كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

على نتنياهو وخامنئي والرئيس الأميركي المقبل أن يقرأوا كتاب جفري فافرو

الحرب الكورية
الحرب الكورية
TT
20

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية

اشتهر كارل فون كلاوزفيتز، كبير فلاسفة الحرب في الغرب، بملاحظته أن الحرب امتداد للسياسة، كما أشار إلى نقطة ثانية، وهي أن الحرب تابعة للسياسة، ومن ثم فهي تتشكّل من خلالها، مما يجعل «تأثيرها ملموساً حتى في أصغر التفاصيل العملياتية».

نحن نرى هذا اليوم في الشرق الأوسط، حيث قد تسترشد محاولات إنقاذ الرهائن الفتاكة، والاغتيالات الكبرى، كتلك التي أودت بحياة حسن نصر الله زعيم «حزب الله»، بنقاط سياسية بقدر ما تسترشد بالرغبة في إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن. وعلى الجانب الآخر من المعادلة، يبدو أن أحدث سرب من الصواريخ الباليستية الإيرانية، التي انفجر معظمها من دون ضرر فوق إسرائيل، كان عملاً من أعمال المسرح السياسي الذي يهدف في المقام الأول إلى رفع المعنويات على الجبهة الداخلية.

من المفيد لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وآية الله علي خامنئي من إيران، ناهيكم عن الرئيس الأميركي المقبل، أن يقرأوا كتاب جفري فافرو «حرب فيتنام: تاريخ عسكري» (652 صفحة، دار «بيسك بوكس» للنشر).

إنه يُلقي أفضل نظرة عامة على المغامرة الأميركية في جنوب شرقي آسيا، ومن المؤكد أنه سوف يصبح كتاباً معيارياً عن تلك الحرب، وبينما نتابع المعاناة الجارية في الشرق الأوسط، فإن هذا الكتاب يقدّم لنا أيضاً دروساً قوية بشأن المخاطر المترتبة على شن حرب مفتوحة من دون إستراتيجية حقيقية.

تركّز أغلب كتب التاريخ عن حرب فيتنام على الدبلوماسية والسياسة في الصراع، بالعودة إلى العمليات العسكرية للأحداث الرئيسية فقط، مثل هجوم «تيت» ومعركة مدينة «هوي»؛ إذ يتبع واورو، المؤرخ في جامعة نورث تكساس، نهجاً أكثر تنويراً.

ووفقاً لرأي فافرو، كان التدخل الأميركي في فيتنام بمثابة درس كبير في كيفية تجنّب شنّ الحرب، وقد أدى الاعتقاد الطائش في فاعلية القوة النارية المحضة، إلى حملات القصف الأميركية المدمِّرة التي كما يقول واورو: «أدّت إلى إحراق سُبع أراضي جنوب فيتنام» و«خلقت خمسة ملايين لاجئ داخلي»، على أمل دفع قوات «فيت كونغ» الفيتنامية إلى العراء، ورفض الخصم الشيوعي القتال بهذه الطريقة، بل كانوا يشتبكون سريعاً، ثم ينسحبون عندما يردّ الأميركيون بوابل عنيف من نيران المدفعية والغارات الجوية. في الأثناء ذاتها، كلما حاول الرئيس ليندون جونسون - الذي لم يدرس مبادئ كلاوزفيتز - فصل الحرب عن السياسة، بالكذب بشأن تكاليفها ورفض تعبئة الاحتياطي العسكري؛ صارت الحرب أكثر سياسية، وهيمنت على الخطاب الأميركي، ثم عصفت به خارج الرئاسة.

لم يكن أداء أميركا أفضل مع الهجمات المستهدفة، وكما هو الحال مع أجهزة البيجر المتفجرة التي استخدمتها إسرائيل، فإن برنامج «فينكس» من إعداد وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لاغتيال أعضاء «فيت كونغ» قد «ركّز على (القبض أو القتل)»، كما كتب واورو، وأدى إلى سقوط ضحايا أبرياء، كما أنه لم يؤدِّ إلى الاقتراب من نهاية الحرب؛ لأن البرنامج بأكمله كان مبنياً على «أرقام ملفقة»، كما يوضح المؤلف، «وليس على الواقع الحقيقي»، وكان البرنامج عبارة عن طريقة أخرى لقتل الناس من دون فهم الحرب.

