ميلانشون يحلم بيوتوبيا جديدة لفرنسا والعالم

أنشودة ثورية جريئة لتأكيد سلطة الشعب

ميلانشون يحلم بيوتوبيا جديدة لفرنسا والعالم
TT

ميلانشون يحلم بيوتوبيا جديدة لفرنسا والعالم

ميلانشون يحلم بيوتوبيا جديدة لفرنسا والعالم

جان لوك ميلانشون، الخطيب المفوّه، والمرشح لرئاسة فرنسا لثلاث مرات، والزّعيم الكاريزمي الاستقطابي لليسار الراديكالي، قوة لا يمكن تجاهلها في السياسة الفرنسية اليوم، وربما الشخصيّة الوحيدة التي يمكنها منافسة صعود اليمين المتطرف بقيادة مارين لوبان. وبعكس كثير من السياسيين المعاصرين في فرنسا المتسمين بالضحالة الفكريّة وغياب الرؤية، فإن رئيس حزب «فرنسا التي لا تنحني» (La France Insoumise) مثقف من الدرجة الأولى، وضع إلى الآن نحو عشرين كتاباً يعد بعضها من أكثر كتب اليسار مبيعاً في فرنسا، الأمة الأكثر ولعاً بالكتب في القارة الأوروبيّة، وقد قدّم بعد نصف قرن من الانخراط في العمل السياسيّ رؤية جريئة لتغيير ثوري في نظام بلاده - والعالم - في كتابه الأحدث «الآن، الناس! الثورة في القرن الحادي والعشرين*»، الذي صدرت ترجمته إلى الإنجليزية للتو عن دار «فيرسو» في نيويورك ولندن.

«الآن، الناس!» كأنه أنشودة جديدة لسلطة الشعب، تنتقل بقارئها من التجمعات الأولى للبشر إلى فرنسا القرن الحادي والعشرين: المنقسمة والقلقة والمتراجعة المكانة، ويخلص إلى أنّ تقاطع الزمان - المكان في هذه اللحظة من التاريخ أرض خصبة لثورة سلميّة لا عنف فيها، يسترد من خلالها الشعب سلطة سلبتها منه الطبقة البرجوازيّة، ويعيد تشكيل النظام على نحو جديد، يقبل التنوع ويغتني بالاختلاف، ويكمل ما لم يكتمل في الثورة الفرنسيّة (1789).

ليس الشعب في رؤية ميلانشون مجرد طرح شعبوي للحصول على رضا الجمهور، بقدر ما هو غوص في عمق التجربة السياسية في فرنسا التي لدى قيام جمهوريتها الأولى - 1792 أي بعد ثلاث سنوات على ثورة الباستيل - تبنت دستوراً يضع السيادة والسلطة بيد المواطنين الفرنسيين. ومن ذلك الحين، أصبحت الإشارة إلى «الشعب» بوصفه مصدر السلطات لازمة في كل تعاقب الجمهوريات إلى اليوم.

ميلانشون - في الممارسة والكتاب معاً - يصنّف نفسه بوضوح في هذا التقليد كـ«جمهوريّ» وليس مجرد «يساري»، وكثيراً ما يقارن نفسه بجان جوريس (1859 - 1914) المؤسس الأسطوري للحركة الاشتراكية الفرنسية المعاصرة الذي رفض فكرة «ديكتاتوريّة البروليتاريا» الماركسيّة، وآمن بالإصلاح المتدرّج من خلال المؤسسات الديمقراطية.

وبالطبع فإن خطاب كل النخب السياسيّة المعاصرة في فرنسا يمينها قبل يسارها، وحكومتها قبل معارضتها، يُعلي من شأن سيادة الشعب ويتغنّى بها، لكن ميلانشون يجادل بأن الثورة الفرنسية لم تذهب بعيداً بما فيه الكفاية في تطبيق هذه الفكرة البراقة، ويقترح أن حرية حقيقية للمواطنين لا يمكن العثور عليها إلا في ثورة دائمة، وتحديث متواتر للمسلمات السياسية، وقلبها رأساً على عقب ارتباطاً بالوقائع المادية المتغيرة باستمرار.

