«التوابل» وليس الحرير قد شكلت العالم

روجر كراولي يكتب عن 60 عاماً فاصلة في تاريخ الصراع على الموارد

«التوابل» وليس الحرير قد شكلت العالم
TT

«التوابل» وليس الحرير قد شكلت العالم

«التوابل» وليس الحرير قد شكلت العالم

تستحوذ طريق الحرير على معظم مساحات الاهتمام والجدل في الغرب عندما يتعلق الحديث بتاريخ العلاقات مع شرق آسيا، إلا أن البروفيسور روجر كراولي في تاريخه الجديد «التوابل: منافسة القرن السادس عشر التي شكّلت العالم» يبيّن أن التوابل، وليس الحرير، كانت الدافع وراء بحث الغربيين عن طرق تأخذهم نحو ذلك الجانب من الكوكب. فهذه كانت أول سلعة معولمة، نادرة وخفيفة الوزن ومتينة التكوين، يمكن أن تصل هوامش ربح تجارتها إلى ألف في المائة، وأن تفوق قيمتها أكثر من وزنها ذهباً. اللافت أن موضع حمى التنافس بين القوى الغربيّة على هذه التوابل لم يكن الصين أو الهند أو اليابان، بل جزر الملوك، وهي مجموعة من الجزر البركانية الصغيرة ضمن إقليم جزر إندونيسيا: تيرنات، وتيدور، وموتي، وماكيان، وباكان، التي كانت بمثابة الأماكن الوحيدة على الكوكب التي نمت فيها أشجار القرنفل، وأيضاً على بعد أربعمائة ميل جنوباً جزر بانداس، حيث المصدر الفريد حينئذ لجوزة الطيب. وعنها يقول كراولي: «لقد كان مقدراً لهذه الجزر المجهرية أن تصبح مركزاً للعبة عظيمة في القرن السادس عشر شكلت العالم حرفياً».

لقد ولّدت هوامش الربح المرتفعة هذه على مدى ستين عاماً خلال القرن السادس عشر حافزاً لتطور نوعيّ في رسم الخرائط، وفنون الملاحة، وحسابات السفر، وتأسست من أجلها هيئات استكشاف ومراقبة ترعاها الدول، وتفشى التجسس التجاري، وكانت كافية - بالتوازي مع فضّة العالم الجديد بعد عثور كولومبوس على ما صار يعرف بأمريكا الشماليّة - للقفز بإسبانيا إلى مكانة الإمبراطوريّة العظمى.

الستون عاماً تلك بدأت من الغزو البرتغالي بقيادة ألفونسو دي البوكيرك لملقا في 15 أغسطس (آب) 1511 واستمرت إلى استيلاء الفاتح الإسباني ميغيل لوبيز دي ليغازبي على مانيلا في 24 يونيو (حزيران) 1571، وتوفرت بفضلهما قواعد آمنة للإيبيريين في الفضاء الجغرافيّ للملايو والفلبين، مما سمح بداية للبرتغاليين، وتالياً للإسبان، بامتلاك ميزة عالمية - وإن مؤقتة - على ما يقول كراولي من خلال احتكار تجارة التوابل مع أوروبا إثر اكتشاف جزر الملوك في عام 1512. ولعل حقيقة أن كلا الانتصارين حدث في أيام الأعياد الكاثوليكية الكبرى (صعود السيدة العذراء مريم، وعيد القديس يوحنا المعمدان على التوالي) ربطت عامل التقوى الدينية بفرص تحقيق الأرباح التجاريّة، وأدى ذلك إلى دفع بعض الأتقياء الإيبيريين إلى اقتراف أعمال شجاعة متهورة ربما بلغت ذروتها في طواف فرديناند ماجلان حول أمريكا الجنوبية بين عاميّ 1519 - 1522، واكتشاف مضيقه، الذي يحمل اسمه الآن، وبعض الإنزالات المجنونة التي قام بها رفقة حفنة من المغامرين في مواجهة آلاف من السكان المحليين لينتهي أحدها (على شواطئ جزيرة ماكتان الفلبينية) بمقتله ضرباً مبرحاً حتى الموت.