جعلتني قراءة التاريخ الرائع الذي كتبه فافرو أفكّر في نتيجة لازمة جديدة لنظريات كلاوزفيتز: كلما كانت الاستراتيجية أقل تماسكاً في الحرب، أصبحت أكثر تسييساً، دخلت الولايات المتحدة الحرب لأسباب سياسية ودبلوماسية غامضة (الظهور بمظهر الصرامة أمام خصوم الحرب الباردة ليس نهاية المطاف). بعد عقدين من الزمان كان الغزو القصير والفوضوي لجنوب «لاوس» من قِبل القوات البرّية الفيتنامية الجنوبية والقوة الجوية الأميركية بمثابة «مسرحية سياسية، وليس حرباً»، ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية عام 1972، لم تكن هناك نهاية في الأفق، وكان الدافع وراء الهجوم هو رغبة الرئيس ريتشارد نيكسون في جعل الأمر يبدو وكأن فيتنام الجنوبية تتولّى زمام الأمور في القتال، وبدلاً من ذلك، زاد من زعزعة استقرار المنطقة، ولم يفعل شيئاً يُذكر لقطع خطوط إمداد العدو.

لحسن الحظ، خلال الحرب العالمية الثانية استخدمت الولايات المتحدة السياسة لخدمة المجهود الحربي بدلاً من العكس، وإن لم يكن الجميع يرَون الأمر على هذا النحو. في كتاب «أميركا أولاً: روزفلت ضد ليندبيرغ في ظل الحرب» (444 صفحة، دار «دوبلداي للنشر»)، يُصوّر إتش دبليو براندز، نجم الطيران الشهير تشارلز ليندبيرغ، الذي تحدث عن النزعة الانعزالية في البث الإذاعي الوطني، بوصفها أمراً ساذجاً، ولكن صادقاً، في حين يُصوّر الرئيس فرانكلين روزفلت بأنه مخادع بشكل ملحوظ في جهوده لدفع الولايات المتحدة إلى الحرب.

لكن في الواقع، كان فرانكلين روزفلت هدفاً كبيراً لهذه التهمة؛ إذ تعهد الرئيس أثناء حملته الانتخابية للفوز بولاية ثالثة غير مسبوقة، قائلاً: «لن يُرسَل أبناؤكم إلى أي حروب خارجية»، وكان جيمس، نجل روزفلت، يتساءل عن سبب اتخاذ والده هذا الموقف، فقال والده موضحاً: «جيمي، كنت أعلم أننا ذاهبون إلى الحرب، كنت متأكداً من أنه لا يوجد مخرج من ذلك، كان لزاماً أن أثقّف الناس بشأن الحتمية تدريجياً، خطوة بخطوة»، ربما يكون هذا مخادِعاً، لكن هذه السياسة ساعدت الأميركيين على المشاركة في المجهود الحربي، كان كلاوزفيتز ليفخر بذلك.

في الوقت نفسه، عندما يرفض ليندبيرغ الدعوة إلى هزيمة ألمانيا في أواخر يناير (كانون الثاني) 1941، يُعيد إلى الأذهان رفض دونالد ترمب دعم المعركة الأوكرانية ضد العدوان الروسي، ويلاحظ براندز، وهو مؤرخ في جامعة تكساس فرع أوستن، ليونةَ ليندبيرغ إزاء ألمانيا النازية، ولكن - في رسم صورة متعاطفة للرجل - يستبعد عديداً من التفاصيل التي تظهر في كتب أخرى، مثل السيرة الذاتية تأليف «إيه سكوت بيرغ»، الفائزة بجائزة بوليتزر لعام 1998.