يرى ميلانشون أن التفاوتات الاجتماعية ومختلف أنواع التمييز والانقسامات الناجمة عن الكراهية الدينية أو العنصرية تقوض قدرة البشر على بناء التضامن الجمعي، وتنحو الأنظمة الرأسمالية المعاصرة إلى تشجيع النجاح المهني والخلاص الفردي دون كبير اعتناء بمستقبل المساواة أو المجتمع السعيد في وقت وصل فيه قطار التاريخ إلى محطة أحد أبرز معالمها صعود «شعب» بشري واحد، يعيش فيما يشبه قرية عالميّة، يوحده مصير مشترك، واعتمادية متبادلة على نظام إيكولوجي مهدد.

هذه المحطّة في حد ذاتها توفر، حسب ميلانشون، دائماً، نقطة البداية لكتابة فصل جديد من تاريخ البشرية، وعنده في هذه القرية العالميّة، ثمة أساس موضوعيّ لعالمية الحقوق فيها، إذ لدينا - مهما تنوعت أصولنا والمنابت - الاحتياجات ذاتها التي لا مفرّ منها، وينبغي أن يكون لدينا جميعاً الحق في تلبيتها، وهو ما يكرّس الحاجة إلى نظام عالميّ مغاير يربط البشريّة - المترابطة موضوعيّاً - ببعضها البعض، وينهي وعثاء رأسمالية القلّة المتنفذة، لمصلحة اعتماد متساوٍ على النظام البيئي عابر للقوميات والأعراق والثقافات.

يستعين هنا ميلانشون بفكرة مثيرة للاهتمام للوصول إلى ثقافة بشرية مشتركة تتجاوز الأوضاع القائمة: الكريول (creolization)، وهو مفهوم أنثروبولوجي - صاغه الفيلسوف إدوارد جليسان - عن الاختلاط الثقافيّ أخذ اسمه من لغة جديدة نشأت بين الأفارقة المخطوفين عبيداً إلى جزر الهند الغربيّة وأميركا الجنوبيّة. أولئك التعساء ضحايا المنظومة الإمبرياليّة الذين اختطفوا من جميع أنحاء أفريقيا لم يتحدثوا اللغة نفسها كي يمكنهم التفاهم فيما بينهم - أو مع مالكيهم -، لكن التواصل كان ضرورة حتميّة تنتفي من دونها استمراريّة العيش، وهكذا طور أولئك الأفارقة المستعبدون لغة جديدة مشتركة مكنتهم من التواصل مع بعضهم البعض والعودة إلى عالم العلاقات الإنسانية. وللمفارقة، فقد حدث ذلك في المرحلة نفسها التي تم فيها تجريدهم من انتمائهم للبشر، ومعاملتهم كأشياء يمكن امتلاكها، فكان ابتداعهم لـ«الكريول» الطريقة التي أعادوا بها تأكيد إنسانيتهم.

يرى ميلانشون أن حرية حقيقية للمواطنين لا يمكن العثور عليها إلا في ثورة دائمة 

تختلف فكرة «الكريول» الذي يطرحه ميلانشون عن مجتمعات الميستيزو التي نشأت في أميركا اللاتينية من اختلاط المستعمرين الأوروبيين بالسكان الأصليين لأنه مفهوم ثقافي اختياري بحت ليس له بالضرورة أي جانب بيولوجي، ويبدو من وجهة نظر سياسية أشبه بتلك الحلقة المفقودة بين الرغبة في العالمية وتأكيد الحق في الاختلاف، وممر نحو شيء جديد حيث لن يكون هناك فرق كاف بين البشر لمنعهم من الاندماج والعمل سوية لإنتاج كل أنواع الأشياء الجديدة المشتركة بينهم، تماماً كما يحدث اليوم من خلال الموسيقى، والمسلسلات التلفزيونيّة، والكلمات، والأجهزة، والطبخ، وطرز الملابس التي تصل إلى العالمية على نحو يسمح باندماج السلوكيات والمعايير، ويؤسس لثقافة تراكمية مستقبلية.

أهي يوتوبيا أخرى؟

لعل كثيراً مما يطرحه هذا السياسيّ الطموح له رصيد من واقع أسست له العولمة وتشظي التكنولوجيات، لكّن طرحه النخبوي الراقي في هذا الكتاب يخاطر بفقدان التواصل مع «الشعب» ذاته الذي يريد استدعاءه لتسلم السلطات وتغيير العالم، فثلثا الفرنسيين - وفق شعبيّة حزبه كمقياس - قد لا يتقاطعون معه في شكل العالم الذي يرسمه، بل إن أكثر من نصف اليسار الفرنسيّ يعدُّ رؤيته للسلطة الشعبية كما خيانة لقيم التنوير العلمانية التي تأسست عليها فرنسا. ومع ذلك فإن ميلانشون في مغامرته «الآن، الناس!» أشبه برائد حكيم تطوّع ليقرع للناس الجرس من مستقبل يزداد قتامة، ويحتاج إلى مقاربة مغايرة إذا كان لنا أن ننجو، كمجموعة بشريّة، معاً.


