«الطريق» لنجيب محفوظ في عيد ميلادها الستين

ما إن أهَّل عقد الستينات حتى كانت عقدته قد انحلّت وتوالت روايات تلك المرحلة

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

«الطريق» لنجيب محفوظ في عيد ميلادها الستين

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان عقد الستينات من القرن الماضي فاتحة عهد جديد في التطور الفني لدى نجيب محفوظ. كان قد كلل جهوده في الرواية الواقعية بنشر «الثلاثية» (1956 - 57) التي كان أتم كتابتها في 1952، ثم انقطع عن الكتابة لسنوات عدة قضاها في محاولة لاستيعاب التغييرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الهائلة التي جاءت بها حركة الضباط الأحرار في 1952 بين ليلة وضحاها، قبل أن يعود للكتابة مسلسِلاً في جريدة «الأهرام» سنة 1959 رواية «أولاد حارتنا»، تلك الرواية الكنائية التي أقامت الدنيا وأقعدتها بناءً على تهمة زائفة أنها تتعدى على الأديان، وهو ما حاد بالأنظار عن حقيقة كونها أول عمل روائي في مصر ينتقد النظام الناصري نقداً مبكراً بينما كان النظام ما زال في مرحلة النشوة بالانتصارات والإنجازات تفصله سنوات عن عصر الهزائم والانكسارات. كانت الرواية من وراء قناع الأمثولة الشفاف تندد بالحكم الظالم القائم على البطش والاستعانة بالفتوات لقمع المطالبين بالحقوق والباحثين عن الحرية والعدل. كانت صرخة في وجه الدولة البوليسية التي كانت معالمها قد تشكّلت بوضوح في ذلك الوقت.

وهكذا، ما إن أهَّل عقد الستينات حتى كانت عقدة لسان محفوظ، أو على الأصح قلمه، كانت قد انحلّت، وتوالت روايات تلك المرحلة الواحدة تلو الأخرى بدءاً «باللص والكلاب» 1961، «فالسمان والخريف» ثم «الطريق» وبعدها «الشحّاذ» و«ثرثرة فوق النيل» وانتهاءً «بميرامار» في 1967. جاءت هذه الأعمال لتمثل نقلة فنية كبرى لدى محفوظ. فنراه قد تخلى عن السرد الواقعي التفصيلي والإسهاب الوصفي، وتخلى عن السرد من وجهة نظر الروائي العليم، مستعيضاً عن ذلك بوجهة النظر المُقيَّدة التي نرى فيها كل شيء من خلال واعية الشخصية الرئيسية، حيث لا يسمح الروائي لنفسه بالتنقل بين وجدانات سائر الشخصيات، ونرى فيها استخدام تيار الوعي أو تداعي الأفكار لإطلاعنا على ذهنية الشخصية وعالمها الداخلي في الوقت نفسه الذي نراقب فيه أفعالها وأقوالها وتفاعلاتها مع غيرها من الشخصيات. ونرى اللغة قد تكثفت ومالت إلى الغنائية في بعض الأحيان كما كثرت فيها الصور والأخيلة وزاد استخدام الرمزية والإحالات.

إذا كان محفوظ قد لجأ إلى الحكاية الأمثولية في «أولاد حارتنا» لنقد النظام الناصري من خلف حجاب، فهو في روايات الستينات قد أسقط كل ساتر وكل قناع في نقده. فرأينا «اللص والكلاب» تدور حول خيانة المبادئ الثورية والتحول من المثالية الثورية إلى التنعُّم البورجوازي. ونرى في «السمّان والخريف» كيف أن النظام الجديد يرث مع السلطة التي استولى عليها مزايا الطبقة الحاكمة البائدة. أما «الشحّاّذ» فتدور أيضاً حول التحول البورجوازي في منتصف العمر والركون إلى الدعة والرخاء بعد فورة المثل العليا والأفكار الثورية في مقتبل العمر. فإذا ما انتقلنا إلى «ثرثرة فوق النيل»، رأينا الانحدار البورجوازي في أسوأ صوره من انغماس في المخدرات والجنس والانفصال عن المجتمع وقضاياه في ظل تهميش المواطن والحرمان من المشاركة في الحياة السياسية تحت النظام المنفرد بالرأي، وصولاً إلى آخر روايات المرحلة «ميرامار» (1967) التي تبدو فيها مصر (في شخص خادمة البنسيون «زهرة») حائرة بين الأنظمة والعهود، بائدها ومعاصرها، حيث الجميع يسعى لاستغلالها ولا أحد تهمه مصلحتها وإن كانت هي ترتفع فوق الجميع.