لا يذكر براندز، على سبيل المثال، أن ليندبيرغ رفض في مايو (أيار) 1940 الحديث عن مخاطر انتصار النازية، بوصفه «ثرثرة هستيرية»، أو أنه، في العام نفسه، ألّفت زوجة الطيار آن مورو ليندبيرغ كتاب «موجة المستقبل»، وفيه جادلت بأن العهد الجديد ينتمي إلى أنظمة استبدادية، وكان ذلك الرجل يحمل مثل هذه الولاءات المُرِيبة حتى بعد بيرل هاربر، كما قال ليندبيرغ (في تصريحات أغفلها براندز أيضاً): «إن بريطانيا هي السبب الحقيقي وراء كل المتاعب في العالم اليوم».

إن مثل هذه الإغفالات تجعل كتاب براندز يبدو وكأنه مُوجَز متحيّز إلى ليندبيرغ أكثر من كونه كتاباً تاريخياً نزيهاً. كتب براندز يقول: «لقد أصاب ليندبيرغ كثيراً في حملته ضد الحداثة، لكنه أخطأ في أمر واحد كبير- فهو لم يرَ أن الأميركيين كانوا على استعداد للتدخل في الصراعات الخارجية». وأودّ أن أزعم أن ليندبيرغ كان مخطئاً أكثر من ذلك؛ فقد عبث بمعاداة السامية، وهو شيء ينتقص براندز من أهميته، وعلى نحو مفاجئ بالنسبة لطيار شهير، لم يكن يبدو أن لديه الكثير من البصيرة في دور القوة الجوية في الحرب، وحتى في القراءة الأكثر تعاطفاً، لا بد أن كلاوزفيتز كان ليحتدم غيظاً.

الجنرال البروسي العجوز هو موضوع تحليل جديد لاذع، وربما شديد التحريض من ناحية «أزار غات»، المؤرخ الفكري في جامعة تل أبيب. في كتابه «أسطورة كلاوزفيتز: أو ملابس الإمبراطور الجديدة» (228 صفحة، دار «كرونوس للنشر»)، يزعم غات أن كتاب كلاوزفيتز «عن الحرب» مؤثر بصورة رئيسية؛ لأنه مُحير للغاية. ويَخلُص إلى أن «الكثير من سمعة الكتاب تستند إلى سوء فهم دائم لما يعنيه في الواقع».

هناك في الأساس اثنان من كلاوزفيتز؛ الأول ألّف في وقت مبكر من حياته المهنية الكثير من كتب «عن الحرب»، بينما يسعى إلى فهم انتصارات نابليون السريعة والساحقة على بروسيا، والآخر كان يحاول بعد سنوات رسم مسارٍ لاستعادة بروسيا مكانتها في أوروبا، ولكن بدلاً من تأليف كتاب ثانٍ، كما يقول غات، عاد الضابط البروسي ونقّح كتاب «عن الحرب» بطرق تتناقض على نحو جَلِيّ مع بعض الأجزاء الأسبق من نفس الكتاب. بدأ كلاوزفيتز بكتابة أن النصر يعتمد على هزيمة سريعة للعدوّ في معركة كبيرة واحدة. وفي وقت لاحق أدرك أن العديد من الأطراف الفاعلة، سيما الأضعف منها، قد يكون لديها سبب لإطالة أمد القتال. وشرع في التنقيح، لكنه لم يكن لديه الوقت لعلاج هذا التضادّ قبل وفاته عام 1831.

وبينما كنت أقرأ كتاب غات، ظللتُ أفكّر في أنه لم يدرك النقطة الأكثر أهميةً؛ قد تشوب الأعمال الكلاسيكية حالة من النقص إلى حد بعيد؛ إذ تطرح أسئلة أكثر مما تقدّم من إجابات، وهو ما كان بمثابة طريق أكثر أماناً للاستمرار عبر الزمن. في الواقع، كانت واحدة من أشهر ملاحظات كلاوزفيتز تتعلّق بطرح الأسئلة، وهو يقول إنه قبل أن تتصاعد أعمال العنف يجب على القادة المفكرين أن يسألوا أنفسهم: ما نوع هذه الحرب؟ وما الذي تريد أمّتي تحقيقه؟ وهل يمكن أن تحقّق ذلك فعلاً؟

