حداثةٌ وما بعد حداثة من بوّابة العمارة

ظلّت طويلاً أقرب لاشتغال مهني مركون في المكاتب الهندسية وعالم المقاولات

خالد السلطاني
خالد السلطاني
TT

حداثةٌ وما بعد حداثة من بوّابة العمارة

خالد السلطاني
خالد السلطاني

لا يمكنُ للمشتغل في تاريخ الثقافة وفلسفات الحداثة وما بعد الحداثة في عالمنا العربي إلّا أن يدقق كثيراً وطويلاً في الحقيقة التالية: كانت العمارة (Architecture)، إلى جانب بعض ألوان الأدب «الرواية بالتخصيص» والفن التشكيلي والمسرح، إطلالتنا المبكّرة على عالم الحداثة وما بعد الحداثة؛ لكنْ برغم هذه الطلائعية الحداثوية ظلّت العمارة أقرب لاشتغال مهني مركون في مثاباته الوظيفية العالية (المكاتب الهندسية وعالم المقاولات)، ولم تتحوّلْ نسقاً ثقافياً فاعلاً. هذا ما تعزّزه حقيقة النقص الفادح في المطبوعات التي تتناول تأثير العمارة في تشكيل السياسات الثقافية. ظلّ المعمار العربي أسير الرؤية الضيقة التي لا ترى في العمارة سوى طريق نحو تحقيق نوع من الحظوة الاجتماعية بفعل الانضمام إلى المجتمع المعماري الكلاسيكي الذي تشيع فيه أخلاقيات «الأرستقراطية المالية» المتوقعة. كانت النتيجة فقراً مزمناً في المنشورات التي تؤكّد على «دور المعمار في حضارة الإنسان»، وهو عنوان كتاب مثير للمعمار العراقي الراحل رفعة الجادرجي.

روبرت فنتوري

كانت العمارة تَرِدُ في مقروءاتنا كمَنْشط إنساني ملحق بالفعاليات البشرية. هذا ما حصل معي - وكثرةٍ من مُجايليّ - طيلة سنوات السبعينات من القرن العشرين. أذكرُ أنني قرأتُ في عدد شهر مارس (آذار) لعام 1978 من مجلة «آفاق عربية» العراقية موضوعاً مثيراً عنوانه «أسرجة الفن المعماري الحديث الثلاثة»، ترجمه المعمار العراقي محمود حمندي. توفّر الموضوع على ميزة استثنائية وهي أنك كنت تقرأ فيه نتاج عقل مهجوس بالوضع البشري وليس بنطاق مهني ضيق فيه، وظهر الكاتب أقرب لمشتغل متمرّس بالأنساق الثقافية امتدّ بصره خارج أنطقة المكاتب المعمارية وسياقات عملها الوظيفية الصارمة. عزمتُ بعد تلك القراءة الكاشفة على أن أتابع قراءاتي في الثقافة المعمارية، وكان بعضُ ما عزّز هذه الاندفاعة لديّ هو أنّ بعض مُنظّري ثقافة الحداثة وما بعد الحداثة في العالم كانوا من أكابر المعماريين العالميين، وأخصُّ منهم تشارلز جينكس (Charles Jencks) الذي يمكنك أن ترى في بعض كتاباته آثاراً من الآباء المؤسسين لما بعد الحداثة الثقافية مثل إيهاب حسن.

تحفة بصرية

حصل معي بداية ثمانينات القرن العشرين أن قرأتُ كتاباً صغيراً بعنوان «حديث في العمارة» نُشِر في العراق ضمن سلسلة الموسوعة الصغيرة. مؤلف الكتاب هو الدكتور خالد السلطاني، الأستاذ في قسم العمارة بجامعة بغداد، والمقيم حالياً في الدنمارك. منذ ذلك الحين حرصتُ على متابعة منشورات السلطاني في مقالاته الغزيرة أو في كتبه العديدة التي جاوزت العشرات. خالد السلطاني، كما أرى، هو أحد الأضلاع في المثلث المعماري العراقي (رفعة الجادرجي، معاذ الآلوسي، خالد السلطاني) الذي عمل على تكريس العمارة اشتغالاً نسقياً ثقافياً مؤثراً في طبيعة المعيش اليومي وحركياته المتطورة سعياً نحو تثويره وتحفيزه للارتقاء الحثيث بالمجتمع في كلّ جوانبه. آخِرُ كتب السلطاني هو الكتاب المعنون «عمارات: لمحةٌ إلى عمارة الحداثة... وأخرى إلى ما بعدها». الكتاب من منشورات أواخر عام 2023.

