العيشُ في عوالم متعدِّدة

عالمة حاسوب تحكي عن رحلتها الملهمة

العيشُ في عوالم متعدِّدة
TT

العيشُ في عوالم متعدِّدة

العيشُ في عوالم متعدِّدة

 

كلٌّ منا له عالمه النوعي الخاص. العالم ليس كينونة سكونية نتعاملُ معها برؤية نسقية موحَّدة؛ بل هو نتاج تفاعل معقَّد بين أدمغتنا والمادة التي يتشكَّل منها العالم. أدمغتنا هي الأخرى ليست كتلة مادية ساكنة. إنها حصيلة التطوُّر المستدام لخبراتنا المستجدة التي نصنعها بجهدنا الذاتي وشغفنا المدفوع برغبة لتغيير العالم، أو -على الأقل- المساهمة في تشكيله.

العالم الفقير تقنياً الذي عاشهُ أسلافنا يتمايز –بالتأكيد- عن العالم المعقَّد تقنياً الذي نعيشه، والعالم الذي يعيشه أحد الأشخاص ممن عاشوا في قلب الغابات الأمازونية المطيرة، أو قريباً من تخوم القطب الشمالي، سيختلف حتماً عن ذاك الذي يعيشه شاب نيويوركي في قلب مانهاتن. كلٌّ منا له عالمه الخاص الذي تؤثر عناصر كثيرة في تشكيله، مثلما أن لنا دورنا الخاص -عندما نرغب- في المساهمة بقدر ما في صناعة العالم.

عاش برتراند رسل، الفيلسوف الإنجليزي الأشهر في القرن العشرين، ما يقارب القرن (من عام 1872 حتى عام 1970). بدأ حياته مع مشهد العربات التي تجرها الخيول، ثم تُوفِّي بعد سنة شهد فيها كيف وطأ الإنسان القمر، عبر صورة منقولة لحظياً بواسطة اتصالات فضائية متقدِّمة. من يعشْ طويلاً في بيئة لا تلبث تتغيَّر تقنياً بكيفية مستدامة، سيكون كمن عاش في عوالم متعدِّدة بدلاً من عالم واحد. ربما أراد رسل من كتابه «صورٌ من الذاكرة» (Portraits from Memory) الذي نشره بداية خمسينات القرن الماضي، الإشارة إلى هذه العوالم المتعددة بطريقة استعارية، بعد أن عاش نحو قرن من الزمان على الأرض. كلُّ صورة من صور الذاكرة التي كتب عنها رسل هي عالم كاملٌ يتمايز عن سواه.

ألبرت آينشتاين، الفيزيائي النظري مبتدعُ النظرية النسبية الخاصة والعامة، كتب هو أيضاً كتاباً عام 1934، سمَّاه «العالم كما أراه» (The World as I See It)، ولعلَّه أراد العالم المادي الذي تتعامل معه الفيزياء بمعادلاتها المثيرة. لم يعش آينشتاين عالماً واحداً؛ بل شهد انتقالات كثيرة في حياته: من ألمانيا القيصرية إلى ألمانيا النازية، ثم الانتقالة المثيرة إلى معهد الدراسات المتقدمة في جامعة برنستون الأميركية.

يبدو أنَّ مثل هذه الأفكار -أو ربما قريباً منها- قد طافت بذهن فاي- فاي لي، Fei-Fei Li، عالمة الحواسيب الأميركية صينية المولد، عندما اختارت لمذكراتها هذا العنوان: «العوالم التي أرى» (The Worlds I See). المذكرات منشورة في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2023، وهي مزيج محبب ومتوازن من سيرة شخصية ومهنية يتداخل فيها الكفاح الشاق لعائلة لي مع شغفها وفضولها العلمي، ورغبتها في وضع بصمتها المميزة والمفيدة في هذا العالم.

