هل تظهر الدهشة الفلسفية مع الطفولة؟

الطفل ذات مستقلة وكائن لغوي يستطيع أن يفهم

شانتال دِلسول
شانتال دِلسول
TT

هل تظهر الدهشة الفلسفية مع الطفولة؟

شانتال دِلسول
شانتال دِلسول

في مقابلة طويلة مع المجلة الفرنسية «سؤال في الفلسفة» (Question de Philo)، الصادرة في خريف 2023، عدت الفيلسوفة الفرنسية شانتال دِلسول (Chantal Delsol) في مقابلة معها أن «الطفولة هي بداية الدهشة الفلسفية». وكانت المقابلة تدور حول كتابها الأخير المخصص حول فلسفة الطفولة وهو تحت عنوان «un personnage d’aventure» (شخصية مغامرة). وهي تعدُّ أن موضوعها الأساسي هو الطفولة، وذلك لأنه موضوع ساحر بامتياز لأنه غامض بامتياز. وهي تبرر اهتمامها بهذا الموضوع، إضافة إلى اهتمامها بالفلسفة السياسية بأنها قبل أن تكون فيلسوفة هي أُم لأسرة كبيرة مؤلفة من ستة أبناء. وهي الآن محاطة بعدد من الأحفاد والحفيدات، وذكرت في كتابها العديد من الملاحظات التي استخلصتها من حياتها اليومية معهم، وتقول إننا لا يمكن أن نتفلسف حول الطفولة إذا لم نكن قريبين جداً من موضوعنا. ولكن كيف يعبر الطفل عن الحقيقة البشرية؟ برأيها، إن ما يظهر بشكل فاقع هو هشاشة الطفل وكونه خاضعاً لعناية وانتباه الراشدين. أضف إلى ذلك كونه يجد نفسه أمام عالم ضبابي وغامض، حيث يسيطر عليه الخوف والبحث عن الدلالات. وكل ذلك هو ما يميز الكائن البشري والمحدود وغير الكامل والضعيف بشكل مرعب والخاضع أيضاً إلى عناية الآخرين وإلا أصبح مجنوناً. ولكنه غالباً ما يجهل ذلك ويظن نفسه مستقلاً. في الواقع، إن شرط الكائن البشري هو شرط كائن مصدوم أمام عالم مجهول يحاول دوماً أن يمنحه معنى ما.

غلاف المجلة

إن الطفل يعرف ويقبل حالة الضعف البشرية التي يحاول الراشد باستمرار أن ينتصر عليها أو يتجاهلها. إذن، تعدُّ الفيلسوفة دِلسول أن الطفل هو المصدر ونحن نتبع للطريقة التي من خلالها نفهم أصلنا أو مصدرنا. وهي تعدُّ أن ليست هناك أي قطيعة بين الطفولة وسن الرشد، وذلك لأنه مع الطفولة يبدأ كل شيء بما في ذلك كل ما هو أكثر تعقيداً، وذلك لأن النظرة المتفاجئة لدى الطفل الذي يضاعف طرح سؤال «لماذا» ليست سوى بداية الدهشة الفلسفية، وشعور الطفل بالرعب أمام الشر الذي يجهله هو بداية الاستياء الأخلاقي.

وحول رأيها بأعمال المحلّلة النفسية فرنسواز دولتو التي تعدُّ أن الطفل هو ذات مستقلة وكائن لغوي يستطيع أن يفهم ويسمع كل شيء إذا عرفنا كيف نكلمه ونشرح له، فإن فيلسوفتنا ترى أن هذه طريقة معاصرة جداً في رؤية الأمور، حيث إن الأهل الشباب يشرحون كل شيء للطفل وحتى للرضيع. وتعتقد أيضاً أن الطفل ليس فقط شخصاً متمتعاً بكرامة كاملة بل هو أيضاً ذات تفهم؛ وإن ما يدعو للعجب هو أن الأطفال يفهمون الأوضاع، لأن لديهم قدرة كبرى انفعالية وحدسية. ونحن لسنا بحاجة لأن نخفي عنهم شجاراً أو قلقاً أو صعوبة ما، وذلك لأنهم يشعرون بذلك مباشرةً. إذن، بالنسبة إلى الفيلسوفة دلسول كل شيء يتم ويتأسس في مرحلة الطفولة. وكل شيء يتعلق بتلك الصورة التي يتم منحها للقلب وللروح. وأيضاً كل شيء يتعلق بالأحداث التي تمهر مرحلة الطفولة الطرية العود. وهي تعتقد أن الطفولة السعيدة هي بمثابة رأسمال لحياة لا يُقدر بثمن.