ماجلان كان كلّف من قبل التاج الإسباني للبحث عن طريق جديدة إلى جزر الملوك الأسطوريّة التي عثر عليها البرتغاليّون أولاً وجعلوا من موقعها سرّاً يخضع لحراسة مشددة. وماجلان، المغامر البرتغالي، كان من البحارة الذين نزلوا في ملقا رفقة البوكيرك. ووفقاً لمعاهدات الكاسوفاس وتوردسيلاس بين البرتغال ومملكتي قشتالة وأراغون الإسبانيتين، وبموافقة البابا الكاثوليكي، فقد قسّم العالم بينهما ليحتكر البرتغال المحيط الهندي والجزء الأكبر من جنوب المحيط الأطلسي، فيما يمتلك الإسبان كل الساحل الأميركي والمحيط الهادي تقريباً، مع أي مناطق جديدة قد تكون موجودة غرب ذلك. وبناءً على هذه المعاهدات، فإن السفن التي تدخل مناطق نفوذ المملكة الأخرى تخاطر بتدميرها أو الاستيلاء عليها. لقد طمع تشارلز الخامس ملك إسبانيا باكتشاف طريق بديلة تصل إلى جزر الملوك دون المرور بالمياه المقتصرة على الأساطيل البرتغالية في المحيط الهندي، ووعده ماجلان بالبحث عن طريق غربية تلتف حول أقصى طرف أميركا الجنوبيّة مقابل المشاركة في الثروة وحكم الأراضي التي تكتشف أثناء تلك الرحلة الاستكشافيّة.

بعد مقتل ماجلان، أكمل خوان سيباستيان إلكانو الطواف حول العالم من جهة الغرب وعاد إلى إسبانيا بحمولة ضخمة من جوزة الطيب و18 رجلاً فقط من أصل 270 كانوا تعداد طاقم ماجلان عند انطلاقه، ليتحطم بذلك أهم احتكار تجاريّ للإمبراطورية البرتغاليّة، رغم أن الأخيرة لم تفقد السيطرة على جزر الملوك نفسها. لكن التوسع الإسباني غرباً وقد تداخل أخيراً مع الشرق الذي يسيطر عليه البرتغاليون، وحتى محاولات الإنجليز للدوران حول روسيا للوصول بدورهم إلى جزر الملوك دون المرور بمناطق نفوذ البرتغاليين، تبدأ جميعها بإدراك ضآلة قيمة مهمتهم الأصلية - لاكتشاف طرق توابل جديدة - مقابل ضخامة ما وجدوه في مستعمراتهم على الطريق. الإنجليز مثلاً أسسوا علاقات تجارية مع موسكو وأسسوا هناك شركة مساهمة إنجليزية، وهو نموذج تم تطبيقه بنجاح أكبر في شركة الهند الشرقية لاحقاً، فيما توفرت لدى الإسبان كميات ضخمة من السلع الثمينة الأخرى المطلوبة للتجارة المعولمة، بما في ذلك العاج والأحجار الكريمة والفضة.

لقد تقاطعت تلك الحمى الدينية - التجاريّة خلال الستين عاماً التي عينها كراولي مع إرهاصات التّقدم العلمي المبكّر الذي أطلقته، لتخلقا معاً اللحظة الرّمزية لانتهاء صفحة العصور الوسطى المظلمة في أوروبا ونثر البذور لانطلاق العصور الحديثة فيها وما رافقها من الاستكشافات في الجهات الأربع، والتوسعات الإمبريالية للقوى الصاعدة.

على أن كراولي يصحح لنا النهج الأورومركزي الذي يرى تاريخ العالم بعيون القارة البيضاء، ويؤكد أن الأوروبيين لم يكونوا أول من جال في تلك البلاد البعيدة، إذ قبل أكثر من قرن من وصول الإيبيريين إليها كان الأدميرال الصيني تشنغ خاه قد أبحر في سبع حملات عبر الأرخبيل الإندونيسي بغرض التجارة وربما بسط النفوذ أيضاً، كان أولها في عام 1405 واشتمل على طاقم من 28 ألفاً من البحارة وما لا يقل عن 317 سفينة انطلقت من ميناء سوتشو. ويبدو أن الأساطيل الصينية لم تعانِ من مرض الأسقربوط - بسبب نقص الخضار والفواكه من نظام طعام البحارة - الذي أنهك طواقم السفن الأوروبية حتى أوائل القرن التاسع عشر، إذ إن سفن الصين كانت تصمم كأنها حدائق نباتية عائمة، مع تقنيّة متقدمة لعزل المقصورات عن الماء سرقها الأوروبيّون في أواخر تسعينات القرن السابع عشر بعد دراسة السير صموئيل بنثام من البحرية الملكية البريطانية لخردة السفن الصينية.

وفيما يبدو وثيق الصلة بصراع الموارد العالمي في أيامنا، يصف كراولي نهجاً صينياً مغايراً لذلك الأوروبي في الفتوحات البحريّة، إذ برغم ضخامة أسطول الأدميرال تشنغ خاه وقوته الناريّة الساحقة، لم تقع مذابح للسكان المحليين، ونقرأ في العمل الموسوعي العظيم «المسح الشامل لشواطئ المحيط - 1433» الذي وضعه مترجم صيني مسلم رافق رحلات الأدميرال وصفاً أدبياً راقياً لثقافات شعوب عشرين دولة من تشامبا (جنوب الفلبين) إلى مكّة المكرمة في الجزيرة العربيّة. أما الأوروبيّون، الإيبيريون بداية ولحق بهم البريطانيون والهولنديون، فلم يعرفوا - مع استثناءات نادرة - سوى لغة العنف المجانيّ وأنهار الدّماء وأكوام الجثث بداية من نهب ملقا في 1511، وكانت حينها أكبر بـ6 مرات على الأقل من لندن في عصر هنري السابع، وانتهاء بمعركة سوربايا (ثاني أكبر مدينة في إندونيسيا) مع الغزاة البريطانيين عام 1945.

تنتهي حكاية توابل كراولي في بوتوسي، بمنجم الفضة البوليفي الذي يعني اسمه «الجبل الذي يأكل الرجال»، وهو نذير بالاستغلال الاستعماري واسع النطاق الذي سيأتي في المرحلة التالية لمنافسة الوصول إلى التوابل، ويستمر مغرقاً عالمنا بالآلام والّدماء حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.

التوابل: منافسة القرن السادس عشر التي شكّلت العالم

Spice: The 16th-Century Contest that Shaped the Modern World,

المؤلف: روجر كرولي

Yale University Press, 2024



«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»
TT

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون. يحمل الكتابان العنوانين «حكايات من العراق القديم»، و«ملوك الوركاء الثلاثة»، وترجمهما الإعلامي والكاتب ماجد الخطيب، المُقيم في ألمانيا. وسبق أن نُشر الكتابان في لندن سنة 2006، وجذبا انتباه القراء بصياغتهما المعاصرة التي «تُقدم النصوص الرافدينية القديمة بشكل جذاب إلى جمهور واسع خارج دائرة المؤرخين والباحثين المتخصصين»، حسب رأي الشاعر الراحل سعدي يوسف في حوار معه بمجلة «بانيبال».

صدر الكتابان في طبعة أنيقة، بالورق المصقول، وغلافين ملونين، حافظا على تصاميم ورسومات وصور الكتابين الأصليين؛ تحقيقاً لرغبة الكاتبة فران هزلتون.

تُقدم لنا الباحثة في الكتابين حكايات وأساطير من العراق القديم؛ يعود تاريخ بعضها إلى أكثر من 4000 سنة. هي قصص نقلها الخبراء الإنجليز عن الألواح الطينية المكتوبة بالحروف المسمارية مباشرة من الأرشيف البريطاني الخاص ببلاد ما بين النهرين.

تكفي نظرة إلى عدد الأساتذة الذين أسهموا في ترجمة هذه النصوص من المسمارية إلى الإنجليزية، عن الألواح الطينية القديمة، لمعرفة الجهدين، الأدبي والفني، الكبيرين اللذين بذلتهما فران هزلتون في كتابة هذه النصوص، وتنقيحها وردم الثغرات في بعضها.

واعترافاً بهذا الجهد، قدَّمت المؤلفة شكرها في مقدمة الكتاب إلى قائمة من الأساتذة هم: البروفسور ثوركيلد جاكوبسون، والدكتور جيرمي بلاك، والدكتور غراهام كننغهام، والدكتورة إليانور روبسون، والدكتور غابور زويومي، والدكتور هرمان فانستفاوت، والبروفسور أندرو جورج، والدكتورة ستيفاني دالي والبروفسور بنجامين ر.فوستر.

يحتوي الكتاب الأول «حكايات من العراق القديم» على 13 حكاية وأسطورة سومرية وأكدية، تكشف للقارئ كثيراً من جوانب الحياة في بلاد الرافدين في تلك الأزمنة الغابرة، وتوضح لنا كيف كان الناس يعيشون، وعلاقتهم بالآلهة، وجوانب تفصيلية من الحياة الروحية والثقافية في أور ونيبور وأرتاتا وأريدو وكيش وشوروباك... إلخ.

كتبت الباحثة في تاريخ العراق القديم، ستيفاني دالي، في مقدمة الكتاب قائلة: «تخبرنا هذه الحكايات بالكثير عن المجتمع في ميزوبوتاميا في بواكيره الأولى. يحكم الملك الجالس على عرشه في القصر بصولجان يرمز إلى سلطته، ويبعث رسله للحوار حول صفقات تجارية، تعززهم تهديدات باستخدام القوة. كان الملوك والآلهة ما انفكوا يقيمون على الأرض، لأنهم لم ينسحبوا بعد إلى السماء، وكانت شهيتهم -وغضبهم ومتعتهم بالطعام والشراب، ورغباتهم وغرورهم- مماثلة لمثيلاتها بين الفانين، رغم أن معبوداً فقط قادر على تقرير مصائر المدن، والتصرف بصفته راعياً للملك في هذه المدينة أو تلك».

يتناول الكتاب الثاني قصص ملوك الوركاء الثلاثة إينْمركار ولوغالبندا وجلجامش؛ أي الجد والأب والحفيد. تحكي قصة إينمركار كيف أن هذا الملك أخذ حفنة من الطين النقي في يده وعجنه على شكل لوح، ثم سطر عليه رسالته إلى أينسوغريانا ملك مدينة أرتاتا الواقعة في الجبال القريبة (ربما إيران). هي أول إشارة في الأدب المكتوب إلى «كتابة رسالة»، ويعتقد العلماء، لهذا السبب، أن الكتابة اكتشفت في زمن هذا الملك.

ومن اللافت أيضاً في الكتابين التماثل الغريب بين بعض هذه الحكايات وحكايات «ألف ليلة وليلة»، رغم الفارق الزمني الكبير بين الاثنين. موضوعات السحر والآلهة، والسرد على لسان الطير، والطيران على ظهر نسر ومؤامرات النساء والخدم... إلخ. وتسرد إحدى القصص يوم نزول إنانا (عشتار) إلى الأرض، وقضاء ليلتها مع الملك، ومن ثم تصف الموكب الذي يجتاز شارع الموكب وبوابة عشتار، على هذا النحو:

«يظهر في البداية الفتيان الوسام، الذين يزينون شعورهم المصففة بالأطواق، ثم تأتي العجائز الحكيمات، فترافق الملك أكثرهن حكمة في موكب إنانا، ثم يأتي الطبالون يقرعون الطبول بعصي مقدسة، ويستعرضون في الموكب لإنانا. ثم يأتي الجنود بسيوفهم وحرابهم المشرعة يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم يأتي أولئك الذين عباءاتهم بوجهين أحدهما أنثوي والآخر ذكري، يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم يأتي أولئك الذي يتنافسون في الدوران والالتفاف والمناورة بمباخر من كل الألوان، يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم يأتي الأسرى مقيدين بأطواق العنق الخشب ينشدون نشيدهم، يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم تأتي بنات المعابد بشعورهن المتوجة، يستعرضن في الموكب لإنانا، ثم يأتي الكهنة يرشون الدم يميناً ويساراً من خناجر مغموسة بالدم، يستعرضون في الموكب لإنانا».

بأسلوب سلس؛ يجمع بين الفكاهة والمفارقة، يُقدم الكتابان حكايات وأساطير من تاريخ العراق القديم، شكّلت جذباً لجمهور واسع من القراء خارج دائرة المؤرخين والمختصين.

يشار إلى أنه بالتعاون مع جمعية «ZIPAG» سردت فيونا كولينز وتارا جاف وبديعة عبيد هذه القصص في كثير من الأمسيات التي أقامتها جمعية «إنهدوانا» في بريطانيا. وترى الناقدة ستيفاني ديلي، من معهد الاستشراق البريطاني، أن هذه الحكايات السومرية تمتعت بالقدرة على إسعاد قراء العصر الحديث بفكاهاتها ومفارقاتها ورؤيتها البراغماتية لأفعال الخالدين والفانين، التي يشتبك فيها الخير والشر. وتتساءل: كانت استجابة الجمهور الحديث مدهشة، رغم فارق العصور والثقافات الهائل، كيف يمكننا تفسير هذا التعاطف الذي يتجاوز كل الحدود؟ تكمن بعض الأجوبة في الثيمة الأساسية، التي تتعلق بالحياة والموت المُعبر عنها في الاستعارة الأسطورية؛ حيث تجسد الآلهة قوى الطبيعة، مثل الخصوبة والعقم والدهاء والغباء.

كتبت فران هزلتون في مقدمة الكتاب أن النسخة الأولى من «حكايات من العراق القديم صدرت سنة 2006، وكانت إشادة بأسلافنا الثقافيين المشتركين: قصصيي العراق القديم. ستسهم هذه الطبعة، كما أتمنى، في الإشادة ليس بحكواتيي العراق القديم فحسب، وإنما أن تصبح أيضاً أداة بيد الذين ارتضوا تحدي أن يصبحوا ساردي حكايات رافدينية حديثين».