هذه اعتبارات جيدة. إن مواصلة حرب استنزاف لا نهاية لها، سواء في جنوب شرقي آسيا، أو في الشرق الأوسط، من غير المرجّح أن تؤدي إلا إلى المزيد من الفوضى والموت، وعلى نحو مماثل، لو تعامل قادة أميركا بجدّية مع نهاية المسألة قبل غزو فيتنام، ناهيكم عن العراق أو أفغانستان، ربما كانت حروبهم لتسير على نحو أفضل كثيراً، أو ربما لم تكن لتحدث على الإطلاق.

-------------------

خدمة: «نيويورك تايمز».



الشباب العربي يريد قائداً قوياً ودوراً أكبر للدين

الشباب العربي يريد قائداً قوياً ودوراً أكبر للدين
TT
20

الشباب العربي يريد قائداً قوياً ودوراً أكبر للدين

الشباب العربي يريد قائداً قوياً ودوراً أكبر للدين

مفاجآت عدّة وإجابات غير متوقعة، تحملها الدراسة التي أجرتها مؤسسة «فريدريش إيبرت» الألمانية على 12 ألف شاب وشابة من العالم العربي، تتراوح أعمارهم بين 16 و30 عاماً. فهؤلاء أبدوا رغبة في أن تتحمل الدولة المزيد من المسؤوليات في رعايتهم، لكنهم في الوقت نفسه غير راغبين في الانخراط في الأحزاب السياسية. وهم ينظرون إلى السياسة على أنها رديف للفساد والانتهازية، ولا يحبّذون أن يكونوا جزءاً منها. لكن الأكثر لفتاً للانتباه، هو أن الشباب العربي لا يرى الديمقراطية عنصراً حاسماً في صلاح الحكم، بقدر ما يبحث عن القائد القوي الذي يمكن أن ينجو بالسفينة. ومما يدعو إلى الاهتمام هو اعتبار الأغلبية الساحقة من الشباب، في البلدان التي أجريت فيها الاستطلاعات، أن الدين يجب أن يلعب دوراً أكبر في تسيير الحياة. ومن المفارقات، أن الأبحاث التي ترصد الجوع وتصف جيلاً بأكمله بالحرمان، تظهر هي نفسها أن الشباب العربي مفعم بالأمل، وأنه مقبل على الحياة، رغم أنه لا يشعر بالرضا عن واقعه، وهذا أمر في غاية الأهمية.

بعد المأزق جاء الحرمان

نقاط أساسية لفهم توجهات الشباب العربي، تطلعاته، رغباته، بواطنه، وما يجول في خاطره؟ وهو ما لا نعرفه بوضوح بسبب غياب الدراسات، أو تشتتها، وربما عدم توفيرها للجمهور العريض. من هنا تأتي أهمية هذه الدراسة الاستطلاعية التي شارك فيها 11 باحثاً وباحثة من ألمانيا، وشملت 11 دولة عربية، هي: الأردن، والجزائر، ومصر، والعراق، واليمن، ولبنان، وليبيا، والمغرب، وفلسطين، والسودان وتونس، إضافة إلى اللاجئين السوريين في لبنان. تمت المقابلات مع المستطلعين، بين عامي 2021 و2022، أي بعد وباء كورونا. حرَّرها كلٌ من يورغ غرتل، ودافيد كروير وفريدريكا ستوليس. وأصدرت «دار الساقي» الدارسة في كتاب من 500 صفحة بترجمة دكتورة شيماء مرزوق، حمل عنواناً دالاً هو «الجيل المحروم». وكانت دراسة أولى قد أجرتها المؤسسة بين عامي 2016 - 2017 رصدت من خلالها توجهات الشباب بعد ثورات الربيع العربي، صدرت في كتاب بعنوان «مأزق الشباب»، بينما تأتي الدراسة الجديدة بعد خمس سنوات، لترصد التغيرات بعد الموجة الثانية للحراك الشعبي عام 2018 الذي شاهدناه في لبنان، والجزائر والسودان.

