عندما نشر الروائي ألدوس هكسلي روايته التاريخية «عالم جديد شجاع Brave New World» عام 1932، كان منقاداً برؤية مستقبلية لتطوّر العلم تنبئ بالحذر والتحسّب ممّا قد تؤول إليه مفاعيل التطوّر العلمي والتقني ومنعكساتهما على الاقتصاد والسياسة. يبدو أنّ مهندس البرمجيات ومبتكر النمط الثوري الجديد في التعليم الرقمي سلمان خان استأنس أفكار هكسلي ففكّر في كتابة كتاب جديد، أراد من عنوانه أن يتصادى في الإيقاع مع كتاب هكسلي. اختار خان لكتابه الجديد عنوان «كلمات جديدة شجاعة Brave New Words» مع عنوان ثانوي يكشف عن طبيعة موضوعه «كيف سيعمل الذكاء الاصطناعي على تثوير التعليم، ولماذا يعدُّ هذا أمراً طيّباً؟». يمكنُ في السياق العام ملاحظة اختلافيّن جوهريين بين الكتابيْن: كان هكسلي يتحرّك بدفعٍ من رؤية ديستوبية شديدة التحسّب؛ أمّا خان فنراه يحلّقُ بجناحين من أجنحة بروميثيوس المحمّلة بوهج الثمار المتخيّلة للثورة القادمة. أما التمايز الثاني فيكمنُ في أنّ هكسلي رسم ملامح صورة عامة متخيّلة (أقرب إلى روايات الخيال العلمي) عن مستقبل بشري؛ في حين أنّ خان يحكي عن ثورة علمية تقنية كان هو المبادر للبدء في إذكاء جذوتها المتقدة، وأعني بها ثورة التعليم الرقمي والمنصّات التعليمية المجانية.

كان المستقبل المهني لخان (المولود عام 1977) بولاية لويزيانا الأميركية لأبوين هنديين مهاجرين يبشر بجوائز ثمينة تنتظره؛ فقد التحق بعد إكمال دراسته الثانوية بتفوّق بمعهد ماساتشوستس التقني MIT لدراسة مشتركة بين الرياضيات والهندسة الكهربائية وعلم الحاسوب، وبعدما أكمل الدراستيْن بتفوّق ملحوظ أكمل دراسته العليا (الماجستير) في الهندسة الكهربائية، وبعدما أتمّ هذه الدراسة حصل على شهادة ماجستير أخرى في إدارة الأعمال من جامعة هارفارد.
في عام 2006 أسّس أكاديمية خان Khan Academy لمشاركة محتوى الدروس الخصوصية الذي أنشأه لأفراد العائلة الأصغر سناً مع جمهور أوسع. منذ ذلك الحين ساعدت منصّته التعليمية عبر الشبكة العالمية (الإنترنت) في تعليم أكثر من 150 مليون شخص حول العالم.
فصلاً تلو الآخر، يُطلِعُ خان القرّاء على تنبؤاته - التي تحقق بعضها منذ تأليف الكتاب أواسط عام 2024 - حول تطبيقات الذكاء الاصطناعي العديدة في التعليم. رؤية خان بشأن التعليم هي التالية: سيُحسّن الذكاء الاصطناعي بشكل جذري كلاً من نتائج الطلّاب وتجارب المعلمين، وسيُسهم في بناء مستقبل يُتاحُ فيه للجميع الوصول لتعليم عالي المستوى وعلى نطاق عالمي.
