كتاب «لا يموت» لمؤلفه البروفيسور راشد شاز «سفير النوايا الحسنة» لـ«الإيسيسكو»، هو أكثر من مجرد سيرة ذاتية. إنه توثيق لأحوال الهند بشكل عام، وحال المسلمين فيها بشكل خاص، حيث يشتمل على بعض السرد الشخصي لشاز مقابل تحليلات واسعة للأوضاع السياسية، الاجتماعية، العلمية، الفكرية، والاقتصادية التي مر بها المسلمون الهنود، فيتناول بتفصيل وعمق الضرر الذي لحق بالمسلمين من قبل «حزب المؤتمر»، ويسرد القصص المؤلمة لما جرى خلف الستار من تضليل تجاه المسلمين.
يسهب شاز بشكل صريح ومباشر في الحديث عن الأوضاع خلال فترة الطوارئ والأحداث الحاسمة التي شكلت نقاط تحول في عقود الثمانينات والتسعينات، متطرقاً إلى سلوك القيادة العليا لـ«حزب المؤتمر» والحكومة والقيادات السياسية والدينية المسلمة المرتبطة بها، ويحلل أبعاداً غير معهودة لأحداث معروفة، ويكشف عن السياسة المعتدلة بشكل عام التي اتبعها المسلمون تجاه «حزب المؤتمر»، التي قلما تُناقش.
وفي الوقت نفسه، يسلط شاز الضوء على الضعف العام الذي يعتري المسلمين، ويكشف عن الدور الذي تلعبه العناصر السياسية السائدة، بما في ذلك «حزب المؤتمر» والقادة المسلمون والتيه والفوضى التي تعتريهم، موضحاً أسباب وكيفية وقوع أخطاء كثيرة قبل وبعد الاستقلال.
يسلط شاز الضوء على الضعف العام الذي يعتري المسلمين ويكشف عن الدور الذي تلعبه العناصر السياسية السائدة
لغة راشد شاز في هذا الكتاب تمتاز بسلاستها وعذوبتها، إذ يُحيل الحوارات العادية إلى سرد قصصي مفعم بالخيال، مما يثير فضول القارئ ويشجعه على الانغماس في القراءة دون انقطاع. وهو يبرع في صياغة الجمل بأسلوب يثير الاهتمام ما يجعل قراءته تجربة ممتعة.
يغطي الكتاب قضايا عالمية بارزة كالتدخل السوفياتي في أفغانستان، ومساعي السلام العالمية، وتيار الصحوة الإسلامية، مقدماً نقاشاً فكرياً عميقاً حول هذه الموضوعات، ومحاولاً الغوص في الدوافع والأسباب الأساسية لها.
يضعنا الكتاب أمام سلسلة من المآسي التي عصفت بالهند المستقلة، وخلال مطالعته، نعيش لحظات يبدو فيها أن صرخات الأسر التي هدمت منازلها بالبلدوزرات بأمر من سنجاي غاندي في تركمان غيت، تصل إلى مسامعنا بالرغم من مرور الزمن، ونكاد نحس بحرارة دموع حليم الذي خسر أخاه وعدداً من أفراد أسرته في إطلاق النار من قبل الشرطة أثناء صلاة العيد في مراد آباد، ويطارنا سؤاله المؤلم «ما ذنب أخي؟»، إضافة إلى المجازر التي طالت المسلمين في نيلي بآسام وباغالبور.
تثير قراءة هذه الكتاب، الذي هو من الكتب القليلة جداً التي تكشف الأهوال التي يتعرض لها المسلمون في الهند، العديد من الأسئلة الحارقة والملحة، التي تنبش في العقل والوجدان: لماذا يبقى المسلمون في الهند، رغم معاناتهم من مجازر واسعة النطاق، عاجزين عن اتخاذ موقف حاسم بإعلان «لن يتكرر ذلك أبداً»؟
تقوم مترجمة لغة إشارة سعودية بنقل ما يرِد فيها على لسان متخصصين كبار تباينت مشاربهم وخلفياتهم الثقافية إلى جمهور من الصمّ يتطلع لزيادة معارفه وإثراء مداركه.
عمر البدوي (الرياض)
من «إيخمان في القدس» إلى «من أجل السماء»https://aawsat.com/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%81%D9%86%D9%88%D9%86/%D9%83%D8%AA%D8%A8/5067096-%D9%85%D9%86-%D8%A5%D9%8A%D8%AE%D9%85%D8%A7%D9%86-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%AF%D8%B3-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D9%85%D9%86-%D8%A3%D8%AC%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%85%D8%A7%D8%A1
حين كتبت حنا آرندت كتابها عن «إيخمان في القدس» كانت تسعى إلى تبيئة مفهوم «تفاهة الشر» في المجال الإنساني المعاصر، بما هو تجاوز غير مفهوم في السياسة والأخلاق والعقيدة. كان في اعتقادها أن إرادة الأذى زيغ ملتبس، لا تفسره صولة الانتقام ولا التسلط، ولم ينأ عن فهمها أن الشر سقم مقيم يتجاوز المحرقة اليهودية، إلى كل اقتراحات الموت الغفير، حين يتراكم بصفات وأشكال مرعبة دون مبرر ولا دليل، شأن ما يحدث في قطاع غزة منذ سنة، لهذا اعتُبرت أطروحتها لمدة غير يسيرة سنداً لمحاولات فهم الوحشية الأسطورية الفجائية وغير الأصلية للمجتمعات، ولعله من سخرية التاريخ أن تضحى دليلاً مضيئاً اليوم لمحاولة فهم ما يجري من قبل الضحية (السابقة/ المؤبدة) أمام أنظار العالم.
