التنوير... لماذا يخشاه أشباه المثقفين العرب؟

لن يكون نسخة طبق الأصل عن الأوروبي

ديدرو
ديدرو
TT

التنوير... لماذا يخشاه أشباه المثقفين العرب؟

ديدرو
ديدرو

يعتقد الناس أحياناً أن التنوير مجرد ترف فكري خطر على بال بعض المثقفين الأوروبيين أن يخترعوه ويتسلوا به لكي يخرجوا من الدين على سبيل المشاكسة ليس إلا. بل ويتوهم البعض أنهم اخترعوه لكي يتفاخروا به على الآخرين: أنا تنويري وأنت غير تنويري إلخ... كل هذا شيء زهيد وسخيف. في الواقع إنه ظهر تلبية لحاجة تاريخية ملحة جداً وعاجلة. لقد كان علاجاً ناجعاً لمشاكل طائفية أو مذهبية مزقت المجتمعات الأوروبية على مدار القرون السابقة. ومعلوم أن فرنسا عانت من الحروب المذهبية ما عانته. كما وعانت من التعصب الأعمى الكاثوليكي على وجه الخصوص. فالأغلبية الكاثوليكية دمرت الأقلية البروتستانتية تدميراً بعد أن اتهمتها بالهرطقة والكفر والخروج على «صحيح الدين»، أي على المسيحية الصحيحة التي لا يمكن أن تكون إلا كاثوليكية، حسب وجهة نظرهم. كان الكاثوليك يعدّون أنفسهم آنذاك بمثابة الفرقة الناجية في المسيحية. هم وحدهم في الجنة وباقي الفرق في النار. ولهذا السبب حاولوا استئصال البروتستانتيين. يكفي أن نتذكر هنا مجزرة سانت بارتيليمي التي اندلعت في باريس يوم 24 أغسطس (آب) عام 1572: أي قبل خمسمائة سنة تقريباً. وقد اندلعت في العاصمة أولاً قبل أن تنتقل إلى الأقاليم البعيدة وكبريات المدن كبوردو وتولوز وليون وسواها. (بين قوسين يجمع المؤرخون على أنه ذهب ضحيتها ثلاثون ألف شخص. وهو رقم ضخم بالنسبة لذلك الزمان ويساوي الآن ثلاثمائة ألف شخص على الأقل).

جان جاك روسو

كان الهدف في البداية تصفية قادة الطائفة البروتستانتية وليس الشعب البروتستانتي ككل. وقد أمر الملك الكاثوليكي شارل التاسع بإيقاف المذبحة منذ اليوم الأول. ولكن عامة الشعب الهائجة المشحونة بالتعصب شحناً من قبل الأصوليين ورجال الدين لم تستمع لأوامره فذبحوا البروتستانتيين بشكل أعمى حيثما ثقفوهم أو وجدوهم. وهكذا خرجت الأمور عن حد السيطرة. ومعلوم أنه عندما يُطلق للغرائز الطائفية العنان فلا أحد يعرف أين تتوقف ولا كيف... لن تتوقف قبل أن يشبع الدم من الدم... وهذا أكبر دليل على أن الشعب كان أكثر تعصباً من قائده أو مليكه. إذ حتى الملك الكاثوليكي المبجل جداً عجز عن إيقاف الشعب الهائج!

عندما يتذكر الفرنسيون المعاصرون ذلك لا يكادون يصدقون ما حصل. والسبب هو أنه لم يعد هناك أي أثر للتعصب الطائفي في فرنسا الحداثية العلمانية المعاصرة. فالبروتستانتيون والكاثوليكيون أصبحوا جميعاً مواطنين درجة أولى ومتساوين في الحقوق والواجبات أمام دولة القانون والمؤسسات. لقد حلت العصبية الوطنية أو القومية الفرنسية كلياً محل العصبيات الطائفية الضيقة. وهذا معاكس لما يحصل في المشرق العربي حالياً حيث لا وجود تقريباً للعصبية الوطنية الجامعة، وإنما كل المحبة والتعصب للطائفة. والسبب هو أنه لم يظهر حتى الآن فكر تنويري في العالم العربي، فكر قادر على تفكيك العصبيات الطائفية الراسخة رسوخ الجبال كما فعل فلاسفة التنوير في فرنسا وعموم أوروبا. لم يظهر فولتير عربي ولا سبينوزا عربي ولا كانط عربي... إلخ. وما دام الأمر كذلك فسوف تستمر الطائفية في الهيمنة على عقول الناس، بخاصة عامة الشعب البسيط، بل وحتى قسم كبير من المثقفين أو أشباه المثقفين.

