«المعرض المغاربي للكتاب» يجمع 120 مثقفاً حول طاولاته المستديرة

منصّة بعنوان «أن نقيم في العالم ونكتبه»

جلسة ناقشت محور الموجة والرواية
جلسة ناقشت محور الموجة والرواية
TT

«المعرض المغاربي للكتاب» يجمع 120 مثقفاً حول طاولاته المستديرة

جلسة ناقشت محور الموجة والرواية
جلسة ناقشت محور الموجة والرواية

تجربة تستحق الاهتمام تلك التي يخوضها «المعرض المغاربي للكتاب» في وجدة، حيث يغتنمها المنظمون مناسبةً لإقامة أنشطة تثقيفية، وحوارات شيقة، وورش فنية، لا بل إن البرنامج المرافق بغناه، يكاد يفوق المعروضات أهمية.

يمكن القول إن هذا المعرض في وجدة، في دورته الخامسة التي انتهت في 12 من الشهر الحالي، شهد من الطاولات المستديرة والنقاشات الجادة والعميقة، هي من بين الأدسم والأكثر حيوية التي يمكن أن تحضرها في مناسبة كهذه، إضافةً إلى قراءات وشهادات، وتدريبات، وتوقيعات، وتقديم كتب، وتكريمات، ومقاطع تمثيلية تثقيفية جابت المعرض.

فبينما أنت تتجول بين الأجنحة، يخرج عليك ابن بطوطة متحدثاً عن رحلاته، بقامته الممشوقة وعصاه التي يتوكأ عليها. وقد يطل على الزوار مارتن لوثر كينغ الابن، مستعيداً مقاطع من حياته، أو عبد الرزاق قرنح، صاحب نوبل للآداب عام 2021، متحدثاً عن كتاباته وهجرته التي طالت. وبين الشخصيات التي تفاجئك في المعرض خناثة بنت بكار، وإسحاق نيوتن، ولا تستغرب أن ترى ياسر عرفات، الذي يطل كشخصية رمزية في خضم استذكار فلسطين. فكرة نيّرة تعود للممثل أمين مقلّش، خريج المعهد العالي للفنون المسرحية، الذي أخرج هذا العمل ويشارك فيه مع ممثلين محترفين في أداء الأدوار. وهي مجرد نواة سيجري تطويرها، لتتبلور تدريجياً، وتجد تحولاتها الفنية في المعارض المقبلة. وقدم الممثلون عرضاً مشتركاً، احتلت فيه الشخصيات كلها خشبة مسرح محمد السادس، يوم الافتتاح، حيث اجتمعت في عمل واحد، استُخدمت فيه المؤثرات الصوتية وفيديوهات أُعدت بواسطة الذكاء الاصطناعي جعلت الشخصيات كأنها تتحرك في فضاءات حقيقية.

استقبل المعرض عشرات المثقفين من روائيين ومترجمين ونقاد وشعراء وصحافيين، عرباً وأجانب، أدلوا بدلوهم، وأسهموا في إثراء محاور جرى اختيارها بعناية، بحيث تفتح آفاقاً جديدة، لمواضيع قليلاً ما يتم التطرق إليها، بحيث حرص المنظمون على تعددية الآراء في الجلسة الواحدة، مما خلق ديناميكية وحيوية لافتتين.

أكثر من عشرين جلسة توزعت بين العربية والفرنسية على مدار خمسة أيام، خاضت في هموم أدبية وفكرية من بينها «الموجة والرواية»، حيث ناقش المشاركون بإدارة الكاتبة والإعلامية سعيدة شريف، إن كانوا كتبوا رواياتهم مسايرةً للموجة، أم استجابةً لرغبة أدبية؟ نفى الشاعر والروائي محمد الأشعري أن يكون قد ركب الموجة، وهو الذي كتب أول قصة قصيرة عام 1967، وكان لا يزال في المرحلة الإعدادية.

وتحدث عن فوز روايته «القوس والفراشة» بجائزة البوكر، وطُبعت على الأثر، خمس طبعات، لكن النسخ في مجملها لم تتجاوز عشرين ألفاً. مما يعني أن تأثير الجوائز على القرَّاء ليس بالقدر الذي نتصوره، وقرّاء الرواية ليسوا بالعدد الذي يُحكى عنه. كما ذكر أن عدد الروايات كان قليلاً في السابق، والآن تصل إلى لجان الجوائز بالمئات، ولكن ما التأثير الذي أحدثته؟ «لا كبيرَ تأثيرٍ؛ إذ لا جسور بين الإنتاج والنقد، ولا بين الرواية والتلفزيون. نحن أمام تطور كمّي، يقابله مدح بلاغي». وأضاف: «شاركت في تحكيم البوكر، وأؤكد أن التفاوت بين الروايات كبير جداً، والغالبية متعِبة ومُضجِرة، ولا تُقرأ»، منتهياً بالقول: «ليست هناك موجة».

في نفس الجلسة شارك الروائي السوداني عبد العزيز بركة ساكن، الذي يعد نفسه منفياً في النمسا، بعد المنع والقمع اللذين تعرض لهما في بلاده. وما يحلم به هو العودة إلى قريته.