السيرة العلمية والتقنية للبروفسورة لي مميزة: ولدت عام 1976 في بلدة صينية فقيرة، ثم استطاعت بجهودها وجهود عائلتها أن تتبوَّأ مواقع مرموقة على الصعيدين الأكاديمي والصناعي. شغلت موقع أستاذة علم الحاسوب في جامعة ستانفورد الأميركية، وأسَّست مع بدايات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين موقع البيانات المسمَّى «ImageNet» الذي ساهم في تحقيق تقدُّم سريع في حقل الرؤية الحاسوبية (Computer Vision). إلى جانب هذا عملت لي في مجلس مديري «تويتر»، وساهمت في تأسيس معهد ستانفورد للذكاء الاصطناعي المتمركز على البشر، كما شاركت في إدارة مختبر جامعة ستانفورد للرؤية والتعلُّم الحاسوبي.

يشتمل طيف اهتمامات الدكتورة لي على حقول متعددة: الذكاء الاصطناعي، وتعلُّم الآلة، والتعلُّم العميق، والرؤية الحاسوبية، وعلم الأعصاب الإدراكي (المعرفي).

تشارك لي في مذكراتها القارئ بحكاية الرحلة الملهمة لها، من طفولتها المتواضعة في الصين حتى آخر إنجازاتها المتفوقة في الحقل الأكاديمي وصناعة الذكاء الاصطناعي. تفتتح لي كتاب مذكراتها بسرد عن الساعات المشحونة بالقلق التي سبقت الإدلاء بشهادتها عام 2018، أمام لجنة الكونغرس الأميركي المختصة بشؤون العلم والفضاء والتقنية. كانت لي واحدة من أوائل المختصين الذين دعاهم الكونغرس للإدلاء بشهادتهم حول الذكاء الاصطناعي، وقد جاءت شهادتها بياناً مُعَقلناً حول آفاق تطور الذكاء الاصطناعي، كما كانت هذه الشهادة انطلاقة معقولة شرعت منها لي في سرد مذكراتها المثيرة.

في الفصول اللاحقة للمقدمة التمهيدية، تشرع لي في حكاية رحلتها، ابتداء من سنوات الطفولة وبواكير المراهقة في الصين، عندما أحبَّت الفيزياء وأرادتها أن تكون محور حياتها. عندما بلغت لي الخامسة عشرة سافرت برفقة أمها لتلتحق بأبيها في الولايات المتحدة الأميركية، وكان قد غادر قبل 3 سنوات. استقرَّت العائلة في نيوجيرسي، وعانت كثيراً من مشقات الهجرة المعروفة إلى عالم مختلف عمَّا عهدته العائلة في الصين. وكان اعتلال قلب الأم سبباً إضافياً في تراكم المشقات على الأب والابنة.

التقت لي في دراستها الثانوية بالسيِّد سابيلا، مدرس الرياضيات الذي سيصبح مرشدها وراعيها، ثم ستنعقد بينهما صداقة تستمر حتى اليوم. جاهد سابيلا في تخليص لي من آثار الصدمة الثقافية، وعزَّز الثقة في نفسها، كما عمل على حصولها على مقعد دراسي في جامعة برنستون النخبوية التي كانت مستقراً لبطلها السابق الذي أحبته دوماً، ورأت فيه مثالها الأعلى: ألبرت آينشتاين. اقتنعت لي بأنَّ آينشتاين كان مهاجراً مثلها في أميركا؛ فلِمَ لا تكون مثله؟

بعد أن حصلت لي على شهادتها الجامعية في الفيزياء من جامعة برنستون، غادرتها إلى معهد كاليفورنيا التقني «كالتك» (Caltech)؛ حيث حازت شهادتَي الماجستير والدكتوراه في الهندسة الكهربائية. ركَّزت بحثها في الدكتوراه على العلاقة بين العلم العصبي (Neuroscience) والرؤية الحاسوبية، وكان هذا خياراً غريباً ونادراً حينذاك؛ لكنها تفوقت فيه حتى صارت أحد أعمدته على مستوى العالم. تحكي لي عقب هذا ذكرياتها عن كتابة ورقتها البحثية الأولى، والظروف التي عاشتها عندما قدَّمت هذه الورقة في مؤتمر عالمي للرؤية الحاسوبية.