لقد أراد الحزب الكاثوليكي الأصولي الطائفي المتعصب جداً أن يفني البروتستانتيين ويستأصلهم عن بكرة أبيهم. وهي المجزرة التي صفق لها بابا روما آنذاك معتبراً إياها بمثابة الانتصار المبارك الميمون للإيمان الصحيح. قال بالحرف الواحد: الحمد لله اليوم انتصر الإيمان الحقيقي على الزندقة والكفر... وفور سماعه بالنبأ أمر بإقامة صلاة الشكر في جميع كنائس روما حيث قرعت الأجراس في كل مكان احتفالاً بالنصر. راح يرفع آيات الابتهال إلى الله تعالى لأنه أنقذ أرض فرنسا الكاثوليكية الطاهرة من رجس الهراطقة البروتستانتيين لعنهم الله!

لولا هذه المجازر، لولا هذا الجو المشحون بالتعصب الطائفي والمذهبي، لما ظهر فولتير ولا ديدرو ولا جان جاك روسو ولا الموسوعيون ولا كل فلاسفة الأنوار. لقد ظهروا كرد فعل على هذا الفهم الطائفي المتعصب والمرعب للدين المسيحي. وهو فهم أصولي يخلع المشروعية الإلهية على المجازر الطائفية بل ويعدّها تقرباً إلى الله تعالى. وبالتالي فهناك فهم طائفي للدين وفهم غير طائفي. هناك فهم آخر للدين ممكن غير فهم «الإخوان المسلمين» والخمينيين وبقية الظلاميين. هذا شيء لم يُستوعب بعد في العالم العربي بل ولا يخطر على البال. ولا أقصد بال الجماهير الأمية الغفيرة المعذورة، وإنما أقصد بال المثقفين أيضاً إلا من رحم ربك! ولكن المسيحية الأوروبية تجاوزته بسنوات ضوئية بفضل جهود فلاسفة الأنوار.

هذا التطور اللاهوتي الهائل، هذه الثورة الفكرية التنويرية، لم تحصل حتى الآن إلا في أوروبا والمسيحية الأوروبية. ولكن البابا الأسبق بقي أصولياً أحياناً على الرغم من علمه الغزير. والدليل على ذلك أنه كان يعدُّ البروتستانتيين وربما الأرثوذكس مسيحيين بشكل ناقص لا بشكل كامل على عكس الكاثوليكيين. بمعنى آخر، فإنه ظل يعتقد في قرارة نفسه أن الفرقة الناجية الوحيدة في المسيحية هي المذهب الكاثوليكي البابوي الروماني الذي يمثل الأكثرية أو الأغلبية العددية. هذا لا يعني أنه ظل يكفر المذاهب المسيحية الأخرى غير الكاثوليكية، كما كان يفعل أسلافه في القرون الماضية. لا، أبداً. لكنه يعني أنه لم يتخلص كلياً من رواسب العصور الوسطى ولاهوتها القديم على عكس المفكر الكاثوليكي التحريري الرائع هانز كونغ.

التنوير العربي سيؤدي إلى المصالحة التاريخية بين الدين والفلسفة، بين الإيمان والعقل، بين الإسلام والحداثة


وهل تعتقدون أنه لولا حرب الثلاثين عاماً التي اجتاحت ألمانيا وكل أوروبا كان سيظهر لايبنتز وليسنغ وكانط وفيخته وهيغل وبقية التنويريين الألمان العظام؟ ثلث سكان ألمانيا قتلوا في تلك الحرب الطائفية الرهيبة التي جرت بين الكاثوليكيين والبروتستانتيين. لهذا السبب قرر فلاسفة التنوير الاشتباك مع الإخوان المسيحيين وتفكيك تفسيرهم الانغلاقي والطائفي المتعصب للدين المسيحي. لهذا السبب قرروا تفكيك فتاواهم الدينية اللاهوتية القاتلة أو التي تخلع المشروعية «الإلهية» على القتل والذبح. وهي الفتاوى ذاتها التي لا تزال تعاني منها المجتمعات العربية والإسلامية حتى اللحظة.

