكلة من رجلين متعاشرين أو متباضعين وبينهما مجموعة أطفال مشترين بالفلوس عن طريق استئجار بطون النساء الحوامل مقابل 60 ألف دولار لكل طفل (وهذا هو معنى: الحَبَل من أجل الآخرين). ثم يسحبونه من تحتها ما إن ينزل من بطنها لكيلا تتعلق به. جريمة حقيقية. احتقار رأسمالي متغطرس وقح لأجمل عاطفة وأنبل عاطفة وأقدس عاطفة على وجه الأرض: عاطفة الأمومة. هذه هي العائلة الشذوذية الرائعة (عائلة ما بعد الحداثة) التي حلت محل العائلة الرجعية التقليدية السابقة التي عفا عليها الزمن. لاحظوا ما أجمل هذه العائلة. لاحظوا ما أرقاها. لاحظوا ما أحلاها. هذا آخر ما توصلت إليه عبقرية هذه الفلسفة الشوهاء المشوهة المدعوة بفلسفة ما بعد الحداثة.


مقالات ذات صلة

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

في سياق الاهتمام المتنامي في العالم العربي عموماً، وفي البلدان الخليجيّة خصوصاً، تبرز «موسوعة الفلسفة الفرنسيّة المعاصرة».

مالك القعقور

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية
TT

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام (1931- 1987) والذي يتناول التأثير اللافت لهذا المفكر النمساوي على الفلسفة المعاصرة.

وُلد فتجنشتاين في فيينا لأسرة صناعية ثرية ومثقفة، ثم اتجه إلى دراسة هندسة الطيران في مدينة «مانشستر» الإنجليزية، قبل أن يتخلى عن هذا الاتجاه ويتحول تماماً إلى المنطق والرياضيات في جامعة «كامبريدج» متأثراً بالمفكر البريطاني برتراند راسل الذي أشرف على دراسته للفلسفة. تطوع في جيش بلاده خلال الحرب العالمية الأولى وأمضى فترة معلماً في قرية نمساوية، ثم عاد لاحقاً إلى بريطانيا كأستاذ.

ويعد كتابه «رسالة فلسفية منطقية» أبرز مؤلفاته والذي نُشر لأول مرة عام 1921 ويذهب فيه إلى أن حدود اللغة هي حدود عالمنا، وما لا يمكن التعبير عنه بها يجب الصمت عنه، أما «تحقيقات فلسفية» فنشر بعد وفاته عام 1951 ويؤكد فيه على أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت، وهي الفكرة التي كان لها تأثير بالغ على مجلات أخرى كالأدب وعلم النفس.

ويشير المؤلف إلى أنه حصل على أطروحة الدكتوراه في فلسفة المفكر النمساوي لأن أفكاره كانت نقطة تحول حاسمة في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث ويرجع ذلك إلى أهمية المنهج الذي تبناه، وهو المنهج التحليلي المنطقي، يتناول عبارات اللغة التي نصوغ فيها الأسئلة والمشكلات الفلسفية، حيث أثبت أن معظم هذه المشكلات ليست بمشكلات حقيقية وأنها لم تنتج إلا عن سوء استخدام اللغة.

أصبح إسهام فتجنشتاين أشبه ما يكون بالثورة الهادئة على الفلسفة التقليدية، وذلك لأنها غيرت من مفهومها ومجالها ووظيفتها فأصبحت الفلسفة لديه عبارة عن تحليل للغة وانتقل مجال البحث فيها من البحث في الأشياء في ذاتها كالوجود من حيث هو موجود أو العلة أو المطلق أو الجوهر أو اللامتناهي أو العدم إلى البحث في العبارات والألفاظ التي يقولها الفلاسفة وتحليلها لبيان ما له معنى منها وما لا معنى له، أو لبيان الصحيح منها والخاطئ بناء على اتفاقها أو اختلافها مع قواعد الاستخدام العادي المنطقي. ومن ثم تغيرت مهمة الفلسفة فأصبحت تنصب على تحليل مشكلات الفلسفة بدلاً من إقامة أنساق فكرية أو ميتافيزيقية جديدة. وتأثر بأفكاره بشدة عموم التيار الفكري الوضعي التحليلي.

واعتمد المؤلف في دراسته لفلسفة فتجنشتاين على مؤلفاته نفسها فضلاً عن بعض محاضراته بالجامعة، وكذلك محاضراته الخاصة التي نشرت في الكتابين «الأزرق» و«البني»، وأيضاً ملاحظاته عن المنطق والرياضيات كما رجع كذلك إلى ما نشر من رسائله إلى براترند راسل، ولم يكن ذلك بالمهمة اليسيرة نظراً لصعوبة كتاباته وتعقيداتها حتى إن كثيرين من تلامذته والباحثين عموماً كانوا يصفونه بـ«الفيلسوف المتعب للغاية».

