كيف صنع العالمُ الغربَ؟

جوزفين كوين تكتب تاريخاً جديداً للعالم القديم

جوزفين كوين
جوزفين كوين
TT

كيف صنع العالمُ الغربَ؟

جوزفين كوين
جوزفين كوين

ثمّة نموذج (غربيّ) راسخ في النظر إلى التاريخ بوصفه قراءة لحضارات منفصلة متمايزة، ويجعل من الحضارة الغربيّة المعاصرة نتاج مرحلة النهضة واستعادة للقيم الحضارية في الفضاء الجغرافي الأوروبي، أي تراث الإغريق والرومان، بعد فترة من الظلام المديد خلال العصور الوسطى. وإذا كان ثمة من ذِكر لحضارات أخرى قديمة في سياق التأريخ للغرب، فيقتصر الأمر عندئذ على مجرد تطعيم لمنجزات أثينا وروما من الفلسفة والعمارة إلى المسرح والديمقراطيّة بمزيج غامض من الحكايا والأساطير التوراتية.

هذا النموذج الذي يشكل منطق الكتابة التاريخيّة المعاصرة يعترف حتماً بوجود حضارات قديمة قد تثير بعض منجزاتها وتركتها الماديّة الإعجاب، كما في العراق القديم، أو مصر الفرعونية، والهند والصين، مثلاً. لكنّه يتعامل معها بوصفها حضارات الآخرين، خارج الغرب، صعد كل منها على حدة ليسود في فضاء جغرافي وبيئي وزمني محدد قبل أن يهوِي، كما لو أنها كانت مجموعة من الأشجار الأكزوتيكيّة المتباعدة التي كبر كل منها في وقت ما فأزهرت قبل أن تبيد تاركة كومة من الآثار الغريبة لتشهد عليها. وهذه الأخيرة، أي اللقى الأثرية، أصبحت تجارة رابحة وموضوعاً للنهب الرسمي، لينتهي جزء كبير منها في خزائن عرض لإرضاء فضول رواد المتاحف على جانبي الأطلسي.

من هذه الأرضيّة في النّظر إلى التاريخ نشأ خطاب الإمبرياليّة المعاصرة كما تجسد في سجال عالم السياسة الأميركي المعروف صمويل هانتنغتون حول صراع الحضارات - كما في مقالته الشهيرة من عام (1996) بعد انحسار الحرب الباردة بين الشرق والغرب. عند هانتنغتون فإن ما يفرّق البشر عوامل ثقافيّة ودينية أكثر منها سياسية أو اقتصاديّة، ونظّر لحضارات معاصرة متناقضة ومتمايزة على أسس من الدّين والجغرافيا من بينها الغرب اليهودي المسيحي الممتد من أقصى الغرب الأميركي حتى حدود الستار الحديدي الفاصل بين الأوروبيتين الشرقية والغربيّة، في مقابل الحضارات الأخرى: الأرثوذكسية الشرقية، والإسلامية، والكونفوشيوسية وغيرها، زاعماً بأن «تاريخ البشر ليس سوى تاريخ حضارات، بحيث يستحيل النّظر في تطور تجربة النوع الإنساني عبر الأيام بأي صيغة أخرى، مع الأخذ بعين الاعتبار بأنه وخلال الحقب الأطول من التاريخ البشري فإن التّواصل بين الحضارات المختلفة كان معدوماً أو عابراً في أفضل الأحوال».

جوزفين كوين، أستاذة التاريخ القديم بجامعة أكسفورد (المملكة المتحدة)، تطيح بجذريّة واثقة بكل هذا الهراء الفكري المتراكم، وتقدّم في كتابها الأحدث «كيف صنع العالمُ الغرب: تاريخ أربعة آلاف عام»، مقاربة مغايرة تذهب إلى جعْل النموذج التأريخي القائم على ربط ما يعرف بالغرب المعاصر حصراً بجذور كلاسيكية إغريقية ورومانية نظرة قاصرة وفقيرة ومحدودة، نشأت في العصر الفيكتوري ضمن المزاج الثقافي للإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية، فأضاعت الكثير من التاريخ الإنساني المشترك، وأعمت أجيالاً متتابعة عن الحكاية الحقيقية لنشوء (الغرب)، والتي تراها كوين أقدم وأعقد وأكثر ثراءً بكثير من فكرة (الحضارات) المتمايزة.