لا يمكن أن نفهم ملحمة الحداثة وصعودها الصاروخي في أوروبا إن لم نأخذ كل هذه الحقائق بعين الاعتبار. أحياناً يقول بعض المثقفين العرب: يا أخي ما علاقتنا بالتنوير؟ ما حاجتنا إليه؟ يا أخي التنوير ظهر في أوروبا إبان القرن الثامن عشر قبل 200 سنة فهل تريدون إعادتنا إلى الوراء مدة قرنين أو أكثر؟ هل نحن بحاجة إلى تيار فكري مضى وانتهى؟ عندما يقولون ذلك فإنهم يرتكبون مغالطة رديئة أو سفسطة مجانية ليس إلا. إنهم يريدون قطع الطريق على التنوير، ومنع حصوله في العالم العربي والإسلامي ككل. وهذا يعني إدامة العصر الطائفي إلى ما لا نهاية. وهم بذلك متواطئون ضمناً مع «الإخوان المسلمين» وبقية الرجعيين ولكنهم لا يتجرأون على التصريح بذلك علناً مخافة أن يقال عنهم إنهم ضد الحداثة والعصر والتطور. ونحن نسألهم: التنوير مضى وانتهى بالنسبة لمن؟ هل مضى وانتهى بالنسبة للشعوب الأفغانية الطالبانية والعربية والتركية والإيرانية والباكستانية، أم مضى بالنسبة للشعب الفرنسي والألماني والإنجليزي وبقية الشعوب الأوروبية المتطورة التي لم تعد تعاني من أي مشكلة طائفية أو مذهبية؟ هذا السؤال كافٍ لإفحامهم وتبيان خطأ موقفهم ومغالطاتهم ومكابراتهم. ماذا نستنتج من كل ذلك؟ نستنتج شيئاً واحداً: وهو أن التنوير لا يزال أمام المثقفين العرب لا خلفهم على عكس المثقفين الأوروبيين. نستنتج أننا لن نستطيع الإفلات من استحقاق التنوير مهما حاولنا أو فعلنا. نستنتج أن هناك تفاوتاً تاريخياً كبيراً بين المجتمعات المسيحية الغربية والمجتمعات الإسلامية عربية كانت أم غير عربية. نستنتج أن التنوير العربي قادم لا ريب فيه. لكنه لن يكون نسخة طبق الأصل عن التنوير الأوروبي وإنما ستكون له فرادته وعبقريته الخاصة. لن يؤدي إلى الإلحاد المطلق، كما حصل في الغرب، وإنما سيؤدي إلى المصالحة التاريخية بين الدين والفلسفة، بين الإيمان والعقل، بين الإسلام والحداثة.


مقالات ذات صلة

الهويّة... والحريّة الأدبيّة

ثقافة وفنون سليم بركات

الهويّة... والحريّة الأدبيّة

ما الذي يحدّد هويّة الأدب: هل اللغة أم القضايا والمواضيع التي يعالجها؟ وهل يحقّ للأديب أن يختار لغةً غير لغته الأمّ من دون أن يُعدَّ خائناً لهويّته الثقافية؟

هيثم حسين
ثقافة وفنون نصب الشاعر مخدوم قولي

مخدوم قولي... حارس الأمة التركمانية

زرتُ عشق آباد قبل أيام، بدعوة من جمهورية تركمانستان، لحضور الفعالية المركزية والحفل الكبير بمناسبة مرور ثلاثمائة عام على ولادة شاعر تركمانستان مخدوم قولي فراغي