تميزت روايات هذه المرحلة إلى جانب نقدها السياسي والاجتماعي، بمعالجتها أموراً فلسفية وبالمزج بين الفردي والاجتماعي والفلسفي في بوتقة واحدة. فنرى محفوظ مشغولاً بقضايا وجودية وميتافيزيقية، متأملاً في الدين والإيمان والموت والصوفية والعلاقة بين الفرد والمجتمع ومعنى الالتزام وقيمة العمل وسبل الخلاص وتحقيق الذات في ظل مجتمع قاسٍّ وحكم قاهر وكونٍ هائل الأبعاد لا تعنيه كثيراً مصائر الأفراد.

إلى هذا الزخم الروائي والفكري تنتمي رواية «الطريق» التي أتمت هذا العام ستين عاماً منذ صدورها الأول في 1964. وإن كان العام الستون لدى البشر يرتبط في الأذهان بسن التقاعد من الخدمة العامة أو الإحالة إلى المعاش، فليس كذلك الأمر مع «الطريق» التي تبقى اليوم رواية معاصرة مُشغِفَة في سردها وقضاياها، وذلك خلافَ أغلب زميلاتها من الستينات التي كادت أن تصبح اليوم روايات تاريخية شديدة الارتباط بعصرها ومناخه السياسي. الذي يعطي «الطريق» هذه المكانة الخاصة هو تحررها من وطأة البيئة السياسية المعاصرة لزمنها وانصرافها إلى قضية فلسفية كبرى مما يشغل الإنسان في كل عصر وكل بيئة. قضية البحث عن المُطْلَق. عن الماورائي. عن الميتافيزيقي. هل خلاص الفرد يكمن في هذا العالم أم في قوة خارجة عليه؟ هل نقضي وقتنا على الأرض في البحث عن هذا الشيء الماورائي الغامض أم نقضيه في العمل الدائب من أجل الذات والآخرين والتقدّم البشري العام؟ أين تكون «طريق» الخلاص؟

للإجابة عن هذه الأسئلة الكبرى كتب محفوظ رواية تشويقية مثيرة. رواية حب وجنس وعنف وجريمة وقصاص. لكن محفوظ يعرف كيف يكتب على مستويين. أحدهما سطحي خارجي مثير فلا تريد أن تضع الرواية من يدك من شدة التشويق، والآخر عميق باطني يرمز إلى معانٍ أبعد منالاً مما نرى على السطح. صابر سيد سيد الرحيمي بطل الرواية هو شاب يسعى إلى «الحرية والكرامة والسلام»، وهو في مسعاه هذا الذي يفشل فيه فشلاً ذريعاً، لا يختلف عن معاصريه من شباب مصر، ومن هنا فإن فشله هو رؤية متشائمة للوضع المجتمعي والأحلام الوطنية المجهضة. لكن القراءة السياسية ينبغي أن تتوقف عند هذا الحد، فهذه رواية اختار محفوظ فيها أن يرتاح مع عناء القضايا السياسية والاجتماعية الملحة ليتأمل فيما هو أبعد. ومن هنا، فإن بحث صابر عن أبيه الثري المجهول بعد وفاة أمه لأجل أن يخلّصه من العوز يتحول في المستوى الرمزي للقراءة إلى بحث الإنسان عن الإله، عن الحقيقة الماورائية المطلقة. وعلى النسق نفسه، فإن انقسام صابر بين انجذابه الشهواني إلى «كريمة» الزوجة الشابة للعجوز صاحب الفندق وبين حبه العذري لإلهام الفتاة العاملة المجاهدة للعلو على مشاكل حياتها يصبح تجسيداً للفصام البشري الأبدي بين دواعي الروح ودواعي الجسد، بين نداء الأرض ونداء السماء. وعلى امتداد الرواية يتعايش مستويا المعنى في وئام كامل؛ ما يشهد لمحفوظ ببراعة في السرد لم تكن جديدة على قارئيه حتى في ذلك الوقت المبكر نسبياً. فأنت تستطيع أن تقرأ قصة الإثارة والتشويق من الأول إلى الآخر وتخرج قانعاً راضياً. إلا أنك تخسر الكثير إن اكتفيت بذلك وغابت عنك الرموز والإشارات والأحلام والأخيلة والخواطر المُعاودة leitmotifs والمواقف المنثورة بسخاء في ثنايا النص، والتي تقودك إلى المستوى الأعلى للمعنى.