قد يميل كثيرون منّا لتفضيل مُقاربة تشكيكية في رؤية خان، بخاصّة إذا كان ممّن يتابعون حركة التقنية التعليمية من غير انقطاع. أظنّ أنّ السبب واضح: لعقود عديدة تصدّرت التقنيات والابتكارات المُثيرة عناوين الصحف، مصحوبة بوعود جريئة مماثلة لإحداث ثورة في التعلّم والتعليم كما نعرفهما؛ ولكن دون أن تُحدث تأثيراً يُذكر في الفصول الدراسية الحقيقية. لكنّ الأمر مع خان يختلف تماماً لو درسنا بدقّة أراءه وتطبيقاته التي تتأسّس على خبرة حقيقية ولا تكتفي بالوعود التبشيرية يوتوبية الطابع. أنشأ خان - بالاعتماد على خبرته التقنية الشخصية - تطبيقاً تعليمياً أسماه خانميغو Khanmigo، وهو مُعلّم مُدعم بالذكاء الاصطناعي. يُقدّم خان حجة مُقنعة، مفادُها أن التقنيات المُدعمة بالذكاء الاصطناعي ستكون مُختلفة؛ ذلك بعد أن صار بمستطاعنا أخيراً بلوغُ طريقة لتزويد كلّ طالب بالتعليم والدعم والتوجيه المُخصّص والمصمّم للإيفاء بمتطلباته الشخصية، وهو ما يوصفُ بالتعليم المشخصن Personalised Education، وهو النمط الذي كان سابقاً بعيداً عن متناول معظم الأطفال في معظم الفصول الدراسية. يصف خان هذا الأمر في كتابه بكلمات بسيطة شديدة الوضوح: «إن توفير مُعلّم بشري مُخصّص للإيفاء باحتياجات كل طالب عند الطلب أمرٌ مُكلف للغاية وعسير على التنفيذ؛ أما مُعلّمو الذكاء الاصطناعي فليسوا كذلك».
الأمثلة على التعليم المشخصن وقدراته الهائلة كثيرة للغاية. يقدّمُ خان أمثلة من بيئة التعليم الأميركي. تخيلْ مثلاً: أنت طالب في الصف السابع (وهو ما يعادل الأوّل ثانوي في مدارسنا العربية)، وتجد صعوبة في مواكبة الرياضيات. لكن الآن لديك مُعلّم ذكاء اصطناعي بجانبك مثل الذي يصفه خان. أثناء حلّك لمجموعة من مسائل الكسور الصعبة لن يُقدّم لك الحل فحسب؛ بل سيُقسّم كل مسألة إلى خطوات سهلة الفهم. عندما تواجه صعوبة في كلّ خطوة سيُقدّم لك تفسيرات سهلة الفهم، ودفعة لطيفة نحو الطريق الصحيح. عندما تحصل أخيراً على الإجابة الصحيحة سيُولّد برنامج التعليم المدعم بالذكاء الاصطناعي تقديم أسئلة تدريبية مُحدّدة تُساعدك على بناء فهمك وثقتك بنفسك.
ليس الأمر مقتصراً على الرياضيات وحدها. بمساعدة مُعلّم الذكاء الاصطناعي يمكنُ أن يُصبح الماضي حياً بطرق رائعة. أثناء تعلّمك عن قيادة أبراهام لينكولن خلال الحرب الأهلية، يُمكنك إجراء «حوار» مع الرئيس السادس عشر نفسه. يمكن أن يحصل الأمر، كما يوضّح خان في كتابه، مع أية شخصية أدبية تحبها وتفضّلها.
الأمر ليس قصراً على الرياضيات والأدب والتاريخ والبيولوجيا والفيزياء والكيمياء. حتى كتابة المقالة ستكون واحدة من الموضوعات التي يهتمّ بها التعليم المدعم بالذكاء الاصطناعي. عندما يحين وقت كتابة مقال فليس على الطالب أن يقلق بشأن الصفحة الفارغة المُزعجة التي لا يعرف كيف السبيل للبدء في نقل أفكاره إليها. بدلاً من القلق غير المنتج سيطلب مُعلّم الذكاء الاصطناعي من الطالب مُحفّزات ذهنية لمساعدته على العصف الذهني. سيحصل الطالب على ملاحظات حول مخطط مقترح للمقالة في ثوانٍ، مع نصائح لتحسين المنطق أو الجوانب التي تحتاج إلى مزيد من البحث. أثناء صياغة مسودة ابتدائية للمقالة سيُقيّم معلّم الذكاء الاصطناعي كتابة الطالب بطريقة فورية - وهو أمرٌ يقع في مرتبة الاستحالة من دون هذه التقنية - ويُبيّن له أين يُمكنه توضيح أفكاره، أو تقديم المزيد من الأدلة، أو مُعالجة حجة مُضادة. قبل تقديم المقالة في صيغتها النهائية سيُقدّم المُعلّم الاصطناعي اقتراحات مُفصّلة لتحسين اللغة وتوضيح مسائل إشكالية محدّدة.