عارف الساعدي
ثقافة وفنون شارع الحمراء رصيفاً للنزوح وأسمالاً لبريق آفل

شارع الحمراء رصيفاً للنزوح وأسمالاً لبريق آفل

قلّ أن حظي شارعٌ من شوارع المدن الحديثة، بالمكانة التي حظي بها شارع الحمراء في العاصمة اللبنانية.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون قطعتان ذهبيتان من مقبرة أبو صيبع تقابلها ثلاث قطع مشابهة من مقبرة الشاخورة

رقائق ذهبية من مقابر البحرين الأثرية

كشفت أعمال التنقيب المتواصلة في مقابر البحرين الأثرية عن مجموعات متنوعة من اللقى، منها مجموعة من الرقائق الذهبية، زُيّن بعض منها بنقوش تصويرية

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون دينا مندور

دينا مندور: هجرة الكُتاب العرب شكّلت معالم الكتابة «ما بعد الاستشراقية»

تُعد المترجمة المصرية، دينا مندور، أحد أبرز مترجمي الأدب الفرنسي إلى العربية، حصلت على درجة الدكتوراه من جامعة «السوربون» الفرنسية

منى أبو النصر (القاهرة)

لماذا وكيف ينبغي أن نقرأ جبران اليوم؟

جبران خليل جبران
جبران خليل جبران
TT

لماذا وكيف ينبغي أن نقرأ جبران اليوم؟

جبران خليل جبران
جبران خليل جبران

من قوة إلى قوة تسيرُ سلسلة «دراسات إدنبرة في الأدب العربي الحديث»، التي تصدر باللغة الإنجليزية عن مطبعة جامعة إدنبرة في أسكوتلندا، ويشرف عليها الدكتور رشيد العناني، أستاذ الأدب العربي الحديث بجامعة إكستر البريطانية. فبعد أن أصدرت السلسلة، اعتباراً من عام 2013، 29 كتاباً تغطي شتى مجالات الأدب العربي منذ القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا، ها هي ذي تصدر في هذه الأيام كتابها الثلاثين، وعنوانه «جبران خليل جبران في سياق الأدب العربي العالمي» (Gibran Khalil Gibran as Arab World Literature)، من تأليف غزوان أرسلان (Ghazouane Arslane)، المحاضر في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة العربي التبسي- تبسه في الجزائر.

جبران (1883 - 1931) كما هو معلوم أشهر أدباء المهجر الأميركي الشمالي، يحتل مكانة لا ينازعه فيها سوى أمين الريحاني وميخائيل نعيمة (عندي أن هذا الأخير أنبغ الثلاثة). فجبران ركن أدبي مكين من أركان النهضة الأدبية الحديثة، شاعر وقاص ومسرحي وكاتب مقالة وكاتب رسائل باللغتين العربية والإنجليزية، فضلاً عن كونه فناناً تشكيلياً له لوحاته ورسومه. لقد كان كتابه «النبي» الصادر بالإنجليزية في 1923 (ونحن نعرف مدى ولع الأميركيين بكل صرعة جديدة في الفكر والحياة والفنون) من أكثر الكتب مبيعاً في الولايات المتحدة الأميركية. وقد ترجم الكتاب إلى 104 لغات وله ثماني ترجمات مختلفة إلى اللغة العربية. وصلت شهرة جبران إلى الصين، وكان رئيساً لـ«الرابطة القلمية» في أميركا حتى وفاته، وحظي في العالم العربي بتقدير مفكرين وباحثين ونقاد وأدباء مهمين مثل أدونيس ويوسف الخال وخليل حاوي وحليم بركات وغيرهم. وما زال حاضراً في الذاكرة الثقافية العربية بعد مرور قرابة قرن من الزمن على رحيله، إذ يُعقد مؤتمر دولي يحمل اسمه، وتؤلف عنه دراسات وأطروحات جامعية وكتب أحدثها هذا الكتاب.