وجرى نقاش حول إذا ما كانت هناك رواية عربية، معتبراً أن «الأدوات الروائية واحدة مهما اختلفت اللغة، وبالتالي ليست هناك رواية عربية أو رواية إسبانية، وإلا فكيف تصنَّف الرواية التي يكتبها عرب بالفرنسية أو الإنجليزية؟»، خالصاً إلى أن «الرواية لا تنتمي إلا إلى صاحبها بصرف النظر عن اللغة التي تُكتب بها». وهو ما أثار حفيظة الروائية التونسية أميرة غنيم، التي هي أستاذة جامعية في قسم الأدب العربي، معتبرةً أن «الرواية التي تُكتب بالعربية تنتمي إلى لغتها. مع مرور الوقت لا أحد يتذكر أو يهتم بجنسية الكاتب وإنما باللغة التي كتب بها. فمن يتذكّر أن (كليلة ودمنة) تُرجمت عن الهندية، أو أن سيبويه أصله فارسي؟ فالكتابة بلغة ما هي مساهمة في تطويرها وإسهام في ثقافتها». وردَّت أميرة غنيم على من يتهمون الرواية بأنها لا تؤثر في المجتمع بالقول: «لماذا لا نسأل عن تأثير كتب التاريخ والألسنيات أو العلوم؟»، معتبرة أن الحديث عن موجة روائية، فيه توصيف سلبي، لأن «الموجة تحكمها قوانين المد والجزر، وتخلّف زبداً». «الظروف هي التي تسهم في اختيارنا للشكل، روايةً أم شعراً»، قال الروائي السوري سومر شحاده، في معرض رده على تهمة ركوب الموجة. وشرح أنه بدأ بكتابة الشعر، ثم كتب رواية عام 2009 مستوحاة من «طوق الحمامة» وفكرة النظرة الأولى. «بعد ذلك شعرت بأنني في بلد مهدَّد، وأنا من جيل، كُثرٌ من أصدقائي ماتوا في الحرب بعد عام 2011، ولأنني كنت تحت ضغط القمع يومها، غابت السياسة عن رواياتي، وصرت أكتب عن أثرها في الناس». كل من المشاركين في هذا المحور شرح أنه يكتب رواية رداً على حاجة ذاتية، وإن اختلفوا في أمور عديدة أخرى.

من ميزات هذه الطاولات المستديرة اعتمادها الحوار الحي والعفوي، وإعفاء الجمهور من الكلمات المطوَّلة والدراسات المملة، وجعل المشاركين يتحدثون عن زبدة أفكارهم وتجاربهم بتلقائية. وهو ما أغنى الجلسات، وأتاح الفرصة أمام الحضور لطرح أسئلتهم، وإغناء النقاش. وإن كان يستحيل الحديث عن نحو عشرين جلسة، فإن موضوع «في البحث عن الإعلام الثقافي» أثار أيضاً اهتمام الجمهور، وأثار أسئلة وفضولاً؛ إذ شارك فيه عدد من الصحافيين في المجال الثقافي، حاورتهم الإعلامية المغربية سعيدة شريف. وتوافق المشاركون على تراجع الاهتمام بالمادة الثقافية في الصحافة والإعلام العربيين، لكن ثمة من ألقى باللوم على التحولات التكنولوجية، وانصراف القارئ إلى التسطيح، ومن رأى أن ثمة إهمالاً غير مبرَّر. وهناك من اشتكى من محدودية مساحة الحرية.

وجود الإعلامي التلفزيوني جمال بودومة، مع الصحافي اليمني الذي يدير تحرير مجلة «الفيصل»، إلى جانب الصحافي المصري ياسر عبد الحافظ الذي يرأس تحرير «أخبار الأدب»، أضفى تنوعاً على المشهد الذي أطلَّ منه كل منهم، وهو يحاول أن يشخِّص الدَّاء، للعثور على وصفة للخروج من المأزق.

من ميزات هذه الطاولات المستديرة اعتمادها الحوار الحي والعفوي وإعفاء الجمهور من الكلمات المطولة والدراسات المملة

كان ثمة طاولات حملت عناوين: «مرايا الترجمة»، و«العالم سينما»، و«الشعر في الزمن الرقمي»، و«مَن قارئ اليوم؟»، و«فلسطين أفقاً للفكر والإبداع»، و«الإبداع يأتي من جهة الشرق». هناك أيضاً طاولة «في انتظار الناقد»، والعنوان وحده يكفي ليحرّض على الكلام، شارك فيها عبد الرحمن طنكول، وأحمد زين، ونجوان درويش، ومصطفى سلاوي. وطاولة أخرى حول «كتّاب وتجارب» شارك فيها محمد ميلود الغرافي، ومحمد مباركي، ونورا ناجي، والروائي السعودي وائل هادي الحفظي.

«أن نقيم في العالم ونكتبه» هو العنوان الذي تبناه المعرض، ومنه انطلق في رسم برنامجه، محاولاً تقصِّي التحولات في العالم، التي تنعكس على المنطقة العربية.

معرض مختلف، تخصصي، يعد نفسه منصة وفضاءً مفتوحاً للنقاش والنقد والحوار، ومكاناً للتفاعل بين المثقفين في المنطقة العربية والعالم، أكثر مما هو مجرد مكان لعرض الكتب وبيعها. لهذا فإن 120 مثقفاً، في مختلف الاختصاصات، من مغاربة وعرب وأجانب، حلّوا ضيوفاً، وتمكنوا خلال أيام خمسة من عرض وتشخيص ومحاولة فهم عددٍ من المواضيع الساخنة، بفضل برمجة محكمة وطاولات مستديرة متزامنة. كما امتد البرنامج إلى خارج المعرض، إذ نُظمت قراءات في سجون، ومكتبات. ومن بين الأغراض المهمة، حسب مدير المعرض جلال الحكماوي؛ «مدّ الجسور بين المثقفين، وهذه إحدى المهام الأساسية، لا سيما بين المشرق والغرب؛ حيث التواصل لا يزال ضعيفاً، وفتح باب الحوارات بينهم. اللقاءات التي ضمَّت كتَّاباً من كل المنطقة العربية والعالم هي في صميم وجود المعرض». ويتحدث الحكماوي عن شبكة من الأصدقاء في مختلف البلدان، يقدمون النصح والمساعدة لتنظيم برنامج بالمستوى المنشود. وهو أمر يحتاج إلى وقت وجهد كي يأتي دوماً على قدر التمنيات.