لكن المفهوم الدال على التوحش الإنساني وعلى انعدام المبرر في الأذى، والعبثية في التعذيب والقتل، كان شاملاً للانحراف البشري تاريخياً إلى تخفيف العالم من تخمة الأصول والهويات، ذاك كان ديدن الحروب الدينية والطائفية والعرقية من حرب طروادة إلى الإبادة العرقية في فلسطين ومحيطها اليوم، وفي محاكمة «إيخمان» كان انعدام الفهم والحافز صادماً، لكن العقاب أيضاً كان بدون أفق، إذ هل يكفي عقاب شخص لإقامة العدالة، إزاء جرائم تهم مجتمعات، أو دولاً أو البشرية جمعاء؟ ما الذي يمكن أن ينتهي إليه الأمر خارج الإدانة القضائية للفرد؟ في الآن نفسه الذي لا يطول فيه العقاب «جرم الدولة» إلا رمزياً.
في تاريخ البشرية كان الإعدام السياسي انتقاماً بدون مبررات أخلاقية في محطات عديدة، ولا يحقق الإحساس بإقامة العدالة في عمقه، لهذا سيطر العبث في العقاب، وهو ما جعل ميشيل فوكو يكتب «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي»، مؤرخاً للعسف والإقصاء والتهميش لمنكوبين (ذهنياً وجسمانياً) ممن كان عزلهم ونفيهم وإرسالهم للمهالك في سفن لا تعرف شطآناً، حلاً لمصيبة البشرية، وهو الحقل الدلالي الذي يمتح منه السلوك العقابي للجيش الإسرائيلي منذ «طوفان الأقصى»، تجاه ساكنة غزة الذين تدرج الانتقام الجماعي منهم من العزل إلى تنظيم إبادات جماعية، إلى دفعهم للهروب إلى المهالك، فيما يشبه «سفينة الحمقى» المطوحة بالمنكوبين للمجهول التي تحدث عنها ميشيل فوكو، حيث قرنت الضحية بغياب العقل، (لنتأمل معجم الإعلام والسياسيين الإسرائيليين الذين تقلبوا بين مراتب وسم الضحية بالجنون منذ بداية الحرب)، وهو المعنى ذاته الذي ينهض عليه مفهوم الضحايا «البلهاء» الذين تحدثت عنهم حنا آرندت، فالضحية هنا نتاج لثنائية متضامنة: هي «غياب العقل» و«عبثية الشر»، تدعمها قاعدة عقائدية أساس هي «من أجل السماء».
في مقال للصحافية الأميركية المقيمة في القدس إليانا رودي تحدثت عن «بينالي القدس للفن اليهودي المعاصر»، الذي ينتظم منذ سنوات في المدينة المحتلة، بما هو «لحظة للتأمل في مفهوم النزاع» ضمن المحتوى الثقافي لليهودية، ولم يكن العنوان العام للبينالي مفارقاً لمضمون ما ورد في عبارة الصحافية، والمتكرر بصيغ شتى في وثائق البينالي، إذ اختصرت فيه الهوية اليهودية وما تنطوي عليه من ذاكرة متصلة بالصراع في شعار: «من أجل السماء».
يعرض البينالي كل دورة أعمال فنانين يهود من إسرائيل وبلدان أوروبية وأميركية وآسيوية وأفريقية، وبمشاركة عدد محدود من الفنانين غير اليهود، في عدة فضاءات في القدس، أغلبها مواقع في القدس الشرقية من مثل محطة القطار الأولى، ومركز التراث اليهودي لشمال أفريقيا، ومتحف هيشال شلومو، ومركز «أخيم حاجد»، وفي المركز طبعاً «برج داوود»، أماكن بتسمياتها الجديدة المستحدثة على أنقاض التسميات العربية القديمة، وبتصفح سريع للتغطيات الصحافية العالمية المواكبة لمضامين الأعمال الفنية المقدمة في دورات البينالي تتبين هيمنة سؤال «الانتماء» في اتصاله بالعقيدة «اليهودية» وبالأرض والماء والسماء والمدينة والرموز والمباني.... وبتعبير إيدو نوي، مدير محتويات المعارض المقامة، فإن اختيار الفضاء جاء باعتبار «القدس تختزل رمزياً جوهر النزاع».