تبدأ كوين كتابها بمقدمة تنقض فيها منطق النموذج التأريخي القائم من ثلاثة أوجه: أولها بالإشارة إلى أن الحضارتين الإغريقية والرومانية ذاتهما كانتا بشكل أو آخر نتاج تبادل كثيف مع شعوب أقدم؛ إذ استلهمتا أفكارهما وتقنياتهما من الجوار: القوانين والشرائع والآداب من بلاد ما بين النهرين، وفنون النحت والمعمار من مصر القديمة، والأبجدية من بلاد الشام، وهندسة الريّ من الآشوريين. ومن الجليّ، وفق النصوص الكلاسيكيّة، أن الإغريق والرومان أقرّا بذلك، واحتفيا به، وثمة إشارات صريحة إلى أن الإغريق كانوا واعين إلى تشاطئهم المتوسط بالشراكة مع شعوب أخرى: كالقرطاجيين، والأتروسكان، والأيبيريين، والفينيقيين، ناهيك عن الإمبراطوريات القوية في الشرق، وهم لم يتورعوا عن استلهام ثقافات هذه الشعوب في صياغتهم لتصورهم الذاتي عن العالم بما في ذلك آلهتها وأساطيرها الدينية، فيما تجعل الأسطورة المؤسسة لروما من المدينة العظيمة ملاذاً للاجئين، ويتغنى شاعرهم غايوس فاليريوس كتولوس برحلات متخيلة مع أصدقاء ورفاق من الهند، وبلاد العرب، وفارس، ومصر، وحتى من «أولئك البريطانيين المقيمين على أطراف العالم».

الوجه الآخر الذي ترى منه كوين فساد منطق النموذج التأريخي القائم متأتٍ من حقيقة تباين القيم الغربيّة الحالية عمّا كانت عليه قيم المجتمعات الإغريقية والرومانية. فـ«الديمقراطيّة» كانت في أثينا امتيازاً مقتصراً على صنف الرجال، ضمن ثقافة تمجّد إغواء الغلمان، فيما كانت نساؤهم مغيبة وخارج الحياة العامة تماماً، أما في روما فقد كانت الإعدامات العلنية تسلية شعبية في مجتمع يقوم اقتصاده بشكل كليّ على العبوديّة واسترقاق البشر.

أما ثالث أوجه النقض فمتأتٍّ من واقع تؤكده الآثار المادية والوثائق عن انعدام وجود صلة مباشرة بين الغرب المعاصر وحضارات الإغريق والرومان؛ إذ انتقلت عاصمة الإمبراطورية الرومانية من روما إلى (الشرق) - القسطنطينية - منذ منتصف القرن الأول الميلادي، وظلت هناك لأكثر من ألف عام، فيما تولى العرب مزج المعارف الإغريقية بالعلوم والتقنيات الفارسية والهندية والأفريقية، وعبرهم انتقل المنجز الحضاري المتراكم إلى أوروبا، توازياً مع حركة فرسان السهوب الآسيوية الذين حملوا بضائع الصين وأفكارها إلى أوروبا - حتى آيرلندا - وأيضاً غزوات شعوب بحر الشمال تجاه البر الأوروبي والجزيرة البريطانية. لقد كانت أمم أوروبا الصاعدة منذ القرن الخامس عشر بالمحصلة هبة تقاطع ثريّ مع عالم عريق وهجين ممتد من المحيط الباسيفيكي إلى المحيط الأطلسي استمر لألف عام، ولم يقتصر بأي حال على صلة مزعومة مباشرة أعيد إحياؤها بالإغريق والرّومان.