وحين ترجم الدكتور ثروت عكاشة، وزير الثقافة المصري في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، عدداً من أعمال جبران المكتوبة بالإنجليزية (ظهرت ترجمته لكتاب «النبي» في 1959)، كتب الدكتور لويس عوض قائلاً إن صدور هذه الترجمات مؤشر إلى انبعاث للحركة الرومانسية، خصوصاً وقد تزامن صدورها مع صدور كتاب من النثر الغنائي عنوانه «المساء الأخير» للقاص يوسف الشاروني، وديوان من الشعر المنثور للشاعر المستشار حسين عفيف. وفي فترة لاحقة قدمت الروائية والأكاديمية المصرية الراحلة الدكتورة رضوى عاشور إلى جامعة القاهرة رسالة ماجستير عن «جبران وبليك»، وترجم ماهر البطوطي من مهجره الأميركي مسرحية جبران المكتوبة بالإنجليزية «الأعمى» وقُدّمت على خشبة «مسرح السلام» بالقاهرة.

وكتاب غزوان أرسلان (الذي يحمل درجة الدكتوراه في الأدب المقارن من جامعة كوين ماري في لندن) عمل أكاديمي جليل يشهد بتمكن مؤلفه من موضوعه ويمتاز بتحليله الدقيق لنصوص مختارة من جبران. وإذ يبدأ كتابه بسؤال: لماذا وكيف ينبغي أن نقرأ جبران اليوم؟ فإنه يختمه بمحاولة لوضعه في سياق الأدب العالمي لا الأدب العربي - الأميركي وحده. وفيما بين المقدمة والخاتمة يعالج الصلات في حالة جبران بين جماليات الأدب وعلم الأخلاق والسياسة، والبعد الديني والصوفي في عمله، وأوجه حداثته وتجديده، وتعامله مع اللغتين، وحسه القومي، وموقعه من النهضة الأدبية الحديثة.

مما يحمد للمؤلف أنه على محبته لجبران لا يُغفل الجوانب السلبية في إنجازه

ومما يحمد لأرسلان أنه، على محبته لجبران، لا يغفل الجوانب السلبية في إنجازه. فهو يذكر مثلاً أنه ينحو أحياناً إلى العاطفية المسرفة (السنتمنتالية) وإلى النزعة التعليمية وإلى التبسيط المسرف في نسج خيوط الحبكة ورسم الشخصيات وإلى استخدام الكلشيهات المحفوظة. ويأخذ أرسلان على جبران أنه، وهو المناصر لمنح المرأة حقوقها، قصر الدعوة إلى التعليم على الذكور دون الإناث. كما أخذ عليه خطأ لغوياً في نحو اللغة الإنجليزية حين جعل «builded» ماضياً للفعل «build» (ص 194) بدلاً من «built». وفي رسالة من جبران إلى ماري هاسكل في 1922 يزعم جبران أنه تلقى لغته الإنجليزية من شكسبير والترجمة الإنجليزية للكتاب المقدس وهاسكل ذاتها! فيتساءل أرسلان محقاً: ألم يتلقها أيضاً من بليك وكيتس وشللي وكارلايل وويتمان، وهو ما تثبته كتاباته ورسائله الأخرى؟

ويورد أرسلان آراء نقاد جبران ما بين مادح مثل الشاعر الآيرلندي جورج وليم رسل، وقادح مثل مصطفى لطفي المنفلوطي الذي انتقد جبران من منظور أخلاقي، وعباس محمود العقاد الذي كتب عن قصيدة جبران «المواكب» في 1922 فأخذ عليها أموراً منها ما يتصل بالمحتوى الفكري وما يتصل باللغة والأسلوب.

وبدوره لا يخلو كتاب أرسلان، على مزاياه الملحوظة، من هفوات. إنه يكتب مثلاً: «those who do not deprive themselves from the gifts» (ص51)، وصواب حرف الجر «of» لا «from» (واضح أن أرسلان كان يفكر هنا باللغة العربية حيث نقول «محروم من..»). ويسمى أرسلان مؤلف رواية «موبي ديك» Henry Melville (ص 228) وصواب اسمه الأول Herman. ويذكر أن لجبران كتاباً عنوانه «Sand and Form» (ص 109) وهو خطأ مطبعي بلا شك صوابه «Sand and Foam» (رمل وزبد). هنات تغتفر لكتاب على حظ كبير من العمق الفكري ونفاذ البصيرة ومتانة الأسلوب وإحكامه.