محاور أساسية

تنقسم الدراسة إلى أربعة محاور رئيسية، تتفرع منها عناوين عدة. المحور الأول حول «الحرمان» والفقر. أما المحور الثاني، فهو حول «الأزمات المتعددة» التي يعاني منها الشباب مثل الجوع والعنف والهجرة، والبيئة. أما المحور الثالث، فهو عن «التوجهات الشخصية» للشباب من خلال الأسرة والتعليم والقيم الفردية والجمعية والدين. في حين يكشف المحور الرابع عن طبيعة «العلاقات الاجتماعية» ومستوى الالتزام الاجتماعي للشباب ونظرتهم للمؤسسات ومدى ثقتهم بها، وصولاً إلى رصد تطلعاتهم وأحلامهم على المستويين الشخصي والجماعي من خلال الإعلام ووسائل التواصل، كذلك السياسة والمشاركة المدنية والآمال والتوقعات.

فيما يخص التدين تظهر الدراسة الميدانية أن غالبية الذين سئلوا يشعرون بأنهم أكثر تديناً اليوم عما كانوا عليه قبل خمس سنوات. وتربط الدراسة بين هذه النتائج، وازدياد الإحساس بعدم اليقين، الذي يعيشه الشباب في مجتمعات متقلبة تعاني أزمات اقتصادية وحروباً وتهديدات مباشرة للحياة. وقد قال الليبيون والمغاربة والأردنيون، إنهم الأكثر تديناً من ذي قبل بعلامة وصلت إلى 8 من 10، في حين انخفضت العلامة التي أعطاها الشباب لتدينهم في لبنان وتونس، لكنها بقيت 6 درجات من 10.

قال أكثر من ثلثي الشباب المستطلعين إنهم غير مهتمين على الإطلاق بالسياسة. وهم حين يتحدثون عن هذا الموضوع فإنما يربطونه في «المقام الأول بالسياسة الحزبية الرسمية» في بلادهم، ولا يحيلون في حديثهم إلى الانخراط في خدمة المجتمع. وهذه النظرة تنبع من الإحباط العام الذي يعانيه الشباب بعد الأزمات المتلاحقة التي عاشتها بلادهم.

الثقة بالقبيلة والجيش

يرغب أكثر من ثلثي المشاركين في أن تلعب الدولة دوراً أكبر في تسيير الحياة اليومية. والنسبة الأكبر جاءت من لبنان 88 في المائة والأدنى من الجزائر 50 في المائة؛ ما يدل على إحساس بغياب الدولة في لبنان، وتدخلها الشديد في الجزائر، بينما يرغب فقط 7 في المائة من المستطلعين، في أن تؤدي الدولة دوراً أقل. والثقة متدنية بالمؤسسات السياسية والقانونية، وانخفضت أكثر عما كانت عليه قبل خمس سنوات، بينما يحظى الجيش بالثقة الأكبر، خصوصاً في الدول ذات الانتماءات القبلية. ففي ليبيا واليمن بعد اشتعال الحروب، يقول الشباب إنهم يثقون بقبائلهم أكثر من ثقتهم بدولتهم. وحين يُسألَون عن النظام السياسي الذي يرغبون فيه، نجد أن نسبة المطالبين بنظام ديمقراطي، قد انخفضت عما كانت عليه قبل خمس سنوات، وعبرت الغالبية عن حاجتها إلى «رجل قوي يحكم البلاد».