على أن محفوظ يعيد علينا في «الطريق» درساً فهمناه منه مراراً فيما قبلها وكذلك فيما بعدها. ليس ثمة حلول ميتافيزيقية لمشاكل الإنسان على الأرض. «الحرية والكرامة والسلام» لا تتنزل هدية من السماء، وإنما تُكتسب على الأرض. وهي لا تُكتسب إلا بالعمل، بالجهد البشري. القلق الوجودي لا علاج له إلا بالانغماس في الجهد البشري وليس بالهروب إلى التصورات الصوفية كما اكتشف عمر الحمزاوي في «الشحّاذ» ولا بالسعي وراء أبٍ وهمي كما يفعل صابر في «الطريق». قيمة الإنسان لا تنبع من التعلق بما وراء الطبيعة ولكن من «العمل». العمل في مفهومه الواسع، مفهوم «الالتزام» أو الاشتباك الإيجابي مع محيطنا المعاش، كما عند سارتر. بهذا وحده يتحقق الثالوث المقدس الذي يسعى إليه صابر وكل البشر: «الحرية والكرامة والسلام».

على المستوى الواقعي للرواية يقدم لنا محفوظ شخصية «إلهام» نموذجاً نقيضاً لصابر. هي أيضاً أنكرها أبوها طفلةً، لكنها لم تُضع حياتها في طلب الاعتراف منه، بل أدركت أن خلاصها لا يكون إلا بالعمل والاعتماد على الذات. لكن ليس هذا النموذج الذي اختاره صابر، فلا يقوده سعيه إلى مبتغاه، وإنما في بحثه العقيم وفي خواء حياته من العمل والقيمة يضل «الطريق» إلى الجريمة والسجن، وبينما ينتظر تنفيذ حكم الإعدام، يبقى متعلقاً بالوهم، منتظراً أن يأتي أبوه في اللحظة الحرجة لينقذه بنفوذه من حبل المشنقة.



«سكك حديد مصر»... قاطرة للنهضة والتحديث

«سكك حديد مصر»... قاطرة للنهضة والتحديث
TT

«سكك حديد مصر»... قاطرة للنهضة والتحديث

«سكك حديد مصر»... قاطرة للنهضة والتحديث

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «مصر والطرق الحديدية» للكاتب محمد أمين حسونة، الذي يتناول دور هذا المرفق باعتباره مرآة لفهم مشروع التحديث والنهضة في مصر. وفي تقديمه للكتاب، يشير الباحث والمؤرخ د. خالد عزب إلى أن الطبعة الأولى منه صدرت في ثلاثينات القرن الماضي، وأن العمل يرصد بدقة تثير الإعجاب جذور وتطور هذا المرفق الفارق حضارياً رغم أن مؤلفه هو أديب وشاعر بالأساس، كما تقلد مناصب قيادية في هذا المجال.

ويشير المؤلف إلى أن السكة الحديد لم تكن نتاجاً منفصلاً لعملية تحديث مصر، بل جاءت في سياق أشمل إذ أدخلت إلى البلاد العديد من الصناعات بصورة جديدة، منها على سبيل المثال لا الحصر «مسبك الحديد» في بولاق الذي شُيد على أحدث نظم عصره وتكلف آنذاك مليوناً ونصف المليون فرنك وصممه مستشار محمد علي باشا وهو مهندس الميكانيكا الإنجليزي توماس جالوي، فكان على غرار مسبك لندن وكان يعاونه 5 من الإنجليز و3 من مالطا كرؤساء للعمال والتحق به 40 مصرياً وزعوا على أقسامه المختلفة.