الموضوع الأساسي الذي يتوجّب التأكيد عليه هو أنّ الذكاء الاصطناعي ليس محض ثورة تقنية جديدة، بل هو عصر تنوير جديد؛ لذا لن يكون إتقان الذكاء الاصطناعي مجرد أمرٍ مُحببٍ خلال بضع سنوات، بل سيكون أمراً ضرورياً للعديد من المهن. الموظفون الذين يستطيعون استخدام الذكاء الاصطناعي بفعالية سيكونون أكثر قيمةً بكثير من غيرهم. نحن عندما نعمل على دمج هذه التقنية في التعليم، فإنّنا إنّما نُحسّن تجارب الطلاب ونتائجهم، ونُعدّهم لوظائف المستقبل التي ستصبح أكثر متعةً وإشباعاً مع وجود الذكاء الاصطناعي. هذا يشمل وظيفة التدريس أيضاً؛ فمع كل ابتكارٍ تقني يمثلُ انعطافه كبرى في حياتنا تُثار مخاوف من استيلاء الآلات على الوظائف؛ ولكن عندما يتعلق الأمر بالتعليم فليس على المرء سوى أن يتفق مع رؤية خان التي أوردها في كتابه: أدوات الذكاء الاصطناعي والمعلمون لا يُمكنهم أبداً، ولا ينبغي لهم أبداً، أن يحلوا محل المعلمين. ما يُمكن للذكاء الاصطناعي فعلُهُ هو دعمهم وتمكينهم.
آمن سلمان خان بأن الذكاء الاصطناعي سيحسن بشكل جذري كلاً من نتائج الطلّاب وتجارب المعلمين، وسيُسهم في بناء مستقبل يُتاحُ فيه للجميع الوصول لتعليم عالي المستوى
مع الذكاء الاصطناعي يُمكن للمعلّمين الحصولُ على مُساعد تدريس خارق للتعامل مع المهام الروتينية مثل تخطيط الدروس وتصحيحها، والتي تستغرق ما يقرب نصف يوم المعلم العادي. في ثوانٍ يُمكن لمساعد الذكاء الاصطناعي تصحيح اختبارات الإملاء أو إنشاء خطة درس تربط الثورة الصناعية بالأحداث الجارية، ويمكنه أيضاً مراقبةُ تقدم كل طالب وإعطاء المعلمين ملاحظات فورية، ممّا يسمح بعصر جديد من التعلم الشخصي المقترن بالشغف ولذّة الاكتشاف. فضلاً عن ذلك، ومع وجود مساعدي الذكاء الاصطناعي الذين يتولون المهام اليومية، يمكن للمعلمين التركيزُ على ما يجيدونه: إلهام الطلاب، وبناء العلاقات، والتأكّد من أنّ جميع الطلّاب يشعرون بالاهتمام والدعم، وبخاصةً الأطفال الذين يحتاجون إلى القليل من المساعدة الإضافية.
بالطبع لكلّ تقنية جديدة محاذير وتحدّيات يتوجّبُ الانتباه لها، وهذا ما لا يغفل عنه خان في حومة تبشيره بالثورة التعليمية القادمة، مشيراً إلى أنّ هناك تحديات تواجه إدخال الذكاء الاصطناعي إلى المدارس على نطاق واسع. نحن في مسيس الحاجة إلى أنظمة تحمي خصوصية الطلاب وتخفف من التحيزات، ثمّ لا يزال هناك الكثير مما يجب فعله حتى يتمكّن كل طفل من الوصول إلى الأجهزة والاتصال اللازمين لاستخدام الذكاء الاصطناعي في المقام الأول. لا توجد تقنية تُعتبر حلاً سحرياً للتعليم؛ لكنّ الذكاء الاصطناعي يمكن أن يُحدث تغييراً جذرياً ويُحقق مساواة كبيرة بين المتعلّمين.
كتاب خان متخم بالوعود البروميثيوسية الجامحة، وهي وعود ليست بعيدة أو عسيرة التحقق. نحن نشهد تحقق بعضها في أيامنا هذه، وسنشهد تسارعاً حثيثاً في تحقيقها في السنوات القليلة المقبلة.