ويرغب ثلثا الشباب المسلمين الذين شملهم الاستطلاع، في أن يؤدي الإسلام دوراً أكبر في الحياة العامة. وقد زادت النسبة عما كانت عليه قبل خمس سنوات بمقدار عشر نقاط، وهو تحول ملموس ولافت. وصلت نسبة الذين يريدون دوراً أكبر للدين في فلسطين إلى 90 في المائة، وفي الأردن إلى 84 في المائة، وتحظى - بحسب الدراسة - أفكار الجماعات الإسلامية بشعبية بين الشباب. وهذا يظهر أكثر بين الذين لم يغادروا بلادهم منه عند الذين قضوا وقتاً خارج أوطانهم. كما أنها رغبة موجودة بنسبة أكبر عند الطبقة المتوسطة، التي عبر 70 في المائة منها عن رغبتهم في رؤية الدين يلعب دوراً أبرز في حياتهم، بينما انخفضت النسبة إلى 62 في المائة عند الطبقة الفقيرة أو الغنية. مع ذلك، تبقى نسبة عالية جداً قياساً إلى مجتمعات أخرى.

مفعمون بالأمل لا بالرضا

ومقارنة بالدراسة التي أجريت منذ خمس سنوات، ورغم الظروف الصعبة التي استجدت بقي الشباب محتفظاً بالأمل، وهو أمر مثير للاهتمام. باستثناء النازحين السوريين في لبنان واللبنانيين الذين انخفض بينهم قليلاً الشعور بالأمل، فإن عدد المتشائمين لم يرتفع في العالم العربي، بالقدر الذي يمكن تصوره. على العكس، نصف الجزائريين متفائلون وأكثر من الثلثين في تسع دول أخرى. رغم حالة عدم اليقين الشديدة التي تعيشها بلادهم، يبقى الشباب العربي متفائلاً في رؤيته للمستقبل. ففي جميع الدول التي أجري فيها الاستطلاع، 58 في المائة من الشباب يميلون إلى التفاؤل، و15 في المائة فقط هم من عبروا عن تشاؤمهم، وثلثا الذين سئلوا، قالوا إنهم «واثقون تماماً» أو «إلى حدٍ ما» من تحقيق رغباتهم وطموحاتهم المهنية. لكن هذا لا يعني أن الشباب يشعرون بالرضا عن أوضاعهم والحياة التي يعيشونها، فالتفاوت الطبقي والبطالة والنزاعات المسلحة كلها مصدر قلق، مع ذلك، فإن الشباب في مصر مثلاً رغم معدلات الفقر العالية، أكثر رضا من دول أكثر غنى مثل العراق أو الجزائر، واللاجئون السوريون في لبنان رغم أوضاعهم الحرجة أكثر رضا عن معاشهم من اللبنانيين أنفسهم. ويأتي السودان، حتى في دراسة أجريت قبل الحرب، في مؤخرة اللائحة.

الإعلام ينقل الأخبار السيئة

لا مفاجأة في أن 90 في المائة من المستطلعين يمتلكون هاتفاً ذكياً، وإن انخفضت النسبة قليلاً في اليمن والسودان. لكن الثقة بوسائل الإعلام التقليدية، لا تتجاوز في المتوسط 14 في المائة حين يتعلق الأمر بالمواضيع السياسية، أما أعلى نسبة ثقة فهي في المغرب ولا تتجاوز 26 في المائة. وعكس المتوقع، الثقة بوسائل التواصل ليست أفضل حالاً في ما يتعلق بمواضيع السياسة؛ إذ تبقى عند 16 في المائة. وعلى أي حال، ثلاثة أرباع الشباب يحصلون على معلوماتهم من وسائل التواصل، ويرون وسائل الإعلام بشكل عام، أدواتٍ لنقل الأخبار السيئة.

ورغم الكلام الكثير على الدور السياسي لوسائل التواصل وأهميتها التعليمية، وتعزيزها فرص الحصول على العمل، فإن هذه الدراسة تبين أن الشباب العرب يستخدمون هذه الأدوات بشكل أساسي للتواصل مع عائلاتهم وأصدقائهم، وبدرجة ثانية للاسترخاء وملء وقت الفراغ. وعلى الأرجح أن وسائل التواصل تهدئ الشباب ولا تشحن ثورتهم وغضبهم.