مقالات ذات صلة

ترجمة دقيقة ودراسة متأنية لمسرحية ستريندبرغ

ثقافة وفنون ترجمة دقيقة ودراسة متأنية لمسرحية ستريندبرغ

ترجمة دقيقة ودراسة متأنية لمسرحية ستريندبرغ

قف أمام «الآنسة جولي» بحلّتها العربية الجديدة، حائراً من أين أبدأ في الكتابة عن هذه التراجيديا التي تعكس قساوة الواقع المعيش؟ مِن مؤلفها،

طالب عبد الأمير
ثقافة وفنون عبد الله القصيمي... المؤمن الشكوكي

عبد الله القصيمي... المؤمن الشكوكي

أثير من جديد في الوسط الثقافي السعودي النقاش عن الفيلسوف عبد الله القصيمي، ودعوى «إلحاده ومروقه من الدين»، وأنه مفكر ماديّ،

خالد الغنامي
ثقافة وفنون «وكالة النجوم البيضاء»... الواقع من منظور سينمائي

«وكالة النجوم البيضاء»... الواقع من منظور سينمائي

في روايته الجديدة «وكالة النجوم البيضاء» الصادرة أخيراً عن «دار الشروق» بالقاهرة، يتعامل الكاتب عمرو العادلي مع السينما على مستويين متوازيين؛

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون عندما تصبح حكايات الكتب بدلاً عن ضائع

عندما تصبح حكايات الكتب بدلاً عن ضائع

غالباً ما يقوم العمود الفقري للقصص على ثنائيات، أو ثنائي واحد. هذه المرة يأخذنا عبده وازن في روايته «الحياة ليست رواية» الصادرة عن «دار المتوسط»

سوسن الأبطح
ثقافة وفنون المأزق الشخصي في عباءة الهم السياسي العام

المأزق الشخصي في عباءة الهم السياسي العام

في رواية «إبحار بلا نهاية» للكاتب نعيم صبري، يمتزج المأزق الشخصي للأبطال بالهم السياسي العام، الذي يتصاعد مع أبرز الأحداث الشهيرة في تلك الفترة

«الشرق الأوسط» ( القاهرة)

فوز الكاتب البريطاني المجري ديفيد سالوي بجائزة بوكر عن روايته «فلِش»

الكاتب البريطاني المجري ديفيد سالوي بعيد نيله جائزة بوكر البريطانية (أ.ب)
الكاتب البريطاني المجري ديفيد سالوي بعيد نيله جائزة بوكر البريطانية (أ.ب)
TT

فوز الكاتب البريطاني المجري ديفيد سالوي بجائزة بوكر عن روايته «فلِش»

الكاتب البريطاني المجري ديفيد سالوي بعيد نيله جائزة بوكر البريطانية (أ.ب)
الكاتب البريطاني المجري ديفيد سالوي بعيد نيله جائزة بوكر البريطانية (أ.ب)

فاز الكاتب البريطاني المجري ديفيد سالوي الاثنين بجائزة بوكر البريطانية المرموقة التي تكافئ الأعمال الروائية المكتوبة باللغة الإنكليزية، عن روايته «فلِش».

وتفوق سالوي (52 عاما) على الروائية الهندية كيران ديساي التي فازت بالجائزة عام 2006 والبريطاني أندرو ميلر، ليحصل على الجائزة البالغة قيمتها 50 ألف جنيه استرليني (65500 دولار) والتي أعلنت في حفلة بلندن. ومن بين الروائيين الستة الذين تأهلوا الروائية الأميركية وراقصة الباليه السابقة كاتي كيتامورا وبن ماركوفيتس وسوزان تشوي.

وكان سالوي رشِح سابقا للقائمة القصيرة للجائزة عام 2016 عن عمله «آل ذات مان إز». وتدور رواية «فلِش»، وهي السادسة لسالوي، حول رجل مجري من الطبقة العاملة ينتقل من الخدمة العسكرية في وطنه إلى العمل مع أثرى الأثرياء في لندن. وتشمل حياته المعذبة علاقاته بنساء أكبر منه سنا والقتال في العراق.