أربع خصائص مميزة يمكن تنسيبها لهذا الكتاب:

* أولاً، قَصَدَ المؤلف أن يكون الكتاب تحفةً بصريةً يرى فيها القارئ أعاظم المنجزات المعمارية لأسماء كبيرة في عالم العمارة. أراد المؤلف إحداث انعطافة مفصلية عن سياق مؤلفاته السابقة فعمد إلى تحريك الحواس كاملةً بدلاً من الاكتفاء بالجهد الذهني والتفكّر المعقلن. أنت هنا «ترى» الحداثة وما بعد الحداثة في سياق تشكلات صُوَرية معمارية غاية في الجاذبية ولا تكتفي بالقراءة الموغلة في التنظير الفلسفي للأفكار. من المؤكّد أنّ الإخراج الفني البديع ساهم في تعزيز قصد المؤلف.

وثانياً، الكتاب ليس ترتيباً زمنياً خطياً رتيباً (كرونولوجياً) يُشترطُ فيه القراءة السياقية المنتظمة. يكفي القارئ أن يطّلع على قائمة محتويات كلّ فصل ثم ينتقي ما يشاء من عمارة محدّدة أو اسم معمار عالمي أو مدرسة معمارية عالمية. الكتاب في النهاية ليس مقرراً دراسياً ولا كتاباً توثيقياً شاملاً لأفكار عمارة الحداثة وما بعد الحداثة بقدر ما أراده المؤلف خلوة محببة مع بعض منتجات الحداثة وما بعد الحداثة المعمارية. كان المؤلف واضحاً منذ البدء في إشارته إلى أنّ خياراته للشواخص المعمارية في الكتاب إنّما تعكس ذائقته الشخصية وليس من المفيد أن تترتب عليها أي تقييمات على صعيد الجودة التنفيذية أو الأمثلية المعمارية.

وثالثاً، مع أنّ المؤلف لم يشأ بقصدية واضحة تقديم أطروحة تنظيرية مغالية في أكاديميتها؛ كانت المقدمة المختصرة التي كتبها مثابة مميزة حقاً لأنه استطاع في صفحات قليلة ضغطَ خبرة مديدة وتكثيفها وتقديمها لقارئ لم يتمرّس في دروب العمارة ومتاهاتها حتى لو كانت له حصيلة ثقافية عامة معتبرة.

وأخيراً، عهد المؤلف في التفاتة لمّاحة إلى إناطة كتابة تمهيد الكتاب بشاعر وإعلامي عراقي له صيته الجميل في الساحة الثقافية العراقية. وهو (المؤلف) في هذه الالتفاتة يؤكّد على كسر النخبوية المعمارية الضيقة والعمل على انفتاح الفضاء المعماري على أنسقة ثقافية أكثر اتساعاً من حدود القاعات الجامعية أو المكاتب المعمارية المهنية.

هناك نقص فادح في المطبوعات التي تتناول تأثير العمارة في تشكيل السياسات الثقافية

نظرية العمارة

الكتاب بسيط الترتيب ولا تعقيد فيه من جهة المحتويات، وهذه بعضُ فضائله. ثمة مقدمة (أؤكّد أنها عظيمة الفائدة) موجزة، يعقبها فصلان يختص الأول بنماذج من عمارة الحداثة، ويختص الثاني بنماذج من عمارة ما بعد الحداثة، ثم يختتم الكتاب بفصل قصير أوجز فيه المؤلف رؤاه السابقة (تسمى إيجازاً Summing Up). يرد في خاتمة الكتاب قائمة موجزة ومهمة بالمصادر والمراجع، مع ملحق قصير بالإنجليزية.

