عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب» ضمن سلسلة «ذاكرة الكتابة»، صدرت طبعة جديدة من كتاب «مصر تحت الحكم الروماني»، للباحث فاروق حافظ القاضي، وتحرير وتقديم هيثم السيد قنديل. ويشير فيه المؤلف إلى أن مدينة الإسكندرية ظلت في العصر الروماني عاصمة للحكم، واستمرت في الوقت نفسه مركزاً للبحث العلمي، والنشاط الفكري والثقافي استمراراً للدور الذي لعبته في العصر البطلمي.
ولما كان الأباطرة الرومان يكنون الاحترام للثقافة الإغريقية، فإنهم قاموا بتشجيع تلك المؤسسة العلمية الإغريقية التي شيدها البطالمة، وازدهرت فيها الفلسفة، وهي «الموسيون»، أو «دار العلم»، فقد استمر علماؤها يتلقون من الأباطرة العطايا، ويتمتعون ببعض الامتيازات، ومنها الإعفاءات الضريبية، كما أضاف الإمبراطور كلاوديوس إليها مبنى جديداً حمل اسمه، وكانت تُتدارس فيه مؤلفاته.
وزار الإمبراطور هادريان الذي اشتهر بعشقه للثقافة الإغريقية «الموسيون»، وشارك في ندوات علمائها، ومفكريها، حيث بذل لهم المزيد من المكافآت، كما زاد من عددهم، غير أنه ترخص فيما يبدو في منح عضوية الموسيون لأشخاص من غير العلماء، لأن بعض وثائق القرن الثاني تذكر بعض رجال الدين والضباط الرومان وكبار الموظفين المدنيين، بل أحد الرياضيين، على أنهم أعضاء فيه.
وحتى نهاية القرن الثاني الميلادي كانت «الموسيون» لا تزال تجتذب إليها النابهين من العلماء، فقد كانت طبيعة الدراسة فيها أقرب إلى أسلوب أكاديميات البحث العلمي منها إلى أسلوب الجامعات المعنية بتدريس فروع المعرفة المختلفة، لكن يبدو أنها اقتربت منذ بداية القرن الثالث من الوظيفة التعليمية حين اضطر علماؤها إلى تخصيص قاعات للتدريس لمن يريد من الطلاب لقاء أجر بعد أن أوقف الإمبراطور كاراكالا دعم الحكومة المادي لـ«الموسيون».
أما مكتبة الإسكندرية التي طبقت شهرتها آفاق العالم القديم، والتي كانت وثيقة الصلة بتلك الدار، فلا نسمع شيئاً عن جهود الأباطرة في دعمها على نحو ما كان يفعل البطالمة، غير أنه كان يقوم بأمانة المكتبة طوال العصر الروماني علماء نابهون تولوا رعايتها.
وحين نستعرض أبرز ملامح نتاج الإسكندرية الأدبي والفكري في العصر الروماني، فإنه يستوقف نظرنا هبوط مستوى الإنتاج الأدبي الشعري، حيث نجد شعراً مصنوعاً غير مطبوع، وأكثره منظومات وصفية تتناول مواقع جغرافية، أو أشخاصاً، أو آلهة، وشتان بين هذا كله وبين أغراض الشعر ومستواه عند كاليماخوس، وأبولونيوس، وثيوكريتوس في العصر البطلمي.
في المقابل، انتكست الفلسفة في العصر البطلمي بمدينة الإسكندرية، حيث إن ملوك البطالمة لم يشجعوا على دراستها، تفادياً لما يطرحه هذا النوع من النشاط العقلي من تساؤلات قد تمس أساس سلطاتهم الملكية المطلقة. أما الرومان فقد وجد من قادتهم وأباطرتهم من تحمس شخصياً لدراسة الفلسفة، وتبنى مذهباً أو آخر منها، لا سيما الإمبراطور ماركوس أوريليس.
غير أن ازدهار الفلسفة في الإسكندرية لم يكن متعلقاً فقط بعدم ضيق الرومان بالفلسفة، أو حتى تشجيعهم إياها، وإنما كانت ظروف العصر نفسها تبعث على التفكير الفلسفي بين المثقفين في تلك المدينة التي تعج بالحركة التجارية، وإليها كانت تنساب مع القادمين من كافة الأجناس شتى الأفكار الدينية والفكرية من شتى الثقافات.
واجه المثقف نوعاً من البلبلة حين بدا له أن كثيراً من الأفكار الميتافيزيقية القديمة محض هراء، وانتحالات زائفة، حتى جاءت المسيحية وجعلت ازدهار نزعة التفلسف في الإسكندرية مصطبغاً بصبغة دينية. أما في مجال العلوم، فقد حافظت الإسكندرية على مكانتها القديمة في الدراسات الفكرية والرياضية والطبية. وأول من يذكر في هذا المقام العالم الفلكي الرياضي الجغرافي الفذ كلاوديوس بطليموس الذي اشتهر كثيراً عند العرب بعد ذلك باسم «بطليموس الجغرافي» وقد تصدى لدراسة الجغرافيا على أساس معرفته الرياضية والفلكية، فوضع كتاباً من ثمانية أجزاء، ورسم خريطة للعالم حدد عليها الأماكن بنسب أبعادها الصحيحة.