ولد لودفيغ يوهان فتجنشتاين في السادس والعشرين من أبريل (نيسان) 1889 وكان والده مهندساً مرموقاً يشغل منصباً قيادياً في صناعة الحديد والصلب بالنمسا، كما كان لأم فتجنشتين أثر بالغ في خلق الميل الفني القوي في الأسرة، فقد كانت هي وزوجها موسيقيين من الدرجة الأولى حتى لقد أصبح المنزل في وقت ما مركزاً لحياة موسيقية جميلة وخاصة حينما كان يتردد عليهم صديق الأسرة الحميم يوهان برامز، الموسيقار العالمي الشهير.

اهتم فتجنشتاين أثناء دراسته في «كامبريدج» بالفلسفة وبأسس الرياضيات الحديثة اهتماماً كبيراً كما استفاد من النشاط الفكري الضخم الذي كان موجوداً في الجامعة قبيل الحرب العالمية الأولى، إذ كان راسل في أوج تفكيره الفلسفي والمنطقي وأخرج هو وألفريد نورث هوايتهد كتابهما «مبادئ الرياضيات» الذي يعد أحد العلامات المميزة في تاريخ المنطق.

على الرغم من اكتساب فتجنشتاين في إنجلترا للجنسية الإنجليزية، فإنه لم يكن معجباً بأساليب الإنجليز في الحياة كما كان يكره الجو الأكاديمي في كامبريدج في ذلك الوقت وحينما انتهت مدة زمالته في كلية ترينتي عام 1930 فكر في زيارة الاتحاد السوفياتي وزاره بالفعل مع أحد أصدقائه. وحين توفي في 29 أبريل 1951 في منزل الطبيب الذي كان يعالجه في بريطانيا، كانت آخر عبارة قالها لزوجة الطبيب: «قولي لهم إنني قد عشت حياة رائعة».

مال إلى البساطة في كل شيء وكان ذلك واضحاً من ملابسه ومن أثاث حجراته في الجامعة، فلم يكن يتمسك في ملابسه بالطريقة التقليدية مثل الأساتذة بل كان يرتدي دائماً بنطلوناً خفيفاً وقميصاً مفتوح الصدر بلا رباط عنق. وتكشف طريقته في إلقاء محاضراته عن أكثر من جانب من جوانب شخصيته، مثل البساطة والجدية والإخلاص للعمل والحب الشديد للحق وأحياناً الخشونة والجفاء والقسوة.

يؤكد فتجنشتاين أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت

لم تكن محاضراته تأخذ الطابع التقليدي، وإنما كانت أشبه باجتماعات برغم إصراره على تسميتها بالمحاضرات. كان يتكلم بلغة إنجليزية وبلهجة الرجل الإنجليزي المثقف وكان صوته رناناً عالي النبرة، وإن لم يكن منفراً، ولم تكن الكلمات تخرج من فمه متدفقة، بل بعد جهد كبير. وجهه كان سريع الحركة بطريقة ملحوظة كما كان معبراً جداً أثناء الحديث وكانت عيناه عميقتين، وغالباً ما كانتا تحملان شيئاً من القسوة في التعبير.

لم تكن مؤلفات فتجنشتاين كثيرة متعددة حتى إنه لم ينشر في حياته إلا كتاباً واحداً هو «رسالة منطقية فلسفية» ومقالاً له بعنوان «بعض ملاحظات على الصورة المنطقية» وبقية ما نشر عدا ذلك كان كله بعد وفاته.

وأهم ما يلاحظ في كتاباته خلوها تماماً من كل زخرفة أدبية أو رطانة في الأسلوب، فنجدها بسيطة قوية تعتمد على خصوبة الخيال، وهو ما تأثر بها كثير من الأدباء لاحقاً. استخدم التحليل كمنهج في الفلسفة لا كغاية، فهو لا يستهدف التحليل لمجرد تقسيم العالم إلى مجموعة من الوقائع أو رد اللغة إلى عدة قضايا أو رد المعنى إلى طريقة استخدامنا للألفاظ، إنما هو يستخدمه لكي يوصله إلى غاية أبعد من ذلك، وهي توضيح المشكلات الفلسفية التي إذا ما وضع معظمها تحت مجهر التحليل زال عنها كل غموض، واتضح أنها مشكلات زائفة أو أنها ليست بمشكلات أصلاً، على حد تعبيره.