وتضمنت لجنة التحكيم رئيسها والفائز السابق بالجائزة رودي دويل والممثلة سارة جيسيكا باركر بطلة مسلسل «سكس أند ذي سيتي».


بجسدٍ معطّل وعقلٍ لمّاح... غسان جبرا يُنجز كتاباً يروي رحلته مع الضمور العضلي

أصدر غسان جبرا كتاباً عن رحلته الجسدية والروحية مع الضمور العضلي (الشرق الأوسط)
أصدر غسان جبرا كتاباً عن رحلته الجسدية والروحية مع الضمور العضلي (الشرق الأوسط)
TT

بجسدٍ معطّل وعقلٍ لمّاح... غسان جبرا يُنجز كتاباً يروي رحلته مع الضمور العضلي

أصدر غسان جبرا كتاباً عن رحلته الجسدية والروحية مع الضمور العضلي (الشرق الأوسط)
أصدر غسان جبرا كتاباً عن رحلته الجسدية والروحية مع الضمور العضلي (الشرق الأوسط)

«علمياً وطبياً، لا يجب أن أكون على قيد الحياة. لكن لأنني أحب الحياة فأنا على قيدها، وهذا أعظم إنجازاتي». إنها حكمة غسان جبرا الذي بدأ جسده بالتلاشي قبل أن يبلغ الـ10 من عمره. اليوم، على مشارف الـ40، ما زال الشاب السوري اللبناني يبتسم للحياة من على كرسيّه الكهربائي النقّال المحصّن بأجهزة التنفّس.

الضمور العضلي الذي يعانيه منذ الطفولة لم يهزم ابتسامته ولا فكرَه. فثاني أعظم الإنجازات في رصيده حتى اليوم، كتابٌ نشره قبل أشهر بعنوان «كلمة على ورق». سيرةُ حياةٍ غير اعتيادية رواها جبرا دامجاً ما بين أحداث مفصلية طبعت مشواره، ومعانٍ روحية وإنسانية استقاها من تلك الرحلة المحفوفة بالآلام والآمال.

«كلمة على ورق» تجربة حياة استثنائية يرويها غسان جبرا (الشرق الأوسط)

في بيته الثاني، جمعيّة «أنت أخي» اللبنانية، حيث يقيم ويتلقّى الحب والرعاية والعلاج، عمل جبرا على كتابه خلال 5 سنوات. وبما أنه لا يستطيع تحريك سوى عينَيه وشفتَيه، أملى ذكرياته وخواطره وأفكاره على معاونين ومتطوعين سكبوها على الورق، ثم أعادوا صياغتها.

«أجمل أيام حياتي كان اليوم الذي تلقّيت فيه النسخة الأولى من الكتاب، واكتملت الفرحة خلال حفل التوقيع في معرض بيروت للكتاب»، يخبر جبرا «الشرق الأوسط». في الحفل الذي حضره رفاق غسان وأقرباؤه وزملاؤه في الجمعية وشخصيات إعلامية وثقافية، شعر وكأن الإنجاز ليس فردياً بل لكل فردٍ من عائلة «أنت أخي».

من حفل توقيع كتاب غسان جبرا في معرض بيروت العربي والدولي (جمعية أنت أخي)

طفلاً، بدأت ملامح الضمور العضلي تظهر على غسان. كان يسقط أرضاً ويفقد تدريجياً قدرته على المشي. ومع مرور السنوات وتعطّل العضلات واحدةً تلو أخرى، انتقل إلى مؤسسة «سيسوبيل» التي تعنى بالأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، ومنها لاحقاً إلى «أنت أخي»، حيث تبدّلت الاحتياجات مع تفاقم الإعاقة.

في تلك الآونة، أصبح غسان جبرا أسير الكرسيّ إلا أن أجنحةً بدأت تنبت له. «سقطت كل الأقنعة في المؤسسة. تجرّدت من كل شيء وصرتُ أنا. أصبحت قادراً على أن أتكلّم أكثر عن طفولتي وما عدت أخجل من أصولي السورية ولا من فقري. تحررتُ من نفسي»، يروي الشاب في كتابه. وقد حصل ذلك بفضل التنشئة الحياتية والروحية التي بدأ يتلقّاها.