في كتاب «العنف والمقدس» يستحضر المفكر الفرنسي روني جيرار قاعدة شديدة الدلالة في هذا السياق، هي ما سماه «مثلث الرغبة»، حيث الراغب والمرغوب فيه يحتاجان دوماً إلى وسيط مؤثر يتخذ في أحوال كثيرة صيغة نص، قد يكون له مظهر مقدس، من هنا يمكن فهم عنوان البينالي في إحدى دوراته الأخيرة: «من أجل السماء» الذي يستحضر مفردات ومعاني مشتقة من الآية التوراتية، «إن أي نزاع من أجل السماء سوف يدوم في نهاية المطاف، ولن يدوم أي نزاع آخر ليس من أجل السماء».
الرغبة المتصلة بالانتماء، لا تنفصل - بحسب روني جيرار – عن وجود «منافس»، بمعنى: «أن المرء لا يرغب في هذا أو ذاك من الأشياء لما للغرض المرغوب من قيمة في ذاته، بل لأن امرأً آخر نظيره صيره له مرغوباً، بفعل امتلاكه له، أو مجرد الرغبة فيه»، وهو ما يجعل من وساطة النص أو طرف ثالث لازمة لتخطي رغبة المنافس، الأمر هنا لا يفارق مقولة: «النزاع»، التي تخفف من مضمون المعتقد الأصلي المركب والشديد التعقيد، والمولد لمستويات العنف الحسي، المتصل بالمصادرة المادية قبل المصادرة الرمزية.
وقد يستوعب المشاهد ضمن هذا السياق المفهومي عدداً كبيراً من التأويلات لصيغ ومقترحات الأعمال الفنية المعروضة، بالنظر إلى كونها تسعى إلى إعادة تمثيل النزاع والانتماء، بل أحياناً تعيد رسم كنه «اليهودية»، بوصفها هوية تتخطى نطاق العرق والمعتقد، إلى الخطابات المختلفة المنتجة بوازع الرغبة في الانتساب العاطفي، وهو الافتراض الذي يمكننا من فهم ذلك الإلحاح على جعل فنانين من الولايات المتحدة يستعيرون «يهوديتهم» في المعرض بما هي عتبة لتجاوز «التضامن مع» إلى «التماهي بـ» في رباط مقدس، وهو ما تجسده أساساً المعارض التي تستهدف فتح نقاش بين اليهود الإسرائيليين واليهود الأميركيين حول سبل تخطي «النزاعات الطارئة»، كما مثلته أعمال فنانين غير يهود انتسبوا لمكان وعنوان وشعار ترسم كلها ملامح هوية متعالية لكن لها جذور متصلة بمكان «مرغوب» هو القدس.
المفهوم الدال على التوحش الإنساني كان شاملاً للانحراف البشري تاريخياً وكان ذلك ديدن الحروب الدينية والطائفية والعرقية من حرب طروادة إلى الإبادة العرقية في فلسطين
ليس طارئاً ولا متمحّلاً، إذًا، تصريح رامي أوزيري، المسؤول عن البينالي، الذي يحاول أن يعقد صلة مفهومية بين الأطروحة العقدية وأشكال وأساليب الفن المعاصر، المتنقلة بين «الفيديو» و«الأداء» (البيرفورمانس)، و«التجهيز»، و«النحت»، و«الجداريات»، بناء على استبطانها كلها لأشكال الحركة، وتخطي الاستقرار أو الثبات، التي تسم محتوى الاحتفال اليهودي، بما فيه الصلاة، حيث «تعتمد بشكل كبير على حركة الجسم إلى الأمام وإلى الخلف في إيقاع ممتد»، إنها الحركة المولدة لرمزية الشكل بصرف النظر عن تشخصه الفني أو الطقوسي.
ولعل المماثلة هنا تتخطى نطاق قراءة النوازع المتصلة بالأسلوب في اتصاله بالمحور: «التنازع»، والشعار: «من أجل السماء»، إلى امتلاك الشكل الفني في جوهره وجعل انتمائه للفضاء عودة استعارية للشكل التعبيري القائم على مقولات تخطي الهوية والمواطنة العالمية إلى مبدأ الانتماء، (العودة لا مفر منها لأرض الميعاد)، التي تكسبه معنى. في النهاية هي تنويعات بلاغية تسوغ «عبثية الشر» بإنتاج تأويلات تسعى إلى امتلاك المرغوب وتحقيق الرغبة وتخطي المنافس، المرغوب الذي ليس شيئاً آخر، هنا، إلا المدينة الرمز، بنفي هوياتها الأخرى، وجعل الامتلاك بجوهر إنساني، تكون فيه الأعمال تخييلاً للنزاع ضمن دائرة وعي الراغب المهيمن والـمُصادر، لا من قبل صاحب الحق الذي تحول إلى مجرد منافس.