مقالات ذات صلة

650 ألف زائر يرسخ مكانة معرض جدة للكتاب كمنصة ثقافية إقليمية

يوميات الشرق طفل يبحث عما يشبهه من كتب تحاكي ذاته (الشرق الأوسط)

650 ألف زائر يرسخ مكانة معرض جدة للكتاب كمنصة ثقافية إقليمية

مع رحيل آخر أيام معرض جدة للكتاب، يطرح المشهد الثقافي جملةً من الأسئلة حول المعرض وترسيخ مكانته كأحد أبرز الفعاليات الثقافية في المملكة.

سعيد الأبيض (جدة)
يوميات الشرق الكاتبة خيرية المغربي مع إصداراتها الأدبية (الشرق الأوسط)

«فلمّا أفَلَت»... حين تدخل الرواية السعودية إلى فضاء السؤال الفكري

في مشهد ثقافي سعودي يتسع للأسئلة بقدر ما يحتفي بالحكايات، تبرز أعمال روائية لم تعد تكتفي برصد التحولات الاجتماعية، بل تمضي أبعد من ذلك، نحو مساءلة الفكر.

أسماء الغابري (جدة)
ثقافة وفنون «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

عن دار «ديوان للنشر» بالقاهرة، صدر حديثاً العمل الشِّعري السابع للشَّاعر المصري عماد فؤاد تحت عنوان «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة».

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق إقبال واسع على كتب الفانتازيا العربية في معرض جدة للكتاب (الشرق الأوسط)

كاتبان عربيان يُعيدان تعريف الفانتازيا من جدة إلى السويد

ما بين جدة واستوكهولم، تتشكّل ملامح فانتازيا عربية جديدة، لا تهرب من الواقع، بل تعود إليه مُحمّلة بالأسئلة...

أسماء الغابري (جدة)
كتب ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

في غضون خمسين عاماً من الاستقلال، شيّدت أميركا رؤيتين متناقضتين: النشوة، والحلم الأميركي.

أليكسس كو (نيويورك)

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

تيري ايغلتون
تيري ايغلتون
TT

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

تيري ايغلتون
تيري ايغلتون

يظل سؤال الثقافة مفتوحاً، لكنه متردد، وخائف، ليس لحمولاته وإحالاته، ولعلاقته بالمخفي من الأسئلة المقموعة فحسب، بل بعلاقة هذه الثقافة بصناعة الهيمنة، وتسويغ عنف مركزية العقل «الليبرالي»، وعبر منابر وقنوات الآيديولوجيا والمدرسة والإعلام والدعاية والخطاب السياسي والخوارزميات، وحتى عبر مرجعيات النظرية الأدبية والثقافية التي تُخضعه هي الأخرى إلى المؤلف المهيمن، وترسل إلى القارئ المُستهدف.

ما طرحه الناقد تيري إيغلتون في كتابه «ما بعد النظرية» بترجمة ثائر ديب، الصادر عن «المركز العربي لدراسة السياسات» (2025)، يضعنا إزاء قضايا إشكالية تخص الخوف الثقافي والقلق الثقافي، والتمثيل الثقافي، وإلى ما يدفعنا إلى الشك بجدوى النظرية، وبأن ما يجري أفقد النظريات كثيراً من صلاحياتها.

الدرس الثقافي يعني في جوهره درساً مفهومياً، في توظيفه الفلسفي، أو في إجراءاته التي تخص التعلّم والفهم، وفي ما يتعلق بالإنثربولوجيات المعقدة التي كشف تشظيها عن عالم يتمرد على المركزيات، بحثاً عن مركزيات موازية، أو عن هويات محلية، يمكنه من خلالها يستأنف لعبته في إعادة إنتاج السلطة، والهوية، والخطاب، بوصفها عناصر موجّهة للهيمنة، ولصياغة العالم في أفكاره ومعتقداته وهوياته وأساطيره، عبر ما تصنعه السلطة من سياسات وثقافات، وعبر ما يجعل «النظرية» مجالاً للتخيل، ولتقعيد العالم عبر القياس.

ما أثاره إيغلتون عن «نهاية العصر الذهبي للنظرية» يظل افتراضياً، لأن ما أسسه كبار المُنظّرين ترك ثقلاً معرفياً كبيراً، في إطار الأطروحات الفلسفية، أو في تمثيل النظريات الأدبية، وحتى في السيميائيات، وفي الاجتماع السياسي والتربوي، وفي بنى النظام والخطاب والرقابة والقمع، لكنه بالمقابل خضع إلى كثير من التحول، والتصادم، والاختلاف، حيث وجدت الأفكار نفسها إزاء «واقع سائل» ليس لتمثيل علاقاتها بـ«ما بعد الحداثة»، كما يرى زيغموند باومان، بل لأن وجودها اصطدم بكثير من الفعاليات التي تعمل لصالح مؤسسات ومنابر ومخابر ومراكز بحوث وبنوك وعيادات وشركات عابرة للقارات، وهذا هو الوجه الرمادي لـ«الليبرالية الجديدة»، رغم أن مرجعيات «النظرية» لم تكن بعيدةً عن تاريخ المجتمعات، ولا عن مسار تطور العلوم والأفكار.