اختبر غسان جبرا ولادة جديدة في جمعية «أنت أخي» (صور الجمعية)

«تعلّمتُ من خلال التنشئة ألّا أركّز على ما فقدت، بل على ما أملك. وأكبر طاقة موجودة لديّ ولدى كل إنسان، هي طاقة الحب التي لا يستطيع أي شيء أن يمسّ بها، ولا حتى الإعاقة». قد يصعب على كثيرين التصديق أنّ هكذا كلام صادرٌ عن شابٍ لم يعرف من الحياة سوى الألم الجسدي، والبقاء رهينة كرسيّ نقّال طيلة العمر. بين نفَسٍ وآخر يسحبه من أنبوب الأوكسيجين المعلّق بكرسيّه، يقول جبرا: «عندما أدركت ما هي رسالتي على هذه الأرض، تمسكت بالحياة وأردت أن أساعد غيري على المستوى الروحي».

يقضي الضمور العضليّ على كل عضلة في الجسد، بما في ذلك الرئتَان والقلب. أما المصابون به فينخفض متوسط العمر لديهم وغالباً ما يفارقون الحياة في سن الشباب، على غرار ما حصل مع شقيق غسان. كان وقعُ رحيل أخيه (غريب) ثقيلاً عليه، ثم جاء التحدّي الأصعب الذي أدخله في دوّامة من الكآبة والإحباط؛ «حين ما عاد باستطاعتي مضغ الطعام وصار عليّ تناوله مطحوناً، لم أتقبّل الأمر»، يخبر جبرا. إلا أنّ قصة حبٍ جمعته برفيقة له في المؤسسة كانت حبل الخلاص الذي أخرجه من الدوّامة، إذ استطاعت الفتاة إقناعه بأسلوب الأكل الجديد.

مع أحد رفاقه في حفل التوقيع الكتاب (جمعية أنت أخي)

اليوم، لا يملك غسان جبرا سوى صوته المتقطّع للتعبير عمّا يكتنز عقله وروحه. له أيضاً عينان تصّران على الابتسام. أما باقي أعضاء جسده فمعطّل. لا يستطيع أن يقوم بأي شيءٍ بمفرده، لا الأكل ولا الاستحمام ولا التقاطَ غرضٍ ما، وهو يمضي معظم يومه مستلقياً على السرير. لذلك، فإنّ مرافقاً يلازمه ليل نهار، وقد تحوّل هذا الارتباط الوثيق والحيوي بالمرافقين إلى درس حياة بالنسبة إليه، إذ طوّر من خلاله علاقته بالآخرين.

إلا أن أكثر ما حفر في غسان وصنع منه إنساناً جديداً يحلّق بفِكره وروحه فوق جماد الكرسيّ والعضل الذابل، التنشئة الروحية والإنسانية التي تلقّاها في «أنت أخي». تستند التنشئة إلى مبادئ وحقائق وجودية على غرار: «الله يحبني كيفما كنت». يقول غسان إن هكذا حقائق تحولت إلى حصانة في حياته بوجه الصعوبات. وهو صار حالياً جزءاً أساسياً من برنامج التنشئة هذا، بما أنه أحد أهم الشهود على ثمارها.

«لديّ حصة ثابتة في برنامج التنشئة حيث أنقل خبراتي الحياتية والروحية إلى أشخاص أصحّاء ومن ذوي الاحتياجات الخاصة كذلك»، يوضح جبرا.

يهوى غسان جبرا لعبة طاولة الزهر ويحلم بتأسيس مقهى (جمعية أنت أخي)

لديه إيمانٌ راسخ يعبّر عنه في يومياته وفي الكتاب، بأن الحياة حمّلته رسالة يؤدّيها. «فهمت أن رسالتي هي أن أشهد أن الحياة جميلة وتستحق أن نعيشها بالرغم من صعوباتها وتعقيداتها. عندما يرى الآخر أنني سعيد في حياتي، يساعده ذلك على أن يستمر في حياته، كما أفعل أنا». يتابع: «لديّ هدف وحلم أحققه، وهو أن أعكس الفرح والسلام لكل من يراني. علّمتني التنشئة الوجودية أن أعرف دوري ورسالتي في الحياة».

ما زالت الأحلام كثيرة في بال غسان. «أولاً أريد أن أدخل كتاب غينيس كأول شخص يعيش أكبر عدد من السنوات وهو في الحالة هذه». حلمٌ آخر يراوده، بما أنه عاشقٌ للعبة طاولة الزهر أو النرد، فهو يرغب في تأسيس مقهى تراثي يلعب فيه الروّاد النرد، ويتبادلون الأحاديث الإنسانية، ويستمعون إلى تجربته الاستثنائية التي حرمته تحريك الحجارة إلا أنها رمت له زهرَ البصيرة والارتقاء الروحي.