بموازاة هذا الاستذكار الشخصي، لا تنسى لي تذكير القارئ ببدايات الذكاء الاصطناعي في خمسينات وستينات القرن العشرين، وتأشير مواضع الانتصارات والانكفاءات في هذا الحقل البحثي الذي صار عنوان عصرنا الحالي. نجحت لي -كما أحسب- نجاحاً مبهراً في عرض حكايتها الشخصية في سياق التطوُّر التاريخي للحقل البحثي الذي تحكي عنه؛ لذا لا انفصال بين العالمين، وربما هذه هي الخصيصة المهمة لكلِّ من يبتغي المساهمة في دفع عجلة التقدم العلمي والتقني: ثمة دوماً اشتباكٌ بين الشأن الخاص والعام.

قلت سابقاً إنَّ صحَّة والدة لي المعتلَّة جعلت من حياتها في أميركا سلسلة زيارات للمستشفى، وقد شجَّعها هذا للبدء في تطوير أنظمة حاسوبية خاصة بالعناية الصحية الجماعية. شكَّلت لي، بمعية زملاء لها من الكلية الطبية الخاصة بجامعة ستانفورد، نظاماً حاسوبياً سمُّوه «Ambient Intelligence» قصدوا منه مساعدة الأطباء ومزوِّدي العناية الطبية في مهامهم اليومية. تصف الدكتورة لي هذا المشروع بأنَّه أكثر المشروعات تطلباً بين المشروعات التي عمل مختبرها الحاسوبي في جامعة ستانفورد على جعله حقيقة عملية فعالة.

تحكي لي في أحد فصول الكتاب عن عملها في شركة «غوغل». عام 2016 طلبت لي سنة تفرغ جامعية (Sabbatical) من ستانفورد، لتعمل عالمة قائدة لمشروع «غوغل» في الحوسبة السحابية (Google Cloud). كان هذا أول عمل تشرع فيه لي خارج نطاق الأكاديميا، ورأت فيه وسيلتها وفرصتها المتاحة للمساعدة في «دمقرطة» استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، وإتاحتها لأوسع جمهور ممكن من المستخدمين. كان الذكاء الاصطناعي حتى تلك السنة احتكاراً بحثياً نظرياً في أقسام علم الحاسوب الجامعية؛ لكن حصل عقب عام 2016 ميل عظيم من جانب عمالقة التقنية الرقمية («غوغل» و«مايكروسوفت» بالتحديد) لاستثمار ملايين الدولارات في البحوث وتطوير المنتجات الرقمية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، وهو ما شهدنا بوادره في سنوات لاحقة، مثل تطوير محركات البحث التي يديرها الذكاء الاصطناعي. صار الذكاء الاصطناعي منذ ذلك الحين ميزة (Privilege) نوعية، تتسابق لتوظيفها الشركات الكبرى.

مذكّرات لي تستحقُّ أن تلقى مقروئية واسعة لأسباب كثيرة... منها أنها تحكي لنا قصة الكفاح لخلق عالم جديد في بيئة تنافسية شرسة كالبيئة الأميركية

عقب انتهاء عملها في شركة «غوغل» عادت لي إلى قسم علم الحاسوب في جامعة ستانفورد عام 2018، ومنذ ذلك الحين تركَّز عملها على تطوير فكرة الذكاء الاصطناعي المتمركز على البشر (Human-centered AI).

تحكي لي في الفصول الختامية من مذكراتها، التطورات التي حصلت في حقل الذكاء الاصطناعي منذ تأسيسها برنامج «ImageNet» وحتى أيّامنا هذه التي شهدنا فيها التعامل الحاسوبي المباشر مع نماذج اللغة الواسعة (LLM) والذكاء الاصطناعي التكويني (Generative AI).

تنهي لي مذكراتها بالحديث عن توقعاتها لما يمكن أن تثمر عنه جهودها المستقبلية المكتنفة بطموح لا يهدأ، في السعي للإنجاز وتحقيق انعطافات تقنية مهمة.

أظنُّ أنَّ مذكَّرات لي تستحقُّ أن تلقى مقروئية واسعة لأسباب كثيرة، منها أنها تحكي لنا قصة الكفاح لخلق عالم جديد في بيئة تنافسية شرسة كالبيئة الأميركية، ثم إنها تقدِّمُ لمن يسعى لتحقيق انتقالة جدية علمية ومهنية في حياته، خريطة طريق مقترحة لتحقيق النجاح، في واحد من أكثر الحقول التقنية تسارعاً في العالم، وهو حقل الذكاء الاصطناعي الذي سيجعلنا نرى العالم بعيون جديدة كلَّ بضع سنوات، وربما كل بضعة أشهر في زمن قريب من اليوم.