النظرية ورهاب الغياب

القضية التي يثيرها إيغلتون حول «نهاية العصر الذهبي للنظرية» تطرح أسئلة فائقة الخطورة، حول المرجعيات، لا سيما الماركسية، التي تحتاج إلى مراجعة، لمواجهة سلسلة من التحولات الكبرى، بما فيها تحول صناعة الأفكار وتلقيها، وعلاقتها بالمؤسسات والآيديولوجيات، وبأنموذج المثقف الذي تخلى عن وظيفته النقدية، لصالح القوة، ولصالح نوع من «الواقعية المتوحشة» التي أفقدت «البطل الغربي» سحره السينمائي، وغوايته الطبقية، وعلاقة مدنه البرجوازية بذاكرة الرواية الرومانسية، وبيوميات القصور والحفلات الموسيقية والمعارض الفنية وعروض الأزياء وإعلانات العطور، ونظم الاتصال الحديثة واحتكار المعلومات والأخبار.

الفقد تحوّل إلى رهاب نفسي، لأن الغرب لم يعد مسيجاً على طريقة «أثينا القديمة»، فالهجرات والأسواق والصراعات الاجتماعية والحروب جعلت من هذا الغرب إزاء ما يشبه «الهجنة الثقافية» التي جعلت من حديث النظرية جزءاً من المفارقة، ومن مأزق الغرب بمفهومه الأوروبي الهيغيلي.

حديث الفقد يمكن أن يكون جزءاً من النسيان، ومن التباسات ثقافية، تواجه صراعاً غير منضبط بين المستويات، لا سيما ما يتعلق بالثقافات الشعبية، وثقافات الهامش، التي جعلت من اليسار أكثر اندفاعاً لها، وتعبيراً عن سردياتها الطبقية والثورية، مقابل ثقافة النخبة، التي ظل المحافظون والتقليديون يحرصون على مغاليقها، بوصفها جزءاً من صراعهم الطبقي والوجودي.

ما جعله تيري إيغلتون عتبته للحديث عن «الما بعد» هو إحساسه بأن العالم لم يعد صالحاً للمعنى الذي أنتجه اليسار حول الصراع الطبقي والعائلة والاجتماع والحقوق والعدالة والمشاركة، وأنه جعل الغرب يتغول، حيث بدا صعود التطرف اليمني وموجات «أوروبا الصافية» أكثر هوساً بالعنف «الصياني» وبمشروع إعادة النظر بالأفكار، وبالنظام الاجتماعي وبالسياسات، وبطبيعة الأفكار الرثة التي فقدت فاعليتها في مواجهة «رهاب الاستهلاك» ورهاب العنف والتطرف الأبيض. هذه التمثلات تحولت إلى مظاهر ثقافية، وإلى أطروحات إشكالية تخص تعقيدات الصراع الاجتماعي، وقضايا أنثربولوجية وحقوقية، وأزمات اجتماعية تخص العلاقة بالآخر، هذا الآخر المسكون بأشباح الشرق، ويوميات العنف السياسي والتلوث البيئي والحروب الأهلية، الذي صنع بالمقابل موجهات من المهاجرين واللاجئين الذي اتخموا «أوروبا» وأثاروا جدل النوع والنمط والهوية، وهو ما أسهم في تقويض مفهوم «الثقافة العالِمة» التي تملك الخطاب، والقدرة على مواجهة انهيار عالم مفتوح على لا نهايات عاقلة.

الما بعد وأفول النظرية

من الصعب عزل الثقافة عن التاريخ، وعن التحولات الكبرى، فبقدر ما يربط إيغلتون بين خمود النظرية وبين حركة ما بعد الحداثة، التي جعلت من «العولمة» و«الرقمة» توصيفات لنهايات إنسانية، أفقدت بعض المفاهيم جدواها، مثل الطبقة والتصنيع والجماعة، مقابل ما يراه خطيراً في صعود «الأعمال التحويلية» ووظائف البنوك الكبرى، التي تعني في جوهرها صعود «طبقة» لها سلطتها، ولها إدارتها في التعاطي مع المال والقوة والخطاب والعمل، وكذلك مع قيم إشكالية تخص «التحرر الجنسي» وموضوعات الجندر، والهجرة والهوية، وهي قضايا ثقافية جعلت منها «الدراسات الثقافية» مجالاً واسعاً لأطروحاتها، ولتداوليتها التي تخص الصراع الاجتماعي، وإعادة تعريف الغرب الذي لم يعد غرباً، كما في التوصيف الاستعماري لروديار كبلنغ، إن «الما بعد» قد يكون نقداً، وقد يكون نفياً، وكلاهما يدخل في سياق المواجهة مع الأفكار، ومع التاريخ الطويل للنظريات، بما فيها نظريات العلوم والآداب والسياسيات، إذ تحول الصراع حول جدوى النظرية مجالاً للحديث عن جدوى الأفكار ذاتها، ومنها ما يتعلق بأفكار الاشتراكية، والصراع الطبقي والعدالة الاجتماعية، والبطالة والهجرات الكبيرة، وبالحروب التي لم تعد للأفكار على طريقة الزعيم الصيني ماو تسي تونغ أو تروتسكي حول مفهوم الثورة الدائمة.

أفول النظرية لا علاقة له بأفول الحداثة، لأن ما يجري هو تغيير لقواعد الاشتباك الثقافي القديم، ولطبيعة التشكلات الطبقية، والإحالات الثورية، فالطبقات الوسطى فشلت في أن تصنع السلطة، إذ اكتفت بالهامش التمثيلي للثقافة، ولمواجهة عنف الطبقات الحاكمة، فرغم أن الحداثة في الغرب عكست «قوة العقل» بمفهومه الكانطي، أو أنها أبرزت مظاهر الصراع الطبقي، والتحولات الصادمة التي جعلت من كافكا مسكوناً بالخوف والكوابيس، حد الهروب إلى سردية المسخ، بحثاً عن ذاته التي ظلت خالية من الاطمئنان، إلا أن هذه الحداثة فشلت في مواجهة تنامي أزمة الإنسان ذاته، الإنسان الذي تحوّل إلى قربان للحروب والأزمات المفتوحة.