«انتصار العواطف»: الجغرافيا السياسية بين المشاعر والمصالح

دومينيك مويسي
دومينيك مويسي
TT

«انتصار العواطف»: الجغرافيا السياسية بين المشاعر والمصالح

دومينيك مويسي
دومينيك مويسي

بعد خمسة عشر عاماً من طرحه نظرية «صراع العواطف» في كتابه المؤثر «الجغرافيا السياسية للعواطف»، يعود المفكر الفرنسي البارز دومينيك مويسي ليطلق حكماً قاطعاً في عمله الجديد «انتصار العواطف: الجغرافيا السياسية في عصر الاستياء والغضب والخوف». وإذا كان الأول تشخيصاً وتحذيراً، فالأخير يبدو كشهادة استسلام حزينة؛ فالعواطف لم تعد مجرد عامل مؤثر، بل لقد «انتصرت»، والعالم اليوم أقرب بكثير إلى «سيناريو أسوأ الحالات» الذي كان قد تخيله سابقاً.

يأتي «انتصار العواطف» في لحظة فارقة، تتزامن مع عودة الحرب إلى أوروبا، وتصاعد التوتر بين الولايات المتحدة والصين، وتشظي السياسات الداخلية في الديمقراطيات الغربية. يقدم مويسي، الذي يصف نفسه بأنه «واقعي قادر على المثالية»، إطاراً جديداً لفهم هذا العالم المضطرب، متجاوزاً التحليلات التقليدية القائمة على المصالح والقوة العسكرية، ليغوص في محيط المشاعر الجمعية التي، من وجهة نظره، باتت المحرك الرئيسي للأحداث.

ينطلق من فرضية أن الخريطة العاطفية للعالم قد تغيرت وأصبحت أكثر قتامة وتعقيداً. ففي عام 2009، كان «الأمل» قد ملأ آسيا الصاعدة، فيما استحكم «الإذلال» في العالم العربي الإسلامي، وانتشر «الخوف» في الغرب. أما اليوم، فقد تضاعفت هذه المشاعر وتداخلت، وولدت مشاعر أكثر بدائية مثل «الغضب والاستياء، إن لم يكن الحنق والكراهية».

لمواكبة هذا التحول، يقترح النظر إلى العالم بوصفه نظاماً عالمياً ثلاثي الأقطاب، لا يقوم على الجغرافيا الصرفة، بل على حالة عاطفية مشتركة: غرب عالميّ -يضم أميركا الشمالية وأوروبا واليابان وكوريا الجنوبية- تهيمن عليه مشاعر الخوف ويبحث عن طرائق للتكيّف، وشرق عالمي –الصين وروسيا ومعهما دول مارقة في المفهوم الغربي مثل كوريا الشمالية وإيران- تسيطر عليه مشاعر الإذلال والغضب، وجنوب عالمي -يضم القوى الصاعدة مثل الهند والبرازيل ودول أفريقيا- تتصارع فيه مشاعر الأمل والاستياء.

الغرب لم يعد مركز العالم كما كان عليه الحال لقرون. إنه خائف ويتوجس من تراجع نفوذه، وتحديات الهجرة وتغير المناخ، ولكنه مرعوب أكثر من تفككه الداخلي بسبب الاستقطاب السياسي وصعود الشعبوية.

أما الشرق فأُمم تستخدم شعور الإذلال التاريخي سلاحاً لتبرير سياساتها العدوانية -وفق المؤلف دائماً- داخلياً وخارجياً، فيما الجنوب يشعر بالتفاؤل إزاء مستقبله الاقتصادي والديمغرافي، لكنه في الوقت ذاته مستاء بشدة من الغرب بسبب الإرث الاستعماري وازدواجية المعايير التي يراها في النظام الدولي الحالي.

ولعل قوته الأساس تكمن في لغة وأسلوب الصياغة الشخصي الجذاب. فهو لا يتردد في مشاركة المتلقي حكاياته وتجاربه، من نقاش حاد في سنغافورة حول «القيم الآسيوية» إلى إدراكه المفاجئ بعد غزو أوكرانيا أن أصوله ليست «يهودية روسية» بل «يهودية أوكرانية». هذه اللمسات الشخصية تجعل مُنتجه مقالاً طويلاً وممتعاً أكثر منه دراسة أكاديمية جافة، وتمنح أفكاره وزناً إنسانياً يتجاوز مجرد التحليل الجيوسياسي.