يؤكّد المؤلف أنّ مفاهيم الحداثة وما بعد الحداثة المعمارية كانت سابقاً تدرّسُ كنُتَفٍ مفاهيمية مبعثرة في منهاج «تاريخ العمارة»؛ لكنّه عمل بجهد حثيث على التأكيد عليها وتضمينها في منهج دراسي منفصل هو «نظرية العمارة» متمايز عن تاريخ العمارة. يكتب المؤلف واصفاً بعض تفاصيل الحداثة المعمارية:

«اعتمدت الحداثة المعمارية على التقدم الصناعي والنجاحات الجديدة التي حدثت فيه، وتبنت الأفكار الطليعية المنادية للتغيير، كما اهتمت بالجانب الاجتماعي للعمارة...» ، ثم يوردُ صفات محددة للحداثة المعمارية: النزعات العقلانية في إيجاد حلول المعضلات المعمارية، رفض الطرز التاريخية للمباني، وإهمال لغة الذاكرة التاريخية المحلية.

شاعت عمارة الحداثة في الفترة الممتدة من أوائل القرن العشرين حتى سبعيناته، ثم بدأت طلائع ما بعد الحداثة المعمارية تقتحمُ حصون الحداثة منذ أواسط ستينات القرن العشرين بفعل تأثير ثلاثة أساطين معماريين. يكتب المؤلف في بعض هذا الشأن:

«معلومٌ أنّ روبرت فنتوري Robert Venturi (1925- 2018)، المعمار الأميركي المعروف، الذي ارتبط اسمه كأحد المنظّرين اللامعين لظاهرة عمارة ما بعد الحداثة، قد ألّف كتاباً ونشره عام 1966 بعنوان (التعقيد والتناقض في العمارة Complexity and Contradiction in Architecture) يتناول مسوّغات التغيير وضرورته في الذائقة الجمالية للعمارة، ويروّجُ لأطروحة تقف بالضد من عمارة الحداثة...». لقي الكتاب التأسيسي لفنتوري رواجاً واسعاً عقب نشره، وتُرجِم إلى 16 لغة عالمية، وقامت المعمارية العراقية سعاد مهدي بترجمته إلى العربية ونشره في بغداد عام 1987، ثم أعقبت هذا الكتاب بكتاب تاريخي مهم عنوانه «عصر أساطين العمارة». نجد في كتاب فنتوري تأكيداً صارماً لفكرة أنّ العمارة نظام نسقي معرفي متكامل مع المعرفة البشرية:

«الفعالية المعمارية ما هي سوى شكل من أشكال المعرفة حالها حال الرياضيات والفيزياء والأدب، ولتوسيع شكل المعرفة هذا ينبغي النظر إلى علاقتها بالأنظمة الأخرى...».

يشيرُ المؤلف في انتباهة شديدة الأهمية إلى جملة من العوامل التي تدفع الارتقاء الحثيث للممارسة المعمارية المعاصرة؛ فيذكر من هذه العوامل: تطور تقنيات المحاكاة الحاسوبية، العلوم الجديدة (علم الكونيات الحديث، علوم التعقيد)، توظيف المعلوماتية والعولمة، الاستفادة من المواد النانوية فائقة الصغر.

عقب الاستفاضة في الحديث عن عمل فنتوري يتناول المؤلف مُنظّراً معمارياً آخر هو تشارلز جينكس (1939 - 2019) وكتابه «عمارة ما بعد الحداثة» المنشور عام 1977. يعجب المرء لقلّة مترجمات أعمال جينكس الكثيرة إلى العربية، وربما من المفيد الإشارة إلى عمله الموسوم «عمارة الكون الوثاب» الذي تُرجِم قبل بضع سنوات.

بيتر آيزينمان (Peter Eisenman)، المولود عام 1933، هو المنظّر الثالث لما بعد الحداثة المعمارية، الذي تناوله المؤلف. تناغمت أفكار هذا المنظّر مع الفلسفة التفكيكية للفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، وهذه المقاربة نراها واضحة في كتبه العديدة.

بعد القراءة المدققة للمقدمة المكثفة للمؤلف يمكن للقارئ الترحّلُ بتجوال بصري حر في عوالم منتقاة من عمارة الحداثة وما بعد الحداثة. للقارئ أن يحلّق كما يشاء ويحطّ أنّى يشاء؛ فالمؤلف يبتغي إمتاعه أولاً وقبل كل شيء من غير ضواغط فكرية أو منهجية ثقيلة.