إيغلتون وصدمة المفارقة

التقويض الآيديولوجي للنظرية لم يشأ أن يترك الصراع دون مقاربات، تخص النظرية، أو تخص «صناعة الثقافة» بتعبير إدرنو، إذ تتحول الصناعة إلى إجراء لمواجهة التغريب والعزل، مثلما تتم استعادة ماركس الشاب الفيلسوف، وماركس الكبير الاقتصادي، إلى منابر لا تملك أدوات الاستمرار، بسبب الضآلة الثقافية من جانب، والخمود المؤسساتي والنظري من جانب آخر، فتذكّر مركز «برمنكهام» الإنجليزي المؤسس لـ«الدراسات الثقافية» في الستينات، يضعنا أمام رهاب متاهة الغياب المؤسساتي، وصعود المؤسسات الضد، التي لا علاقة بالزمن الثقافي، ولا بسرديات الثقافة، ولا حتى بالنظرية النقدية وبمناهجها، وبما تملكه من أدوات ووسائط ومناهج تساعد على بقاء الثقافات والآداب حية وفاعلة، وعالقة بكثير من قيم الاجتماع والأخلاق والنقد والتحليل.

صدمة المفارقة في مشغل إيغلتون ليست بعيدة عن فكرة «الاغتراب الثقافي» فما فشلت به الحداثة، لن تصنعه ما بعد الحداثة التي يصفها إيغلتون بالغلو والسطحية، وأنها المسؤولة عن صناعات أكثر رعباً، وعن إخفاقات واسعة، بما فيها إخفاق «النظرية الأدبية ذاتها» وعجزها عن إدامة الوعي الاجتماعي، وعن نقد الخطاب السياسي، إذ تحولت الحداثة، وحتى ما بعدها إلى مجال أو سوق للترويج للصناعات الثقافية، من منطلق أن الثقافة سلعة، وأن قانون «العرض والطلب» هو الفيصل الوجودي الذي يتحكم بالإنتاج، وبقيمة هذه الصناعات في تعزيز قيم الإشباع والعدالة، ومواجهة رعب «الرأسمال» الذي جعل من الثقافة جزءاً من وظائف «رجال الأعمال» ومن مسؤوليات منتجي أفلام السينما وعروض الأزياء وغيرهم.

عجز النظرية عن مواكبة «سيولة الأفكار» هو المُهدد الأكبر لوجودها، ولفاعليتها في الارتقاء بالوعي الاجتماعي - الثقافي لمواجهة مشكلات الواقع، وتعقيدات العنف السياسي، ولمظاهر الإرهاب والإكراهية والاستغلال والاستبداد، فضلاً عن مواجهة إكراهات الفقد العاطفي والرمزي، والصحي والإنساني، فما بات واضحاً في الما بعد حداثي هو «تشظي الحقيقة» أو موتها بتعبير نيتشه، وهو ما يعني تقوّض كثير من المركزيات الآيديولوجية، والأطروحات المطلقة، وربما تقوض الأنظمة التقليدية، مثل النظام الصحي، والنظام المصرفي، والرعاية الصحية وقوانين الحماية الاجتماعية، ليس للانخراط في لا مركزية ما بعد الحداثة، بل للتعبير عن أن العالم لم يعد آمناً، وأن من يصنع الحرب، يمكنه أن يصنع الشر، وأن يعيد إنتاج أساطير العنف، وشخصيات العنف مثل الليدي ماكبث، كما يقول إيغلتون.


كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟
TT

كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

ينطلق كتاب «بلاغة الكود» للكاتب والباحث المصري مدحت صفوت من فكرة نقدية وجمالية تسعى إلى استدراج معانٍ ودلالات إبداعية من قلب التطوّر الرقمي وخوارزمياته، عبر تساؤل مركزي يفتتح به المؤلف أفق كتابه: «ماذا لو كان للكود لغة أعمق من مجرد المنطق الصارم؟»، وهو سؤال يُطرح بوصفه مدخلاً نقدياً لفهم عالم باتت بنيته قائمة على الأكواد، لا بوصفها لغة برمجية محايدة، بل أنساق لغوية تُنتج المعنى، وتوجّه الخيال، وتُعيد عبر ذلك تشكيل الخبرة الإنسانية.

من هذا المنطلق، لا يقدّم الكتاب قراءة تقنية للتطور الرقمي، بل يفتح أفقاً نقدياً لفهمه بوصفه خطاباً معاصراً له بلاغته الخاصة وأسئلته، وتأثيره العميق في طرائق التفكير والإبداع، في زمن تحكمه الشاشات وتديره الخوارزميات.

يقترح الكتاب، الصادر أخيراً عن دار «بيت الحكمة للثقافة» في القاهرة، مقاربة مركبة تجمع بين الفكر الجمالي، وفلسفة اللغة، والتحليل الاجتماعي، ودراسات الوسائط الرقمية، كاشفاً كيف أسهمت الخوارزميات في إعادة تعريف مفاهيم الإبداع والكتابة والاختيار، بل في إعادة صياغة العلاقة بين الفنان والآلة، فالكود في هذا السياق لا يعمل في الخلفية فقط، بل يتداخل مع الوعي، ويعيد ترتيب منظومات الإدراك، ويطرح سؤالاً جوهرياً حول إمكانية تزاوج «المنطق» و«العاطفة» بوصفهما درعاً فكرياً وإبداعياً في مواجهة المخاطر المتزايدة لعصر الرقمنة.