كما ينجح ببراعة، في تشخيص أزمة الغرب الداخلية، خصوصاً الانقسام العميق في الولايات المتحدة. تحليله للعلاقة بين هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، واقتحام الكابيتول في 6 يناير (كانون الأول) 2021.

كما يقدم رؤية ثاقبة لكيفية تحول التهديد الخارجي إلى وقود للاستقطاب الداخلي، ووصفه إسرائيل بأنها «طليعة ما يعرّض النموذج الديمقراطي الغربي للخطر» هو كذلك ملاحظة جريئة وقوية من كاتب يهودي.

لكنَّ هذا الأسلوب الشخصي قد يُرى أيضاً بعين التقييم الأكاديمي على أنه مصدر ضعف، إذ يبدو أحياناً تجميعاً لردود فعل مؤلفه العاطفية الداخلية في شكل مكتوب. فالتحليل يعتمد بشكل كبير على انطباعاته ومشاعره، مع غياب شبه تام للأدلة المنهجية أو البيانات المسحية التي تدعم تعميماته الواسعة المطلقة.

يتزامن الكتاب مع عودة شبح الحرب الباردة وتصاعد التوتر بين أميركا والصين وتشظي السياسات الداخلية في الديمقراطيات الغربية

وهنا تحديداً تبرز إشكالية التعميم كأكبر عيب في طروحاته. فهل يمكن حقاً اختزال مشاعر مليارات البشر فيما يسمى «الجنوب العالمي» في كلمتي «الأمل والاستياء»؟ وهل كل دول «الشرق العالمي» غاضبة بنفس الدرجة ولنفس الأسباب؟ إن هذا التبسيط المفرط يخاطر بتحويل كتل بشرية وحضارات معقدة إلى مجرد رسوم كاريكاتورية عاطفية، وهو ما يُضعف من القوة التحليلية للإطار الذي يقترحه، رغم أهميته كمكوّن -على مستوى ما- من مكونات الصورة الكليّة.

العيب الآخر هو المركزية الغربية الواضحة. على الرغم من اعترافه بتراجع هيمنة الغرب، فإن مويسي يظل أسيراً لسردياته. يصف زيلينسكي -الرئيس الأوكراني- بأنه «شبيه تشرشل»، ويرى الحرب في أوكرانيا صراعاً أخلاقياً واضحاً بين ثنائية شديدة التبسيط بين خير وشر، بينما يتعامل مع استياء الجنوب العالمي من الاستعمار على أنها عاطفة طفولية يجب تجاوزها. هذا التحيز، غير المقصود على الأرجح، يجعل من الصعب في مكان أن يكون جسراً حقيقياً لفهم وجهات نظر الآخرين، بل يكرس «الطلاق العاطفي» الذي يسعى لوصفه.

في الخلاصة، «انتصار العواطف» نتاج مهم ومستفز فكرياً، ينجح في التقاط روح العصر المضطرب الذي نعيشه، إذ يبدو أن الهويات والانفعالات تتفوق على النقاشات العقلانية. إنه نافذة ممتازة على عقلية النخبة الليبرالية الأوروبية وهي تحاول فهم عالم يخرج عن سيطرتها، ويتفلت من هيمنتها التاريخية.

ومع ذلك، لا ينبغي قراءته على أنه دليل موضوعي لفهم الجغرافيا السياسية. فضعفه المنهجي وتحيزاته الكامنة يجعلان منه أداة تحليلية محدودة القيمة. ربما يكون الإرث الأكبر له أنه هو نفسه دليل على الظاهرة التي يصفها؛ فهو عمل انتصرت فيه السردية العاطفية للمؤلف على التحليل المنهجي الصارم. «انتصار العواطف» لا غنى عنه لقراءة وفهم نوازع القلق الغربي المعاصر، ولكنه قاصر عن تقديم فهم عميق ومتوازن لبقية العالم.

The Triumph of Emotions: Geopolitics in an Age of Resentment, Anger and Fear

By Dominique Moïsi, Polity Press 2025

عاجل عاجل | افتتاح مراكز الاقتراع في العراق وبدء التصويت لاختيار أعضاء البرلمان الجديد