العوالم التي أراها: الفضول والاستكشاف والاكتشاف في فجر الذكاء الاصطناعي

The Worlds I See: Curiosity, Exploration, and Discovery at the Dawn of AI

مؤلفة الكتاب: Fei-Fei Li

الناشر: Flatiron Books

عدد الصفحات: 324

تاريخ النشر: 2023


مقالات ذات صلة

تجلّيات الثقافة والفكر تُزيّن معرض الرياض الدولي للكتاب

يوميات الشرق المعرض يشهد استحداث ممر تكريمي للشاعر الأمير بدر بن عبد المحسن (وزارة الثقافة)

تجلّيات الثقافة والفكر تُزيّن معرض الرياض الدولي للكتاب

المعرض يُعدّ تظاهرة ثقافية وفكرية سنوية بارزة بالمنطقة تجسّد منذ عقود الإرث الثقافي للمملكة وترسّخ ريادتها في صناعة الثقافة وتصدير المعرفة.

عمر البدوي (الرياض)
خاص الحجيلان يكشف حدود الدور الفرنسي في تحرير المسجد الحرام play-circle 01:52

خاص الحجيلان يكشف حدود الدور الفرنسي في تحرير المسجد الحرام

في الحلقة الأخيرة من مذكراته، يوضح رجل الدولة السعودي الشيخ جميل الحجيلان، حقيقة الدور الفرنسي في جهود تحرير الحرم المكي الشريف من مجموعة جهيمان العتيبي.

بندر بن عبد الرحمن بن معمر (الرياض)
يوميات الشرق تبدأ فصول من المعرفة والفكر والثقافة على مدى 10 أيام من عمر المعرض (واس)

رحلة معرفية جديدة تنطلق في معرض الرياض الدولي للكتاب 2024

تنطلق (الخميس)، التظاهرة الثقافية الدولية للكتاب، تحت شعار «الرياض تقرأ»، التي تبدأ معها فصول من المعرفة والفكر والثقافة.

عمر البدوي (الرياض)
كتب دليل من أجل الحكم الرشيد

دليل من أجل الحكم الرشيد

أسئلة مهمة يطرحها هذا الكتاب بشأن السمات والمهارات وطرائق التفكير التي تصنع القائد الناجح، ويقترح عليهم مؤلفه من وحي خبرته الشخصيّة أموراً ينبغي للقادة فعلها - أو تجنُّب القيام بها - للحصول على صيت خالد في التاريخ.

ندى حطيط (لندن)
كتب الحياة على هامش الوحدة

الحياة على هامش الوحدة

ينقسم أبطال المجموعة بين أبطال يتخبطون بحثاً عما يريدونه من الحياة، وآخرين يؤرقهم وعيهم التام بما يريدون، في واقع ضاغط يجعل الأحلام كابوسية لا مسافة بينها وبين الواقع

منى أبو النصر (القاهرة)

«لا تقل إنني لم أحذرك»... تأملات في كواليس الكتابة والإبداع

«لا تقل إنني لم أحذرك»... تأملات في كواليس الكتابة والإبداع
TT

«لا تقل إنني لم أحذرك»... تأملات في كواليس الكتابة والإبداع

«لا تقل إنني لم أحذرك»... تأملات في كواليس الكتابة والإبداع

في مزيج ساحر من تجربته الشخصية في الكتابة، وبصيرته الخاص كأديب موهوب، يأخذنا الصحافي والروائي الأميركي الشهير تشاك بولانيك، مؤلف رواية «نادي القتال»، التي تحولت إلى فيلم شهير بطولة براد بيت، إلى ما وراء كواليس الكتابة، ويشارك القارئ مغامراته المثيرة ويقدم نصائح سخية للأدباء الشبان في كتاب «لا تقل إنني لم أحذرك»، الصادر عن «دار الكرمة» بالقاهرة، ترجمة محمد الدخاخني. يركز المؤلف بشكل خاص على ما يجعل الكتابة قوية وما يجعلنا نصف حكاية ما بأنها مؤثرة. ومن خلال خبرة طويلة تستند إلى أعوام من الدراسة المتأنية والعديد من الكتب الناجحة، يمنح بولانيك كل مهتم بحرفة الكتابة دليلاً واضحاً وملهماً وعملياً وكشفاً مذهلاً لقوة الكتابة الإبداعية وتأثير فن السرد القصصي.