وكان يصّب في هذا المسبك يومياً 50 قنطاراً من الحديد المعد لصناعة الآلات والمراكب فصُنعت به آلات كبس القطن والآلات البخارية وآلات لعصر وتكرير السكر. وكان جالوي أقنع محمد علي، حاكم مصر، باستخدام الآلات البخارية في مضارب الأرز توفيراً للنفقات، فاقتنع الباشا وشُيدت حينئذ ثلاثة مضارب تعمل بالبخار بدأ أولها في مدينة رشيد. وتحول المسبك إلى أحد الركائز التي اعتُمد عليها في مشروع سكك حديد مصر، إذ أمدها بالعديد من مستلزمات المشروع، وهو ما أعطى العاملين به خبرات إضافية جعلت العديد منهم يتنقل لصيانة القاطرات والعربات، بل وتصنيع العربات لاحقاً.

وأدت السكك الحديدية لتوظيف مئات المصريين ممن عملوا في هذا المرفق نتيجة سياسات التعليم في عصر محمد علي وخلفائه، ومن المدارس التي التحق خريجوها بها «مدرسة الإدارة الملكية» 1834 و«مدرسة المعادن» 1834 و«الهندسة» 1835 و«الألسن» 1835 و«المحاسبة» و«الصنائع» 1839، وهكذا تكاملت الأدوات اللازمة لإدارة السكك الحديدية. تواكب مع هذا نمو حركة البريد البريطاني عبر مصر للهند ومستعمرات بريطانيا في شرق أفريقيا والخليج العربي واليمن، فضلاً عن نمو التجارة الداخلية وحركة التصدير من مصر.

وكان أول خط سكك حديدية أنشئ في مصر هو الخط بين القباري في الإسكندرية ومدينة كفر الزيات، وكان خطاً مفرداً تم الانتهاء منه في سنتين فافتتح في 1854، وفي السنة التالية افتتح الخط من كفر الزيات إلى طنطا بواسطة استعمال معدية على النيل بدلاً من الكوبري المعدني الذي شُيد لاحقاً. وفي سنة 1856 افتتح الخط بين طنطا وقليوب والقاهرة، أما ثاني الخطوط فكان خط طنطا المتفرع على مدن سمنود وطلخا ودمياط وافتتح القسم الأول منه 1857. كما بدأ خط الوجه القبلي (الصعيد) من بولاق الدكرور للأقصر وأسوان، حيث تم افتتاح القسم الأول منه 1867 والقسم الثاني من 1896.

وكان من نتاج هذا الصعود المستمر في دور السكة الحديد مصرياً ودولياً أن شرعت بريطانيا في دراسة مد خطوط السكة الحديد من الإسكندرية إلى كيب تاون في جنوب أفريقيا بطول 5 آلاف ميل، منها ألفا ميل في مصر والسودان، كما أدت الحرب العالمية الأولى إلى اعتماد بريطانيا وحلفائها على خطوط السكة الحديد المصرية بصورة كبيرة. وتحولت السكة الحديد في الثلاثينات من القرن العشرين إلى «مصلحة حكومية» قائمة بذاتها على النمط التجاري، وقدر رأسمالها آنذاك بنحو 33 مليون جنيه، وهو رقم مذهل في ذلك التوقيت، ودفع المرفق في عام 1931 لخزانة الدولة المصرية أكثر من مليوني جنيه أرباحاً للحكومة، أي حوالي 6 في المائة من رأسمالها.

وتحولت السكة الحديد في مصر إلى قاطرة للاقتصاد والتنمية في هذه الفترة التاريخية، ومن اللافت للانتباه أنها كانت تساير التقدم في مجالها على الصعيد الدولي أولاً بأول حتى كان يشار إليها بالبنان في التقارير الدولية. ومن ذلك تغيير القضبان من الحديد إلى الصلب بدءاً من عام 1889 لصلابته. وامتلكت مصلحة السكة الحديد ورشاً ومصانع تم إنشاؤها بين عامي 1894 و1910 منها مصنعان في بولاق والثالث في القباري، حيث كانت تتم صيانة القاطرات والعربات، بل تصنيع عربات الركاب ونقل البضائع، وأول عربة قطار صنعت في مصر كانت في عام 1889.