من هنا يتجاوز الكتاب النظر إلى الخوارزميات باعتبارها نقيضاً للخيال، ليطرح إمكانية أن تصبح مادة سردية جديدة، يمكن للكاتب أن ينسج منها حكايات لم تُروَ من قبل، تتقاطع فيها المادة الرقمية مع الروح الإنسانية، في محاولة لإعادة تخيل مستقبل أعمق اتصالاً بالإنسان.

ممارسة وجودية

يضع المؤلف قارئه داخل واقع ينسج نفسه من ألياف «الكود» الخفية، واقع تتشابك فيه التهديدات السيبرانية، والأسئلة الأخلاقية المرتبطة بالتكنولوجيا، والأوبئة العالمية، والتأثيرات العميقة للذكاء الاصطناعي، وهو واقع لم يعد فيه السؤال الجمالي ترفاً، بل ضرورة معرفية ملحّة، فكيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع هذا التعقيد الرقمي، وهل يمكن للكود ذاته أن يتحول من أداة للضبط والسيطرة إلى وسيط إبداعي قادر على فتح مساحات جديدة للتعبير الإنساني؟

وينطلق صفوت في معالجة هذه الأسئلة من حزمة من الأدوات والمفاهيم النقدية المتداخلة، من بينها مفهوم «الحداثة الانعكاسية»، التي تُفهم هنا بوصفها لحظة وعي نقدي بالحداثة نفسها، وبآثارها، وبالتحولات العميقة التي أحدثتها في الفنون والآداب، وبموقع الفنان ودوره داخل عالم مشفّر بالمخاطر والشكوك. فالفن، في هذا التصور، لا يُختزل في كونه مرآةً للواقع أو هروباً منه، بل يتحول إلى ممارسة وجودية «ضد الموت»، وسجل حيّ للحياة بكل هشاشتها وتعقيداتها، داخل منظومة ثقافية يُعاد تشكيلها باستمرار عبر الأكواد.

عبر فصول الكتاب الثلاثة، يطرح المؤلف سياقاً تاريخياً ممتداً، يبدأ من صدمات الحروب العالمية، ويمر بتحوّلات الحداثة وما بعدها، وصولاً إلى فنان العصر الرقمي، ويتتبع العلامات والمدارس النقدية التي حاولت فهم تحوّلات الحركات الفنية، ومحاولات نحت مصطلحات نقدية جديدة تواكب التحولات الكونية الكبرى، من بينها تعبير «ما بعد الكورونولانية»؛ المصطلح الذي بدأ ساخراً في سياق جائحة «كورونا»، قبل أن يتحول إلى أداة تحليلية لفهم التحولات النفسية والثقافية التي أعقبتها.

مجتمع المخاطر

يتعمق صفوت في رصد تداعيات جائحة «كورونا» على المشهد الفني والأدبي، متتبعاً تحولات الممارسات الإبداعية، وأنماط تلقي الفن، ودور الناقد في عالم باتت فيه التجربة الجمالية مشروطة بالوسائط والشاشات. وفي هذا السياق، يتقاطع طرح الكتاب مع مفهوم «الحداثة الفيروسية» كما تطرحه الباحثة إليزابيث أوتكا، التي ترى أن الوباء لم يكن حدثاً صحياً فقط، بل عامل كاشف عن هشاشة البنى الثقافية والمعرفية، وعن سرعة انتقال القلق والخوف بوصفهما أنماطاً رمزية لا تقل فاعليةً عن الفيروس نفسه.

كما يستفيد الكتاب من استراتيجيات ما بعد الحداثة في أعمال عدد من المفكرين، وعلى رأسهم عالم الاجتماع الألماني أولريش بيك، أحد أبرز المفكرين المؤثرين في القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، الذي انشغلت أعماله بتحليل تحوّل المجتمعات الصناعية الحديثة إلى ما سماه «مجتمعات المخاطر»، الذي يشير به إلى مجتمعات لا تواجه الخطر بوصفه استثناء، بل بوصفه بنية دائمة ناتجة عن التقدم ذاته، ويرى الكتاب في هذا الطرح مهاداً سوسيوجمالياً ضرورياً لفهم عصرنا الراهن، وطبيعة المخاطر الجديدة التي تمثلها الرقمنة، وكيفية مقاربتها نقدياً وجمالياً، لا تقنياً فقط.

ولا ينفصل هذا المسار عن نقد أوسع لما وصفه الفيلسوف الفرنسي جان بودريار بـ«الواقع الفائق»، حيث تنفصل العلامات عن مدلولاتها، وتغدو الصور أكثر حضوراً من الواقع نفسه، ويتحول المعنى إلى سلسلة من الإحالات المؤجلة، في هذا العالم لا يصبح الغموض إثراءً للمعنى، بل اختزال له، وصولاً إلى عتبة العدمية، ومن هنا تطرح الأعمال الفنية والأدبية أسئلةً ملحّة حول العلاقة بين التخيل والواقع، وحول ما إذا كان ما نراه قائماً بذاته، أم مجرد نتاج للخطابات والوسائط التي تشكل وعينا.

أمام هذا التفكك، يرصد الكتاب تحوّلات الكتابة، مع تراجع نزعات التغريب التي ميزت كثيراً من تجارب ما بعد الحداثة، لصالح عودة الاهتمام بالبطل، وبناء التعاطف، وخلق جسور تواصل بينه وبين القارئ، في محاولة لاستعادة قدر من المعنى الإنساني داخل عالم متشظٍ، وهي عودة لا تعني الحنين إلى السرد التقليدي، بقدر ما تعكس وعياً بأزمة التلقي، وحاجة القارئ إلى موقع يسمح له بالتفكير في أزماته الراهنة، لا الاكتفاء بتفكيكها.


ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟
TT

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

في غضون خمسين عاماً من الاستقلال، شيّدت أميركا رؤيتين متناقضتين: النشوة، والحلم الأميركي. كانت الأولى مدفوعة بحماس نهاية العالم الذي رافق الصحوة الكبرى الثانية، فيما استُمدّت الرؤية الثانية من التفاؤل الجامح للمؤسسين أمثال توماس جيفرسون. وَعَدَت الأولى بأن الصالحين سيرتقون، فيما أقسمت الثانية بأن بإمكان الجميع فعل ذلك.

لكن اليوم، تبدو أسس الصعود غير ذات صلة. كل شيء أصبح أغلى ثمناً -رعاية الأطفال، والإيجار، والرهون العقارية، والتأمين الصحي، وفواتير الخدمات، والبقالة، والمطاعم، والأدوات المنزلية، وخدمات البث، وتذاكر الحفلات الموسيقية، وتذاكر الطيران، ومواقف السيارات، ناهيك بهدايا الأعياد... الرواتب ثابتة، وقوة العمال متحجرة، ومعركة مكافحة التضخم مستمرة للعام الخامس.

كيف ومتى أصبح الارتقاء الاجتماعي بعيد المنال كما يبدو؟ تتناول الكتب المعروضة هنا، هذا السؤال مباشرةً؛ إذ يتعمق بعض المؤلفين في كيفية تشكل الثغرات في طريق الحياة الأفضل؛ بينما يحدد آخرون مواطن الضغط الحالية. وتُظهر هذه الكتب مجتمعةً أن الأميركيين كافحوا لإصلاح اقتصادهم منذ تأسيس الولايات المتحدة، وأن جهود جيلٍ ما غالباً ما تؤتي ثمارها في الجيل الذي يليه.

كتاب «ثمن الديمقراطية» لفانيسا ويليامسون

من الضرائب المفروضة خلال حفلة شاي في بوسطن إلى التعريفات الجمركية في العصر الذهبي، قلّما نجد ما يُحدد التاريخ الأميركي مثل الضرائب. في هذا السرد التحليلي الدقيق للضرائب في الولايات المتحدة، تُجادل ويليامسون، الباحثة في معهد بروكينغز، بأن السياسة الضريبية تتجاوز مجرد تمويل الحكومة، فهي آلية لتوزيع السلطة والحفاظ عليها، فلطالما دعمت الضرائب أثرياء البلاد على حساب بقية الشعب. وتكتب ويليامسون أنه بعد الثورة، كانت أبيجيل آدامز من بين النخب التي اشترت سندات الحرب الحكومية متراجعة القيمة بأبخس الأثمان، ثم شاهدت قيمتها ترتفع مع رفع ماساتشوستس الضرائب لسدادها، على حساب المزارعين البسطاء في الغالب.

وعلى الرغم من هذه التفاوتات، فإن أطروحة ويليامسون المفاجئة هي أن الضرائب، عند تطبيقها بشكل صحيح، تُفيد الديمقراطية. فقد أسهم فرض ضريبة الدخل في ستينات القرن التاسع عشر في دعم المجهود الحربي للاتحاد، مما ضمن عدم تحميل الفقراء وحدهم عبء التكاليف.

وبعد الحرب، فرضت حكومة إعادة الإعمار في كارولاينا الجنوبية ضرائب على الأراضي، مما زاد عدد الأطفال الذين يمكنهم الحصول على التعليم العام بأكثر من أربعة أضعاف، حتى في ظل تفشي التهرب الضريبي.

وتجادل ويليامسون بأن معارضة الضرائب لطالما تستّرت وراء دعوات العدالة، لكن الخطر الحقيقي يكمن في غياب الشعور بالانتماء. وتكتب أنه في نهاية المطاف، عندما يسهم الناس في تمويل حكومة فعّالة، يصبحون أكثر ميلاً للمطالبة بحقهم في إبداء رأيهم فيما تفعله، ويتوقعون منها الاستجابة.

«حرية رجل واحد» لنيكولاس بوكولا

بين مقاطعة حافلات مونتغمري في خمسينات القرن الماضي وانتخابات عام 1964، طرح زعيم الحقوق المدنية مارتن لوثر كينغ والمرشح الرئاسي الجمهوري باري غولد ووتر، أفكاراً مؤثرة حول معنى «الحرية» في أميركا. في هذه الصورة المزدوجة المُلهمة، يُعيد بوكولا بناء كيفية تصادم حركتيهما، إذ قدّم كلا الرجلين مفهوماً مختلفاً للحرية، مُرسّخاً فهماً مُغايراً للنظام الاقتصادي الأمثل: اقتصر مفهوم كينغ عن الحرية على المساواة في الوصول إلى السلع والخدمات العامة، فيما استندت رؤية غولد ووتر للحرية إلى حقوق الملكية الشخصية.

يتتبع بوكولا، أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة «كليرمونت ماكينا»، كيف أصبحت رؤاهما المتنافستان، اللتان عَبّرا عنهما في خطاباتهما ومواعظهما ومناقشات مجلس الشيوخ، المنطق الأخلاقي المزدوج لأميركا الحديثة: أحدهما يُقدّس السوق، والآخر يُطالب بإصلاحها. حذّر غولد ووتر من أن «الحكومة الكبيرة» -بضرائبها وشبكات الأمان الاجتماعي- و«العمالة الكبيرة» -بضغطها التصاعدي على الأجور- تُهدّدان «نمط الحياة الاقتصادي الأميركي». وردّ كينغ بأن الحقوق السياسية دون فرص اقتصادية هي حقوق جوفاء. ويرى بوكولا أن تحالف الحقوق المدنية الذي قاده كينغ أسهم في إفشال حملة غولد ووتر، لكن أفكار غولد ووتر انتشرت في أوساط السياسة الأميركية، مُشكّلةً ثورة ريغان وعولمة السوق الحرة في عهد كلينتون.

«أمراء التمويل» للياقت أحمد

في كتابه التاريخي الحائز جائزة «بوليتزر» عام 2009، يتتبع أحمد مسيرة أربعة رجال سيطروا على البنوك المركزية الكبرى في العالم في السنوات التي سبقت الكساد الكبير، وهم: مونتاجو نورمان (بنك إنجلترا)، وبنيامين سترونغ (بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك)، وإميل مورو (بنك فرنسا)، وهيالمار شاخت (بنك الرايخ).

يتناول هذا الكتاب التاريخ العالمي، ولكنه يُعدّ جزءاً لا يتجزأ من التاريخ الأميركي، إذ لطالما امتدت آثار الاقتصاد الأميركي عبر الحدود الوطنية. وبينما كانت الاقتصادات الأوروبية تعاني من الركود بعد الحرب العالمية الأولى تحت وطأة التعويضات والديون، استخدم سترونغ خطوط الائتمان الأميركية للمساعدة في إنعاش البنوك الأوروبية.

«الصندوق الراديكالي» لجون فابيان ويت

لم يعتمد الأميركيون دائماً على الحكومة لتحسين أوضاعهم المعيشية. فقد شهدت عشرينات القرن الماضي ازدهاراً في الأسواق وتفاقماً في عدم المساواة. وكان رأس المال الخاص في كثير من الأحيان شريان الحياة الوحيد لمن يكافحون الفقر والفصل العنصري المتجذر والاعتداء واسع النطاق على الحريات المدنية.

في عام 1922، رفض تشارلز غارلاند، وريث وول ستريت، المصرفي البالغ من العمر 23 عاماً من ولاية ماساتشوستس، التربح من نظام رآه ظالماً، وتبرع بكامل ميراثه البالغ مليون دولار؛ لتأسيس الصندوق الأميركي للخدمة العامة. وكما يُبين ويت في كتابه التاريخي الشيق عن الصندوق الفيدرالي، فقد أصبح هذا التنازل محركاً مالياً دعم الأفراد والمؤسسات التي ستُشكل لاحقاً برنامج الصفقة الجديدة، وحركة الحقوق المدنية.

تحت قيادة روجر بالدوين، من الاتحاد الأميركي للحريات المدنية، دعم الصندوق مشاريع عالم الاجتماع الأسود دبليو إي بي دو بويز. دو بويز، ونورمان توماس، حامل لواء الحزب الاشتراكي، وماري وايت أوفينغتون، المؤسِّسة المشاركة للجمعية الوطنية للنهوض بالملوَّنين. وأشعلت نضالاتهم شرارة تحالفات عمالية واسعة النطاق، مثل مؤتمر المنظمات الصناعية، والحملات القانونية التي بلغت ذروتها في قضية براون ضد مجلس التعليم.

«بابيت» لسنكلير لويس

يسأل جورج ف. بابيت، رجل العقارات المولع بالأجهزة، وسائق سيارة بويك، والمنتمي إلى نادٍ ريفي، والذي يُمثّل محور رواية لويس الساخرة التي صدرت عام 1922، عن الرضا الذاتي للطبقة الوسطى: «بصراحة، هل تعتقدين أن الناس سيظنونني ليبرالياً أكثر من اللازم لو قلتُ إن المضربين كانوا محترمين؟». تدور أحداث هذه الرواية وسط احتجاجات عاملات بدالة الهاتف في مدينة زينيث الخيالية في الغرب الأوسط الأميركي.

تجيبه زوجته: «لا تقلق يا عزيزي، أعرف أنك لا تعني كلمة مما تقول». ومع ذلك، فإن مساعدة المضربين هي أول ما سيفعله ذلك الشاب الجامعي -الذي كان يحلم بالدفاع عن الفقراء. يعترف لابنه لاحقاً قائلاً: «لم أفعل في حياتي شيئاً أردته حقاً!». ثم يمر بأزمة منتصف العمر قصيرة الأمد. ينخرط في الأوساط البوهيمية، ويقيم علاقة غرامية مع أرملة، ويثير ضجة في ناديه الرياضي. لكن عندما يُقابل بتجاهل مجتمعه، ومرض زوجته، ينهار بابيت.

حققت الرواية مبيعات هائلة، ودخل عنوانها إلى اللغة الدارجة: أصبح «بابيت» اختصاراً للشخص المتوافق مع التيار السائد، العالق في عالم ضيق الأفق. لقد أدرك لويس، أول أميركي يفوز بجائزة نوبل في الأدب، ما يغيب غالباً عن الاقتصاديين: الحلم الذي انتقده ليس طموحاً، بل هو إجباري. الانسحاب يعني النفي، لذا يبقى معظم الناس في الداخل، مبتسمين في الفراغ.

* تكتب أليكسس كو عموداً عن التاريخ الأميركي في ملحق الكتب بصحيفة «التايمز». وهي زميلة بارزة في مؤسسة «نيو أميركا»، ومؤلفة كتاب «لن تنسى أبداً بدايتك: سيرة جورج واشنطن».

خدمة «نيويورك تايمز».