وقد عبر عن هذا المعنى تعبيراً دقيقاً بقوله: «إن معظم القضايا والأسئلة التي كُتبت عن أمور فلسفية ليست كاذبة، بل هي خالية من المعنى، فلسنا نستطيع إذن أن نجيب عن أسئلة من هذا القبيل، وكل ما يسعنا هو أن نقرر عنها أنها خالية من المعنى، فمعظم الأسئلة والقضايا التي يقولها الفلاسفة إنما تنشأ عن حقيقة كوننا لا نفهم منطق لغتنا، فهي أسئلة من نوع السؤال الذي يبحث فيما إذا كان الخير هو نفسه الشيء الجميل على وجه التقريب، وإذن فلا عجب إذا عرفنا أن أعمق المشكلات ليست في حقيقتها مشكلات على الإطلاق».


«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية
TT

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل في حياة ومسيرة عدد من المبدعين والمفكرين والفنانين المؤثرين في مجالاتهم، مستخدماً الصورة القلمية في رسم ملامحهم الثقافية والشخصية، مازجاً المعلومة بالتأويل، ومطوفاً حول عدد من الرموز الثقافية منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهايات القرن العشرين، في مجالات معرفية مختلفة، كنوع من التحية لهم ولمنجزهم وتراثهم، الذي يمثل زاداً ثقافياً مهماً لمن جاء بعدهم من أجيال لاحقة، حتى لو اختلفوا مع تلك المنجزات.

الكتاب الصادر في القاهرة عن «دار المعارف» يبتعد فيه مؤلفه عن الكتابة الأكاديمية والنقدية التي يتوقعها القارئ من ناقد وأكاديمي، مفضلاً أن يقدم أسلافه عبر لغة رشيقة ومكثفة، لا تخلو من التقدير والإعجاب والتأثر بهؤلاء الرموز، لكن دون تقديس، يقول في المقدمة: «لم يتحمس الكتاب للشخصيات وإن لم ينكر محبتها، ولم يرتد ثوب الدفاع عنها، وإن اعترف بوجود مثالب فيها، وتعامل مع العيوب والنقائص بوصفها جزءاً من طبيعتها البشرية، وركز على أبعاد الإنجاز لديها، واعتبرها مكمن التميز وسط أمواج من العاديين»، فقد حاول الجابري رسم صور لشخصيات احتلت في قلوب الأجيال وعقولها مكانة رائقة، لاستكشاف مفتاح كل شخصية.

يقدم الكتاب بورتريهات عن 16 شخصية ثقافية شهيرة، هم: أمينة السعيد، مي زيادة، جمال الدين الأفغاني، رجاء النقاش، سهير القلماوي، عبد الحميد جودة السحار، عبد الرحمن شكري، لطيفة الزيات، أحمد أمين، يحيى حقي، محمد عبده، جورجي زيدان، أسامة أنور عكاشة، سعد الله ونوس، ميخائيل نعيمة، وعاطف الطيب.

يبدأ الكتاب ببورتريه عن الصحافية المصرية الرائدة، والناشطة النسوية، أمينة السعيد، التي كانت ضمن أول دفعة جامعية تضم فتيات، والتي ترأست دار الهلال العريقة، فكانت أول امرأة تترأس مؤسسة صحافية، وتولت رئاسة تحرير مجلة «حواء»، كما كانت وكيلة نقابة الصحافيين في سابقة لا تتكرر كثيراً. وبعيداً عن الصحافة، كتبت القصة القصيرة، وكانت في أعمالها الأدبية تركز على المثالب الاجتماعية ونقد المجتمع ومشكلاته ومناقشة عاداته المتجمدة وعيوبه الداخلية. ويركز المؤلف على علاقتها بأبيها الذي أصر على أن تكمل دراستها الجامعية ولا تتزوج قبل إنهائها، وكان هذا وعدها له، ثم علاقته بزوجها بعد ذلك، ويرى الجابري أنه بسبب هذه العوامل «لا تجد عند أمينة السعيد نزق النسويين الجدد، أو كراهية مخبوءة للرجل دون داع».

وينتقل الكتاب إلى مي زيادة، وأثرها في الحياة الثقافية العربية، رغم محاولة حبسها في الرسائل المتبادلة بينها وبين العديد من المثقفين، ويرى المؤلف أن مي «لم يجن عليها شيء مثل انفتاحها على الآخرين فتعددت صورها، حتى لم يبق إلا ظلال لا تعكس شيئاً قاطعاً، فمي التي رسمها العقاد تختلف عن التي رسمها شبلي شميل، عن صورتها لدى الأب أنستاس الكرملي، عنها لدى الرافعي وطه حسين وسلامة موسى ولطفي السيد وولي الدين يكن وأنطون الجميل وغيرهم. لقد اقتربوا جميعاً منها، وكل منهم رآها من وجهة نظره هو، فظن أن روايته هي الزاوية الفاصلة الحقيقية الوحيدة، حتى كأن الإنسانة ليس لها وجود، وإنما هناك وجود لظلالها، وانعكاسات لرسمها، وأشكال لسطورها على الورق».