رغم ذلك يقول بولانيك مخاطباً القارئ إنه إذا أتاه وطلب منه أن يعلمه كل ما يستطيع فسيخبره أن صناعة النشر في حالة يُرثى لها، وأن الرواية لم تعد ولو مجرد ومضة في الثقافة، فقد جاء الجيل الجديد متأخراً جداً بعد أن دمرت القرصنة الأرباح وانتقل القراء كافة إلى مشاهدة الأفلام وألعاب الكمبيوتر. ويخاطب المؤلف قارئه قائلاً: «يا ولد عد إلى البيت، فلا أحد يُولد للقيام بهذه الوظيفة؛ سرد القصص. نعم لكن عندما تصبح مؤلفاً فإنك تبحث عن مؤلفين آخرين كموجهين لك وتستفيد من تجربتهم بالطريقة التي يبحث بها مصاصو الدماء عن ضحاياهم، مع إيمان عميق بأنه لكي يدوم أي شيء يجب أن يكون مصنوعاً من الغرانيت أو الكلمات».

ويشير بولانيك إلى أن هذا الكتاب يعد بطريقة ما دفتر قصاصات من حياته الكتابية ومطاردته لمشاهير الأدباء ومصاحبتهم طالباً النصيحة، من التبضع في سوق الخردة في برشلونة مع ديفيد سيدرايس إلى تناول المشروبات في حانة مع نورا إيفرون قبل أشهر فقط من وفاتها، إلى سنوات المراسلة المتقطعة التي مر بها مع توم جونز وأيراليفين. وإذا عاد مؤلف شاب في يوم آخر وطلب منه أن يعلمه أسرار الإبداع، فسيخبره أن كونه مؤلفاً ينطوي على ما هو أكثر من الموهبة والمهارة، لأنه ببساطة عرف مؤلفين رائعين لم ينتهوا من أي مشروع وأدباء أطلقوا أفكاراً لا تُصدق ثم لم ينفذوها بالكامل قط، ورأى كُتاباً باعوا كتاباً واحداً وأصيبوا بخيبة أمل شديدة بسبب العملية إلى درجة أنهم لم يكتبوا كتاباً آخر.

ويقتبس بولانيك بتصرف عن الكاتبة جوي ويليامز قولها إن «الكُتاب يجب أن يكونوا أذكياء بما يكفي لإيجاد فكرة رائعة، لكنهم يجب أن يكونوا مملين بما يكفي لدراستها وتنقيحها وتحريرها مع تسويق المخطوطة ومراجعتها ومراجعتها مرة أخرى وإعادة مراجعتها ومراجعة النسخة المحررة وتدقيق التنضيد الأولي وإجراء مقابلات وكتابة مقالات للترويج للعمل، وأخيراً الذهاب إلى عدد من المدن وتوقيع النسخ لآلاف أو عشرات الآلاف من الأشخاص».

وينصح المؤلف الأديب الشاب بأن يفكر في القصة على أنها تدفق من المعلومات، في أحسن الأحوال، سلسلة من الإيقاعات متغيرة باستمرار، ثم يفكر في نفسه باعتبار أنه ليس الكاتب بل منسق الأغاني أو «الدي جي» الذي يقوم بخلط وتجهيز وعرض المقطوعات الغنائية. وكلما زاد عدد المقطوعات الموسيقية التي يتعين على الأديب المبتدئ أخذ عينات منها، كلما زاد عدد الأسطوانات التي يتعين عليه تدويرها وزادت احتمالية إبقاء الجمهور يرقص. هنا سيكون لديه المزيد من الحيل للتحكم في الحالة المزاجية له وللجمهور الراقص. لتهدئتها تماماً ثم العلو بها بقوة، لكن عليه الاستمرار دوماً في التغيير والتنويع والتطوير.