عالمنا يتفجّر بألوان من المعارف كلّ يوم حتى بات المرء مثقلاً بعبء البحث عن الجديد مع عدم إغفال المعرفة القديمة. وَسْطَ شواغل ومثيرات حسية لا تنتهي قلما يجد القارئ (حتى الشغوف) وسيلة مناسبة لقراءةٍ مُصممة لإثرائه وتوفير الجهد والزمن له مع عدم الاخلال بالخصيصة الفكرية التي تشتغل في الجبهات العالية للمعرفة. أعتقد أنّ كتاب السلطاني أوفى بمتطلبات هذا الاستحقاق الذي سيقدّمُ خدمة كبرى لكثرة من القرّاء المهجوسين بالمعرفة المعمارية والإنسانية الشاملة.


مقالات ذات صلة

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما
TT

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما» Simon Schama، في كتابه «قصة اليهود» The story of the Jews الصادر عن دار نشر «فينتغ بوكس» في لندن Vintige Books London، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين في دلتا النيل في مصر سنة 475 قبل الميلاد حتى نفيهم من إسبانيا سنة 1492 ميلادية. وهو يذكر أنهم في البداية كانوا عبيداً في مصر وطُردوا بشكل جماعي، وهم حتى اليوم يحتفلون بذكرى تحررهم من العبودية في مصر. وقد أمرهم إلههم بعدم العودة إلى مصر لكنهم عصوا أمره وعادوا مراراً وتكرارً إليها. واعتماداً على أسفار موسى الخمسة، وعلى آثار عمليات التنقيب في مصر، كانت بين يدي الكاتب مادة خصبة أعانته على جمع أدلة تفيده في نثر كتابه الذي يتناول مدة زمنية أسهمت في تكوين مصير مَن حُكم عليهم بالعيش حياة الشتات في الشرق والغرب.

ويذكر الكاتب أن اليهود عاشوا حياة الشتات، وأنهم أقلية مسحوقة دائماً بين قطبين، وبين حضارتين عظيمتين؛ بين الحضارة الأخمينية وحضارة الإغريق، بين بابل ووادي النيل، بين البطالمة والسلوقيين، ثم بين الإغريق والرومان.

وهكذا عاشوا منغلقين في قوقعة في أي مجتمع يستقرون فيه ، فمثلاً فترة انتشار الإمبراطورية الإغريقية وجدوا صعوبة في الحصول على المواطَنة الإغريقيّة لأنها كانت تعتمد على ثلاث ركائز: المسرح، والرياضة (الجيمانيزيوم) التي لا يمكن أن تتحقق من دون ملاعبَ العريُ التامُّ فيها إلزاميٌّ، الشيء الذي لا يتماشى مع تعاليم اليهودية، والدراسة الأكاديمية، التي لا يمكن أن يصلوا إليها.

صحيح أنهم عاشوا في سلام مع شعوب المنطقة (سوريين، وإغريقاً، وروماناً، وفُرساً، وآشوريين، وفراعنة، وفينيقيين) لكن دائماً كانوا يشعرون بأن الخطر على الأبواب، حسب الكاتب، وأي حدث عابر قد يتحول إلى شغب ثم تمرُّد ثم مجزرة بحقهم. ومن الطبيعي أن تتبع ذلك مجاعة وصلت أحياناً إلى تسجيل حالات أكل الأحذية وحتى لحوم البشر، ومذابح جماعية تشمل الأطفال والنساء وتدنيس المقدسات. ويضرب الكاتب هنا مثلاً بمحاولة انقلاب فاشلة قام بها القديس ياسون على الملك السلوقي أنطيوخس إبيفانيوس الرابع، فتحول هذا الأخير إلى وحش، وأمر بقتل كل يهودي في شوارع القدس وهدم المقدسات، وقدَّم الخنازير أضحية بشكل ساخر بدلاً من الخراف، وأجبر اليهود على أكل لحم الخنزير، وأخذ آلاف الأسرى لبيعهم في سوق النخاسة. وبعد فترة استقرار قصيرة في القدس، وأفول الحضارة الإغريقيّة لتحل مكانها الحضارة الرومانية، ذهب وفد من اليهود إلى الملك الروماني لمناشدته منح اليهود في القدس حكماً ذاتياً.

طبعاً هذه كانت مماطلة لا تُلغي وقوع الكارثة لكن تؤجلها. حتى إن الملك غاليكولا أمر ببناء تمثال له على هيئة إله وتنصيبه وسط معبد اليهود الذين كانوا يَعدّون ذلك من الكبائر.