ويبدأ بورتريه جمال الدين الأفغاني بمشهد شديد الجدة، وهو مشهد أحفاده وهم يتعلقون بالطائرة الأميركية هرباً مما يخشون منه في بلادهم، ورغبة في الهرب منها فوق طائرة المستعمر، في حين كان جدهم الأفغاني يحمل على عاتقه طوال مسيرته مناهضة الاستعمار، وانتقل بين مصر والهند وعدة دول أخرى منادياً بالتحرر من الاستعمار، ويعرج المؤلف على جهوده في الصحافة والفكر والتجديد، وعلاقته بتلاميذه مثل الإمام محمد عبده وغيره، وكراهية الحكام له، وطرده من أكثر من بلد، لأنه كان مصدر خطر لكثير منهم، ويرتابون في وجوده في بلادهم.

ينتقل الكتاب بعد ذلك للناقد والصحافي المصري رجاء النقاش، المعروف عنه أنه كان مكتشف الأصوات الإبداعية الجديدة، فقد كتب عن الطيب صالح ومحمود درويش في بداياتهما، وكانت كتابته النقدية نموذجاً للتوسط بين الأكاديمية الجافة والتغطية الصحافية السريعة، وكتب عن الشعر والقصة والرواية والمسرح، وقد ترأس مجلتي الهلال والكواكب في مصر، و«الراية» و«الدوحة» في قطر، وتنقل بين صحف ومجلات روزاليوسف والأخبار، وأحيا الصحافة الثقافية بعد ركودها لفترة.

وفي بورتريه عن الأكاديمية والناقدة سهير القلماوي، يرصد الجابري مواطن رياداتها المتعددة وقتالها على جبهات لا تنتهي، فقد كانت أول فتاة تحصل على الماجستير تحت إشراف طه حسين في جامعة القاهرة، فكانت تلميذته النجيبة، وسافرت إلى فرنسا لإعداد رسالتها للدكتوراه عن «ألف ليلة وليلة»، وقد كافحت للاعتراف بالأدب الشعبي إلى جوار الآداب الرسمية، كما كانت أول أستاذة في جامعة القاهرة وأول امرأة تتولى رئاسة قسم اللغة العربية، وأول رئيسة للهيئة العامة للكتاب، وهي التي أطلقت معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1969، كما كانت لها الريادة في أدب الأطفال، والكتابة فيه، والمطالبة بالاهتمام به، فضلاً عن حضورها الثقافي خارج جدران الجامعة، ومحاولة مواكبة أحدث المناهج النقدية التي كانت جديدة آنذاك.

ويرسم الكتاب صورة للكاتبة والمترجمة والمناضلة اليسارية الدكتورة لطيفة الزيات، التي «جسدت حياتها مرحلة من الجهد النسائي، حتى شكلت حضوراً طاغياً لوجوهها المتعددة؛ مناضلة سياسية أو مترجمة أو أستاذة جامعية أو مبدعة سرد من عيار فريد»، ويتوقف عند أهمية عدد من أعمالها الأدبية والسيرية مثل «الباب المفتوح» و«الشيخوخة» و«حملة تفتيش» و«أوراق شخصية» و«صاحبة البيت» و«الرجل الذي عرف تهمته»، وكذلك عند منهجها في النقد.

وعن يحيى حقي، الموظف ذي الأصول التركية والهوى الصعيدي، يقول إنه خرج من تجربة عمله في وزارة الخارجية برؤية أكثر اتساعاً، فزار تركيا وإيطاليا وفرنسا والسعودية، بما أتاح بعداً إنسانياً واضحاً لتجربته، تجاور فيها الغربي مع غيره من التأثيرات، هذا الخليط الذي جمع المتفرقات، فتعلم التركية والألمانية والإيطالية، مضيفاً إلى الموروث المصريٍ نظيره العربي، الذي يحل بالقوة داخل الوعي المصري وظواهره، وكلك أثر الثقافة العربية على سواها.

وتتوالى البورتريهات التي تحاول التقاط ما هو جوهري في كل شخصية من التي يتناولها الكتاب، بعناوين تحاول تلخيص روح كل شخصية، مثل «عبد الحميد جودة السحار... حتمية التقاء السينما بالأدب»، و«عبد الرحمن شكري... الرائد المنسي والمنسحب النبيل»، و«أحمد أمين يسدد الكثير من ديون التراث»، و«الإمام محمد عبده الإصلاحي الذي رحل سريعاً»، و«جورجي زيدان أو الناهض للتحيزات»، و«أسامة أنور عكاشة... سيناريست بدرجة مناضل»، و«سعد الله ونوس... أمواج مسرحية وموسيقار كبير»، و«ميخائيل نعيمة والتمرد على النمط»، و«عاطف الطيب... العزف بالكاميرا».


صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر
TT

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض، عن الغياب والبحث عن الحكايات التي تقال، وتلك التي تظل مدفونة في الحجر والجسد والخرائط القديمة، عبر سرد يمتزج فيه التاريخ بالأسطورة، والسياسة بالروح، والقرية بالميناء، في نسيج سردي نابض بالحياة، ويلامس أسئلة الإنسان الكبرى: عن العدالة والخلاص والمعنى.

في مصر أثناء القرن التاسع عشر، بين انتشار الطاعون، والصراع الخفي بين الإمبراطوريات، يصل الطبيب الإنجليزي كامبل إلى الإسكندرية، باحثاً عن رائحة الأرض الحقيقية، وحقيقة نفسه الممزقة بين الحنين والخسارة، إذ تلاحقه ذكرى ابنته «ليزا» التي اختفت مع أمها، ويقوده قدره إلى أعماق مجتمع مكلوم، تتشابك فيه خرافات الخلاص مع يقين العلم، وتلتبس فيه المعجزة بالداء. وفي قلب هذا العالم، يقف الروزنامجي، كاتب الضرائب الذي يعرف كيف تباع القرى وتوزع الأحلام، ليسجل بأمانة زائفة تقسيم البلاد والعباد.

الرواية حافلة بالشخصيات مختلفة المرجعيات الثقافية والاجتماعية والعرقية والدينية، بما يجعلها ساحة للحوار والجدل الثقافي والسياسي، خصوصاً في لحظات سياسية مأزومة، ووباء يطارد الجميع، فضلاً عن الأزمات الشخصية والوجودية لكل منهم، وتساؤلاته الروحية العميقة، وتتوزع الأحداث على خمسة فصول رئيسة، كل منها له عنوان، وهي: كامبل الإنجليزي، حياة النفوس، دلال الحبشية، المتصاحبون، الروزنامجي. وعلى مدار هذ الفصول يتنامى الصراع على السلطة والوجود والأفكار والمكتسبات، بل على الحياة، إذ تفتتح الرواية أحداثها على الوباء وانتشاره، واحتجاز الناس في محجر صحي انتظاراً للموت الذي يفتك بهم، دون العثور على دواء مناسب يعطي بعضاً من الأمل، وفي ظل هذه الأجواء يتصارع الوعي الخرافي والعقل العلمي.

يذكر أن هشام البواردي روائي مصري، من مواليد 1977 بمحافظة المنصورة، شمال القاهرة، وحاصل على بكالوريوس الصيدلة من جامعة الأزهر عام 2000، وحصل على المركز الأول في مسابقة إحسان عبد القدوس الأدبية عن روايته «الحياة عند عتبات الموت»، كما وصلت روايته «الرجل النملة» للقائمة القصيرة لجائزة ساويرس الأدبية عام 2017.

من أجواء الرواية: «تحولت الأمتعة والملابس إلى كتلة من رماد أسود، يعبث به الهواء ويطير، أمرهم كامبل ألا يدخلوا الدير مرة أخرى، وألا يقربوه، وألا يقيموا حتى صلواتهم على عتباته، وأن يتفرقوا في الأرض لو أحبوا. فزعوا من طلبه، وجُنُّوا حين طالبهم بإحضار الجير والتحاريق حتى يطهر الدير. فتح حقيبته وبحث عن قلم، عن دهان، عن لون يرسم به العلامة النكدة على بابه، وأخبرهم أن المكان موبوء، ويجب فعل هذا حفاظاً على الإنسان والحياة. اندفع الرهبان، جميعهم، ناحية كامبل، وحملوه، وقذفوا به بعيداً عن باب الدير. وتسلح كل واحد منهم بكل ما استطاع من أسلحة للاعتداء عليه لو نهاهم، وقالوا في نفس واحد: من أنت حتى تحظر بيت الرب وتمنع الخراف من دخوله؟! لم تقدر على فعل شيء للخادم أيها العاجز، فلتفعل شيئاً يُذهب الطاعون، لو تقدر».