تجادل كوين بأن وراء هذا النموذج التأريخي المتهافت خطاب انطلق بداية من فرنسا نحو عام 1750، يتحدث عن الحضارة بوصفها صيغة تجريد لوصف شعب متقدم، ليستعير التعبير منهم فلاسفة أسكوتلنديون عدّوا الحضارة بمثابة سلسلة متراكمة من التطور باتجاه تعظيم سيطرة الإنسان على عالمه من الصيادين إلى الرّعاة، فالمزارعين، والتجار، والصناعيين، قبل أن يدّعي جون ستيورات ميل - الذي عمل لثلاثة عقود لدى شركة الهند الشرقية، أداة الاستعمار البريطاني - بأن المجتمعات الغربية لا سيما بريطانيا اكتسبت بفضل تمتعها بأعلى درجات التحضر الحق بالسيادة والتحرر في مقابل الشعوب الأخرى المتخلفة، مبرراً في ذلك التوسعات الاستعمارية كمهمات لنشر التحضر والتنوير. على أن الفرنسيين كانوا وراء نقل مفهوم (الحضارة) من نتاج بشري عام إلى حضارات كثيرة متمايزة، وشرعوا في البحث عن مصادر لحضارة أوروبا الغربية: الجرمان وروما والكنيسة الغربيّة وما لبثوا تحت تأثير حرب الاستقلال اليونانية عن الدولة العثمانية (1821 – 1830) أن ألحقوا الإغريق بها، ليتكرس بعدها تدريجياً بين المثقفين الأوروبيين نموذج التأريخ القائم على تمايز حضارات ذات خصائص ثقافية مرتبطة بفضاء جغرافي محدد، في ذات الوقت الذي انتشرت فيه خرافة أخرى لا تقل فساداً: خرافة الأعراق.

ترى الباحثة البريطانية أن ربط ما يعرف بالغرب المعاصر حصراً بجذور كلاسيكية إغريقية ورومانية نظرة قاصرة وفقيرة ومحدودة؛ لأنها تتجاهل التاريخ الإنساني المشترك.

جوزفين كوين

ولا يبدو أننا الآن، مع مرور أكثر من عقدين على بداية القرن الحادي والعشرين وتكاثر الدلائل من الدراسات الآثارية والوثائق المكتشفة كما التقدم الثوري في الدراسات الجينية، بقادرين بعد على إزاحة المفهوم الناتج من تلاقح فلسفة التأريخ للغرب كحضارة متمايزة جذورها مستقلة عن بقية الحضارات مع النظرة الاستعلائية لعرق أبيض متفوق عن عرش الهيمنة على الخطاب العام، بحكم أن هذا الخليط يخدم بالضرورة أغراض هيمنة (الغرب) بقيادة الولايات المتحدة في مواجهة (الشرق)، مع أن حدود الشرق/غرب هذه متحركة لتعكس الظروف السياسية السائدة - فهي وقفت عند أطراف الستار الحديدي في أثناء الحرب الباردة، لتتسع بعد سقوط الاتحاد السوفياتي فتنضم أوروبا الشرقية إلى الغرب، فيما تسببت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا بإعادة رسم للحدود مجدداً ليمكن استيعاب الأوكرانيين ضمن نسيج هذا الغرب الأبيض.

كتاب كوين مرافعة عقلانية ضرورية لبناء نموذج معرفي تأريخي جديد - بديل للنموذج الحالي الشوفينيّ المتهافت - وذلك استناداً إلى الحقائق المؤسسة كما الاكتشافات الأحدث عن أربعة آلاف عام من التقاطعات الحضارية التي بمجموعها تقدم منظوراً محدّثاً للعالم: حيث الاتصال والصلات - سلميّة كانت أو مواجهات عنفيّة - هي التي تدفع عجلة التغيير التاريخي، لا حضارات أمم بعينها. إن لدينا من الدلائل الآن ما يكفي لكي ندرك أن الشعوب منفردة لا تصنع التاريخ. فالتاريخ كما دائماً، تصنعه الإنسانية.

كيف صنع العالمُ الغرب: تاريخ أربعة آلاف عام

How the World Made the West: A 4، 000 - Year His¬tory، Blooms¬bury، 2024.

المؤلفة: جوزفين كوين

by Josephine Quinn

الناشر: بلومز بيري

2024


مقالات ذات صلة

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
كتب كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق «جدة تقرأ» عنوان معرض الكتاب 2024 (المركز الإعلامي)

الكتاب الورقي ينتصر على الأجهزة الرقمية في معرض جدة

في ظل التطور التقني والاعتماد المتزايد على الكتب الإلكترونية، حسم زوار معرض جدة للكتاب 2024 الجدل لصالح الكتاب الورقي

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق دور النشر شهدت إقبالاً كبيراً من الزوار من مختلف الأعمار (هيئة الأدب والنشر والترجمة)

«جدة للكتاب»... مزيج غني بالمعرفة والإبداع بأحدث الإصدارات الأدبية

يعايش الزائر لـ«معرض جدة للكتاب 2024» مزيجاً غنياً من المعرفة والإبداع يستكشف عبره أحدث الإصدارات الأدبية، ويشهد العديد من الندوات وورش العمل والجلسات الحوارية.

إبراهيم القرشي (جدة)

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.