حتى جاء اليوم الذي وقف فيه على أبوابها الملك الروماني بومبي الكبير فارضاً حصاراً دام عامين انتهى باصطحابه الأسرى اليهود مقيدين بالسلاسل لعرضهم في شوارع روما، تلت ذلك هجرة جماعية كانت آخر هجرة لهم. وهم فسروا ذلك بوصفه عقاباً إلهياً «لأنه لا يمكن أن يكون الله قد تخلى عنهم في وقت السلم كما في وقت الحرب. لأن السلم لم يكن سلم عزٍّ بل كان ذلاً».

وفي أوروبا العصور الوسطى، كان مفروضاً عليهم ارتداء شعار خاص لتمييزهم أيضاً عن باقي الناس، ومُنعوا من العمل في الوظائف الرسمية الحكومية مثل مهن الطبيب والمحامي والقاضي، حتى المهن الحرفية تم حرمانهم من التسجيل في نقاباتها. هذا بالنسبة ليهود الأشكنازي، أما بالنسبة ليهود إسبانيا السفاردي، فقد أصدرت الملكة إيزابيلا سنة 1492 (نفس سنة خروج الإسلام من إسبانيا) قانوناً لطرد اليهود من إسبانيا، ومنع اليهود من ارتداء الملابس الفاخرة، والتجول فقط في النهار، والعيش في أحياءً منعزلة، كما لا يحق لهم العمل مع المسيحيين أو العكس أو يكون عندهم خادمة مسيحية مثلاً، ومنعهم من امتلاك عقارات أو منح القروض إلا بشروط معينة...

لكن ما سبب هذا الاضطهاد بحق اليهود؟

حسب الكاتب، هناك سببان: أولاً وشايتهم إلى الملك الروماني وتحريضه لمحاكمة يسوع وهتافهم وقت صلبه «اقتلوه... اقتلوه»، أما السبب الآخر فهو أن الملكة إيزابيلا وضعت أمام اليهود الاختيار بين ثلاثة احتمالات: اعتناق المسيحية أو القتل أو الطرد، في حملةٍ لتطهير البلد من اليهودية. القليل من اليهود اعتنق المسيحية؛ خوفاً، وكان يطلق عليهم اسم «كونفرتو»، أو «المسيحيون الجدد»، لكن في السر استمروا في ممارسة طقوسهم اليهودية، وكان يطلق عليهم اسم «Marranos».

كتاب «قصة اليهود» لم يقتصر فقط على ذلك، فإلى إلى جانب فصول عن الحملات والحروب، هناك فصول عن اليهود في شبه الجزيرة العربية فترة النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، ويهود الأندلس، وصلاح الدين الأيوبي، ويهود مصر، وكذلك يهود بريطانيا، ويهود إسبانيا. وكذلك يفتح لنا الكتاب نوافذ على الحياة الاجتماعية والثقافية لشعوب ذاك الزمان، ويسرد تفاصيل الهندسة المعمارية بجماليّاتها خصوصاً لدى الإغريق، حيث اشتهرت عمارتهم بالأعمدة والإفريز والرواق والفسيفساء، الشيء الذي أخذه منهم اليهود.

لكنَّ هناك نقاطاً أخفق المؤلف في تسليط الضوء عليها أو طرحها في سياق المرحلة التاريخية التي يتناولها الكتاب، ومنها مرحلة حياة عيسى، عليه السلام، من لحظة ولادته حتى وقت محاكمته وصلبه، رغم أهميتها في مجريات الأحداث بتفاصيلها التي كانت انعطافاً كبيراً في تاريخ اليهود خصوصاً والعالم عموماً. ثانياً، وعلى الرغم من دقة وموضوعية المعلومات ورشاقة السرد، فإن الكاتب لم يذكر لحظات أو مراحل إيجابية عن حياة اليهود بقدر ما ذكر أهوال الحروب والحملات ضدهم وتوابعها عليهم.

وأعتمد المؤلف على المخطوطات parchments، أو رسائل على ورق البردي، وعلى قطع فخارية أثرية اكتُشفت في القرن الماضي ضمن حملات بتمويل حكومي ضخم لبعثات أثرية بريطانية وأميركية وفرنسية تسمى «Fact finding expenditures»، أي «بعثات البحث عن الحقيقة». وكذلك على وثائق تروي قصص ناس عاديين من عقود زواج أو ملفات دعاوى قضائية، بالإضافة إلى مؤلفات المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيو.