رؤية موحّدة للحياة في سياق علاقات تفاعلية معقّدة

عالِمان يقدّمان كتاباً مرجعياً وصالحاً للقراءة العامة أيضاً

فرتجوف كابرا
فرتجوف كابرا
TT

رؤية موحّدة للحياة في سياق علاقات تفاعلية معقّدة

فرتجوف كابرا
فرتجوف كابرا

عندما وقعتْ عيني على نسخة إلكترونية من كتاب «الطاوية والفيزياء الحديثة» لم أتأخّرْ في قراءته على الفور، وأضاف العنوان الثانوي للكتاب «استكشافُ التماثلات بين الفيزياء الحديثة والصوفية الشرقية» دافعية إضافية لي لقراءة الكتاب.

كان الكتابُ هدية، حسبتها كبرى؛ لسببَين: أمتعَني كثيراً لأنّه قدّم رؤية حديثة غير مستكشفة للفيزياء المعاصرة، تختلف نوعياً عن الفيزياء المدرسية في سياقاتها المعروفة، وتكمن الجدّة والحداثة في تقديم الفيزياء كمسعى إنساني يتناغم مع سائر تطلّعات الإنسان الطموحة في إضفاء معنى حقيقي على وجوده البشري.

وفّر لي الكتاب، وهذا هو السبب الثاني، معرفةً بالفيزيائي النظري فريتجوف كابرا Fritjof Capra، الذي علمتُ منذ قراءتي كتابه أنّ متابعتي له لن تنقطع أبداً في السنوات اللاحقة، كما حدستُ أنّ كتابه ذاك كان مقدّمة تمهيدية لانخراطه في مباحث أكثر تعقيداً بشأن دراسة مفهوم الحياة ذاتها دراسةً نسقية موحّدة، تعتمدُ الثراءَ التفاعلي بين حقول معرفية متعدّدة، وجاءت السنوات اللاحقة مصداقاً لحدسي؛ إذ نشر كابرا العديد من الكتب المهمّة التي تُرجِم بعضها إلى العربية، وآخرُها - وهو أهمّها بالتأكيد- الكتاب المعنون «النظرة النُّظُميّة إلى الحياة.. رؤية موحِّدة» The Systems View of Life: A Unifying Vision.

لندقّقْ في ضمّ النون والظاء في مفردة (النُّظُمية)، أحياناً قد تسمّى رؤية منظومية أو أنظومية. الفكرة واحدة، وهي إحالةٌ إلى مفهوم النظام System، وأُفضّلُ من جانبي مفردة الرؤية النسقية؛ لأنّ النسق يأتي في سياق تناول تاريخ الأفكار، وليس في السياق التقني الضيّق والمحدّد للمفردة.

لويسي

لن أُخفي سعادتي بهذه الترجمة، ولي أسبابي العديدة، التي أوّلها أنّ مؤلّفَي الكتاب عَلَمان كبيران في حقل أبحاثهما الخاصة بنظرية التعقيد Complexity Theory وتطبيقاتها في مفهوم الحياة بكلّ متفرعاتها على صعيد العلم والتقنية والاقتصاد والبيئة، ومن أسبابي الأخرى رغبتي التوّاقة في إشاعة هذا اللون من الفكر النسقي الخاص بالنُّظُم الدينامية المعقّدة التي نشكو منها فراغاً معيباً - يكادُ يوصف بفجوة معرفية وفكرية كثقب أسود- على صعيد الفكر العام وأروقة الأكاديميا معاً.

يكتب كابرا في تقديم الكتاب أنّه لطالما رأى فيه تحقيقاً لحلم راوده طويلاً، وملأه إثارةً على مدى سنوات عديدة، وقد عظّم بواعث الإثارة اشتراكُه مع صديقه القديم بيير لويجي لويزي Pier Luigi Luisi في تأليف الكتاب-الحلم، وخصوصاً أنّ لويزي معروفٌ عنه أنّه أحد أكابر المختصين العالميين بموضوعة «أصل الحياة والتنظيم الذاتي في النُّظُم التركيبية والطبيعية».

جاءت النتيجة كتاباً مرجعياً «Textbook»، وصالحاً للقراءة العامة أيضاً، تشتبك فيه الحياة في أبعادها الأربعة: البيولوجية، الإدراكية (المعرفية)، الاجتماعية، والبيئية.

هذا ما يفعله الكاتبان في جزء الكتاب الأول؛ أما في جزئه الثاني فيقدّمان أطروحة ثمينة بشأن المترتبات الفلسفية والاجتماعية والسياسية الناشئة عن التناول النسقي الشامل لمفهوم الحياة. الأطروحة الأساسية في الكتاب هي مغادرة النظرة الميكانيكية الاختزالية (الديكارتية) للحياة بوصفها آلة معقّدة، والانتقال المفاهيمي إلى رؤية الحياة بكونها سلسلة علاقات دينامية مشتبكة.

ثمة انتقالة مفاهيمية من الحياة بوصفها أشياء مادية إلى الحياة بوصفها شبكة علاقات بينية متداخلة لا يمكن فكّها أو اختزالها.

المفهوم الأساسي في النظرة النُّظُمية للحياة في عالمنا كثيف الاشتباك هو الإدامة الذاتية «Autopoiesis»، ذلك المفهوم الأساسي الذي طوّره هومبرتو ماتورانا وفرانسيسكو فاليرا في سبعينات القرن العشرين.

وطبقاً لهذه الرؤية فإنّ النُّظُم الحيّة تعيد تجديد مادتها الحية بطريقة حثيثة مستمرة عبر التحوّل إلى أشكال حيوية جديدة أو استبدال بعض أو كلّ أعضائها الحيوية، تقترن هذه الفعالية بتغيرات بنيوية (هيكلية)، مع الحفاظ على أنماط التنظيم الأساسية مع باقي الأجزاء الحيوية، ومع المحيط كذلك، إذن ظاهرة الحياة تنطوي على هذه الثنائية العجيبة: الاستقرارية «Stability»، والتغيّر «Change» معاً.

الاستقرارية والتغيّر خصيصتان جوهريتان في ظاهرة الحياة، تذكّراننا بمفهوم الجديد النوعي الناتج عن تفاعل ضدَّين قطبيَّين متعاكسَين، ربما تكون الرؤية النسقية للحياة هي المعادل البيولوجي المادي المعاصر للتركيب الهيغلي الذي يشتغل في نطاق الأفكار العليا، كمثال على الرؤية الجديدة للأفكار، فإننا بدلاً من التفكير بـ(العقل) في السياق التقليدي المتوارَث كجسم سكوني، صِرنا اليوم نشهد انتقالة نحو مفهوم الصيرورة الإدراكية «Process of Cognition»، الجسم السكوني (الدماغ) الذي ينبثق عنه العقل استحال شبكةً من العلاقات في نطاق صيرورة تفاعلية معقّدة؛ الأمر الذي نشأ عنه علمٌ كامل هو العلم الإدراكي الذي انطوت تحت ظلِّه الأُطُر المعرفية الكلاسيكية المعروفة في البيولوجيا والعلم العصبي وعلم النفس والإبستمولوجيا... إلخ.

قراءة كتاب «النظرة النُّظُمية إلى الحياة» رحلة في دراسة النظام «Order»، والتعقيد «Complexity» في العالم الحي، تتيحُ لنا فهم الخواص السلوكية للنُّظُم الفوضوية المعقّدة، والهدف هو فَهم أنماط التنظيم والفعاليات التطورية في النُّظُم الحية.

عندما نفكرُ في سياق نسقي فإنّ التنظيم والهيكلية (التركيب) والصيرورة هي الخواص الثلاث المتلازمة غير القابلة للاختزال في ظاهرة الحياة، الإشكالية الكبرى عند دراسة النُّظُم المعقّدة في سياق نسقي، عبر عملية النمذجة والمحاكاة، تكمنُ في أنّ العلماء والمختصين بهذه الظاهرة لا يمنحون الخواصّ الثلاث المميِّزة لهذه النُّظُم أهمية متساوية، بسبب إرثنا الثقيل من الفلسفة الديكارتية القائمة على ثنائية العقل- الجسد، فضلاً عن الخواص الثلاث المتداخلة أعلاه ثمّة خاصية رابعة تنبثق عنها، وهي خاصية المعنى «Meaning».

لنأخذ مثالاً لنظام دينامي معقّد غير بيولوجي: وسائط التفاعل الاجتماعي، تستخدمُ هذه الوسائل الاتصالية والتواصلية لغة رمزية ومحدّدات ثقافية وتَمظهُرات مختلفة من علاقات السلطة، يمكن القول إنّ النظرة النُّظُمية عند تطبيقها على وسائل التواصل الاجتماعي يمكن لها أن تقدّم لنا مثالاً على تحليل عناصر القوة (السلطة)، والهياكل الاجتماعية (التراتُبية الطبقية والاقتصادية)، والقيادة، والجماعات البشرية، دعونا نتذكّرْ أنّ وسائل التواصل الاجتماعي تضمّ عناصر بيولوجية (المستخدمون البشريون)، مع عناصر غير بيولوجية (العناصر المادية للتواصل)، لا فرق بين العنصر البيولوجي وغير البيولوجي إلا في درجة التعقيد.

ويخصّص المؤلّفان فصلاً كاملاً في الكتاب لموضوعة «العلاقة بين العلم والدين والروحانية» «Spirituality»، وثمة أُطُر فكرية تكامُلية بين هذه الحقول الثلاثة، كذلك الإطار الذي يقدّمه كين ويلبر Ken Wilber الذي يدّعي بلوغه «نظرية كل شيء» في هذه الحقول الثلاثة.

يقدّم المؤلّفان إطاراً أقلّ ادّعاءً؛ فهما يتأمّلان في مواضع الالتقاء والاختلاف الممكنة بين هذه الحقول. ومن المثير في الكتاب بهذا الشأن أنّ المؤلّفَين يقدّمان الروحانية كنظام أخلاقي في سياق القيم البشرية، وعلى أساس هذه الرؤية تكون المعرفة البيئية «Ecoliteracy»، مثلاً، دالّة على مقدار قدرتنا على فهم المبادئ الأساسية للبيئة والاستدامة معاً، وبما يمكّننا من العيش التكامُلي مع البيئة في تفاعل أخلاقي لا ينفصم، البيئة وعاءُ وجودنا، والإساءة إليها فعل لا أخلاقي جسيم، تماماً مثل الإساءة إلى أجسادنا. هكذا يتّحد الوجود المادي مع الأخلاقيات الرفيعة في سياق الرؤية النسقية للحياة، نسعى لما هو أبعد من الفهم المجرّد، نريد بلوغ المقصد الأخلاقي وراء كلّ سلوك دينامي معقّد على صعيد الكائن البشري والطبيعة معاً.

يمكن للنظرة النُّظُمية عند تطبيقها على وسائل التواصل الاجتماعي أن تقدّم لنا مثالاً على تحليل عناصر القوة، والهياكل الاجتماعية، والقيادة، والجماعات البشرية

اعتمد المؤلّفان تصميماً أظنّه رائعاً في هيكلة الكتاب، فالأجزاء الرئيسية في الكتاب (وهي أربعة) تضمّ العناوين الكبيرة: الرؤية العالمية الميكانيكية، نشأة التفكير النسقي، مفهوم جديد للحياة، إدامة شبكة الحياة، وكلّ جزء من هذه الأجزاء الأربعة يضمّ أجزاءً ثانوية تتفرّع بدورها إلى أجزاء ثانوية أصغر يَشِي بها نظام الترقيم، ويمكن للقارئ أن يختار منها أجزاء منتخَبة للقراءة، وإن كنت أحسبُ أنّ سياق ترتيب الأفكار في الكتاب سيدفع القارئ الشغوف لمتابعة القراءة بحسب التسلسل السياقي لها في الكتاب. ينتهي كلّ جزء بملاحظات استنتاجية تعزّز التفكير السياقي لدى القارئ، وحجم المراجعة التاريخية للأفكار والشخوص في الكتاب ليس بالحجم القليل أبداً، وهذا ما يعزّز أهمية الكتاب، ويضعه في مصافّ الكتب التي لا يحتاج معها القارئ للانشغال بمراجعات كثيرة، وفي نهاية الكتاب ثمة ثبتٌ لمصادر كثيرة في الموضوع تُغني من يشاء الاستزادة الفكرية العامة أو الفلسفية في شتى جوانب موضوعة التعقيد والنُّظُم الدينامية المعقدة.

يقالُ في تراثياتنا العربية في سياق الإطراء على كتاب بعينه أنّ كتاباً قد يُغني عن عشرة، أثِق كثيراً أنّ كتاب كابرا ولويزي يُغني عن أكثر كثيراً من عشرة كتب!! هو كتاب ضخم يستلزم جلَداً وشَغفاً ورغبة في الاستزادة من المعرفة المعاصرة، وهو ليس قراءة سياحية، لكنه مع هذا يمكن أن يقدّم طبقاً ثرياً من المعرفة، لا بأس من قراءته بتمهّل وتفكّر على مدى شهر كامل، ولا أظنُّ أن الشهر كثير على ألوان المعرفة والأفكار المخبوءة فيه.

عنوان الكتاب: رؤية نُظُمية إلى الحياة – رؤية موحّدة

المؤلف: فريتجوف كابرا وبيير لويجي لويزي

الناشر: دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع

عدد الصفحات: 601

تأريخ النشر: 2023


مقالات ذات صلة

«المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

ثقافة وفنون «المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

«المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

رغم وفاته في سن السادسة والثلاثين، فإن الكاتب المسرحي والمخرج السينمائي والممثل الألماني راينر فيرنر فاسبندر (1945 - 1982) ترك وراءه كنزاً من الإبداع

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق المعرض يشهد استحداث ممر تكريمي للشاعر الأمير بدر بن عبد المحسن (وزارة الثقافة)

تجلّيات الثقافة والفكر تُزيّن معرض الرياض الدولي للكتاب

المعرض يُعدّ تظاهرة ثقافية وفكرية سنوية بارزة بالمنطقة تجسّد منذ عقود الإرث الثقافي للمملكة وترسّخ ريادتها في صناعة الثقافة وتصدير المعرفة.

عمر البدوي (الرياض)
خاص الحجيلان يكشف حدود الدور الفرنسي في تحرير المسجد الحرام play-circle 01:52

خاص الحجيلان يكشف حدود الدور الفرنسي في تحرير المسجد الحرام

في الحلقة الأخيرة من مذكراته، يوضح رجل الدولة السعودي الشيخ جميل الحجيلان، حقيقة الدور الفرنسي في جهود تحرير الحرم المكي الشريف من مجموعة جهيمان العتيبي.

بندر بن عبد الرحمن بن معمر (الرياض)
يوميات الشرق تبدأ فصول من المعرفة والفكر والثقافة على مدى 10 أيام من عمر المعرض (واس)

رحلة معرفية جديدة تنطلق في معرض الرياض الدولي للكتاب 2024

تنطلق (الخميس)، التظاهرة الثقافية الدولية للكتاب، تحت شعار «الرياض تقرأ»، التي تبدأ معها فصول من المعرفة والفكر والثقافة.

عمر البدوي (الرياض)
كتب دليل من أجل الحكم الرشيد

دليل من أجل الحكم الرشيد

أسئلة مهمة يطرحها هذا الكتاب بشأن السمات والمهارات وطرائق التفكير التي تصنع القائد الناجح، ويقترح عليهم مؤلفه من وحي خبرته الشخصيّة أموراً ينبغي للقادة فعلها - أو تجنُّب القيام بها - للحصول على صيت خالد في التاريخ.

ندى حطيط (لندن)

«كلاب تنبح خارج النافذة»... انتهازيون في عباءة الثورة

«كلاب تنبح خارج النافذة»... انتهازيون في عباءة الثورة
TT

«كلاب تنبح خارج النافذة»... انتهازيون في عباءة الثورة

«كلاب تنبح خارج النافذة»... انتهازيون في عباءة الثورة

ترصد رواية «كلاب تنبح خارج النافذة»، الصادرة في القاهرة عن «دار صفصافة» للكاتب المصري صبحي موسى فكرة الانتهازيين الذي يحصدون المكاسب من وراء كل ثورة دون أن يشاركوا في أي تضحية تقتضيها الشعارات الحالمة التي يرفعها النبلاء المنادون بالعدل والحرية. وتزداد حدة هذه المعضلة الأخلاقية حين يكون الانتهازي مثقفاً يخون دوره المنتظر في محاولة تغيير الواقع وتنوير الرأي العام. ويتخذ المؤلف من تداعيات «ثورة 25 يناير» 2011 منطلقاً لهذه الفكرة من خلال قصة بطل العمل، الذي يعمل كاتباً وصحافياً، يتم تكليفه بمراقبة شخص آخر يعاني من قصور عقلي. ورغم عبثية الأمر، فإن البطل يؤدي المهمة بجدية شديدة تجعل النص ينطوي على مفارقات درامية بارزة.

تنقسم الرواية إلى جزأين هما «أنجريتا»، وهو مكان عشوائي يقطنه البطل أو الراوي العليم ويقع في منزلة وسطى بين الريف والمدينة دون هوية واضحة سوى القبح والفوضى. الجزء الثاني هو «فئران بدينة»، حيث يشير هذا العنوان، بشكل غير مباشر، إلى عدد من شخصيات الرواية التي تتحرك في بطء وتثاقل وخمول وتبدي لا مبالاة مذهلة تجاه ما يحيط بها حتى لو كان الحدث الأبرز الذي يشغل العالم هو احتجاجات حاشدة في أكبر ميادين البلاد، التي يتابعها العالم لحظة بلحظة، ولا تبعد عن هذه الشخصيات سوى مسافة قريبة للغاية.

من أجواء الرواية نقرأ:

الساعة الآن تجاوزت الثامنة مساء، أشعر أنني في حاجة للترفيه، والاحتفال بأول يوم عمل في وظيفتي الجديدة؛ لذا سأخرج من شقتي باحثاً عن مكان هو الوحيد الموجود في هذه المنطقة الواقعة في آخر العالم، المنطقة المحيطة بالبيت تكاد تكون خالية من الحياة. فقط بعض الكلاب المتصارعة على غنيمة في كومة كبيرة من الزبالة، وبعض المتسولين وجامعي كانزات المياه الغازية، هؤلاء الذين يقومون بتهشيمها في مداخل بيوتهم المظلمة، ثم وضعها في أجولة من الخيش تحملها عربات تقوم بجمعها منهم. أعبرهم في صمت كأنني لا شيء، وأمرُّ في اتجاه الكوبري الممتد أسفل الطريق الدائري، حيث نهاية خط الأتوبيسات القادم من وسط العاصمة إلى هنا، أمرُّ من بين الأتوبيسات الواقفة في محطتها صامتة، فلا أحد في المكان سوى راكبَين ينتظران أتوبيساً لم يأت بعد. وحدهما الظلام والبرد يتجليان بوضوح، الجميع أغلق أبوابه على نفسه، تاركاً إضاءة خفيفة تطل من خلف الزجاج كي تدل على وجودهم في الحياة.

كان الوقت ما زال صيفاً، وعدد الذين في الشارع أكبر من الموجودين في البيوت. سألت بعضهم عن مقهى «سامبو»، ظللت أسأل حتى وجدت رجلاً على مشارف الستين يجلس أمام مكتبة، قال إنه في الشارع القادم أسفل البيت قبل الأخير. لم أستطع أن ألمح الضوء القليل المنبعث من الزجاج المعتم. مررت مرتين بالمكان دون أن أتعرف عليه. رأيت رجلاً يخرج من باب في حالة سكر واضح. دُهشت أنني لم أر ذلك الضوء الخفيف من قبل. ورغم أنني لم أكن متأكداً من صدق توقعي، فإنني قررت المغامرة. سحبت الباب الخشبي إلى الخارج، ثم دفعت على استحياء الباب الزجاجي المعتم إلى الداخل. رأيت ثلاث مناضد موزعة في فراغ لا يزيد عن خمسة أمتار. في الخلفية يجلس رجل عجوز خلف سور لا يزيد عن نصف متر بجانب ثلاجة، وأمامه قِدر يتصاعد منه بخار. كانت إضاءته خافتة. ولم يكن به سوى أربعة زبائن، كل اثنين يجلسان معاً على منضدة، يتهامسان أحياناً، ويعلو صوتهما أحياناً أخرى، بدا أنهم قد بدأوا سهرتهم مبكراً، وبدت المنضدة الثالثة كما لو أنها كانت تنتظرني، فقد غادرها للتو الرجل الذي رأيته خارجاً. كانت زجاجته وبقاياه ما زالت موجودة عليها. جلستُ متأففاً من بؤس المكان، فالمناضد والكراسي من الخشب القديم الذي اكتسب دهانه من تراب وعرق الجالسين عليه».