الإيمان أولاً

وحين طُلب من المستطلعين وضع علامة على عشرة فيما يخص إنجازات الحياة التي يريدون تحقيقها، جاء الإيمان بالله على رأس اللائحة، تلاها العثور على شريك ذي ثقة، ثم الشعور بالأمان، تلتها الصحة والمثابرة. ثم نجد الاستقلال المادي والالتزام بقانون الشرف والعار، في الخانة نفسها، وجاء في آخر اللائحة إنجازات من صنف المشاركة في السياسة أو إرضاء الآخرين، أو امتلاك السلطة، أو الانقياد للمشاعر الذاتية.

أما الهجرة بالنسبة للشباب العربي، فهي ليست فقط لأسباب اقتصادية ومالية، بل تحولت في بعض البلدان نوعاً من العادة، وتسجل الدراسة تغيراً في وجهتها؛ إذ لم تعد الدول الغربية هي الهدف الأول، وحلّ مكانها دول الخليج العربي بنسبة 14 في المائة، مقابل 9 في المائة لأوروبا، 6 في المائة إلى آسيا، و3 في المائة إلى أميركا الشمالية ودول جنوب الصحراء.

وتنمو الرغبة في الهجرة في كل من تونس، ولبنان وسوريا لتصل إلى 20 في المائة ومستقرة عند 5 في المائة في مصر والمغرب.

شارك في الدراسة الاستطلاعية 11 باحثاً وباحثة من ألمانيا وشملت11 دولة عربية

لكن هذه الرغبة لا تشهد نموا يذكر في مصر والمغرب؛ إذ لا يتجاوز معدل 5 في المائة، مقارنة بتونس ولبنان وسوريا، التي يتضاعف فيها معدل الرغبة المؤكدة في الهجرة ويقترب من نسبة 20 في المائة.

ويُعدّ الأردن الاستثناء الوحيد من بين دول المنطقة التي شملتها الدراسة، الذي يُسجَّل به تراجعٌ كبيرٌ في معدل الرغبة المؤكدة في الهجرة لدى الشباب، وهو ما يجد تفسيره في إحساس الشباب بأن لديه فرصاً في بلاده، وبأنه لا يشعر بدرجة إقصاء أو تهميش كبيرة.

كما يرصد الباحثون ظهور نوع من ثقافة «الاعتياد على الهجرة» لدى الشباب في مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بيد أن الدراسة تسجل أيضاً تحولاً مهماً في البلدان أو المناطق المقصودة لدى الشباب، اعتماداً على تجاربهم الشخصية في الهجرة. إذ تأتي دول الخليج العربي في المقدمة بنسبة 14 في المائة، مقابل 9 في المائة بأوروبا، وبنسبة 6 في المائة في آسيا، ونسبة 3 في المائة في أمريكا الشمالية ودول جنوب الصحراء.

وشارك في الدراسة 11 باحثاً وباحثة من ألمانيا من تخصصات أكاديمية وحقول متعددة من مناهج العلوم الاجتماعية، كما تمت الاستفادة مما يزيد على مائتي عنوان كتاب ودراسة لباحثين ومراكز دراسات ومؤسسات دولية، حول أوضاع الشباب في العالم العربي.

ويمزج مؤلفو الدراسة في أبحاثهم بين أدوات البحث التجريبي والواقعي لأوضاع الشباب الشخصية والمجتمعية والتحليل الموضوعي للظواهر والسياقات التي يعيشون فيها محلياً وإقليمياً. وهو ما يضفي على هذا العمل البحثي ثراءً في المعلومات والمعطيات عن تضاريس حياة الشباب في الدول العربية، مدعمةً بعشرات الرسوم البيانية، ونظرة تحليلية معمقة لاتجاهات التطور في الأفكار والقيم والعلاقات في المجتمعات العربية.

وتتبع الدراسة عملاً بحثياً سابقاً كان بحجم أقل تم إنجازه في سنتي 2016 و2017؛ وهو ما يشكل أرضية مناسبة برأي المشرفين على الدراسة لإجراء مقارنات واستنتاج اتجاهات تطور الأوضاع في المجتمعات العربية.