كي نعلّم الطفل كيف يواجه العالم ليس من الضروري إعطاؤه دروساً نظرية لأن مواجهة الواقع هي مسألة روحانية وليست نظرية أو عقلانية

ولكن، ماذا تقول فيلسوفتنا اليوم لأولئك الأزواج الذين يترددون في إنجاب طفل في هذا العالم خوفاً من المستقبل في مجتمع معرّض للإرهاب وللأخطار البيئية على الخصوص؟ في الواقع، هي تعدُّ أن الأخطار المذكورة أعلاه لا تعني شيئاً. برأيها، فلكل عصر أخطاره الكبرى. ومن دون شك كانت الأخطار أكبر في العصور السابقة مع الحربين العالميتين ومع الأنظمة الشمولية؛ ومن السخرية أن نتذرع بأخطار العالم كي لا ننجب أطفالاً. ولكن هل نساعد أطفالنا لمواجهة الواقع من خلال تعليمهم بعض المفاهيم والمبادئ في الفلسفة وعلم النفس؟ دلسول لا تعتقد بذلك. فهي تعدُّ أنه كي نعلّم الطفل كيف يواجه العالم والواقع ليس من الضروري إعطاؤه دروساً نظرية، لأن مواجهة الواقع كمحبة الأقارب والأشقاء والأصدقاء هي مسألة روحانية وليست نظرية أو عقلانية. وحتى نقبل الواقع يلزمنا ليس المعارف والنظريات، بل الفضائل مثل الصبر والمثابرة والرجاء، وهذا لا نتعلمه في الكتب، بل من خلال الوجود الواضح والجدّي المعاش مع راشد حريص. لا شيء يجعل الطفل مسؤولاً سوى وجود مربّ يتسم بالعمق والاهتمام الدائم.

ولكن مشكلة التربية الأساسية اليوم تتمثل في عدم قدرة الأهل على إجبار الأطفال على الكبت، وتعليمهم كيفية إدارة كبتهم. دلسول تعدُّ هذا الأمر بمثابة إحدى المشكلات الكبرى التي نصادفها وتتمثل في عجزنا، ضمن المجتمعات الثرية، عن حرمان الأطفال من كل ما يشتهونه... ويجب الاعتراف بأنه من الأسهل للمربي أن يُرضي كل رغبات الطفل، وذلك لأن قول «لا» يقتضي قوةً وثباتاً يشعر الكثيرون بأنهم عاجزون عن ذلك. ولكن المشكلة تكمن في أن طفلاً يكبر من دون أن يعرف الكبت يصبح منحرفاً بالقوة.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو
TT

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

في روايتها «عشبة ومطر» دار «العين» للنشر بالقاهرة - تختار الكاتبة الإماراتية وداد خليفة الثقافة العربية سؤالاً مركزياً حائراً بين واقع مشوّش ومستقبل مجهول، حيث تبدو اللغة والتاريخ وكأنهما ينازعان أنفاسهما الأخيرة للصمود داخل قِلاعها العربية نفسها.

وتعتمد الروائية على تقنية الأصوات المتعددة لتعميق صراعات أبطالها مع عالمهم الخارجي، حيث تتشارك كل من بطلة الرواية «عشبة» وابنها «مطر» في نزعة تراثية جمالية يتفاعلان من خلالها مع دوائرهما التي يبدو أنها تتنصّل من تلك النزعة في مقابل الانسحاق في مدّ «الثقافة العالمية» المُعلبّة، ولغة التواصل «الرقمية»، فتبدو بطلة الرواية التي تنتمي إلى دولة الإمارات وكأنها تُنازِع منذ أول مشاهد الرواية من أجل التواصل مع محيطها الأسري بأجياله المتعاقبة، حيث تُقاوم النزعة «السائدة» في ذلك المجتمع العربي الذي بات أفراده يتحدثون الإنجليزية داخل بيوتهم، ولا سيما أجيال الأحفاد وسط «لوثة من التعالي»، «فهؤلاء الأبناء لا يعرفون من العربية سوى أسمائهم التي يلفظونها بشكل ركيك»، في حين تبدو محاولات «عشبة» استدراك تلك التحوّلات التي طرأت على المجتمع الإماراتي أقرب لمحاربة طواحين الهواء، فتأتيها الردود من محيطها العائلي مُثبِطة؛ على شاكلة: «لا تكبّري المواضيع!».

صناديق مفتوحة

يتسلل هذا الصوت النقدي عبر شِعاب الرواية، فتبدو «عشبة» مهمومة بتوثيق العلاقة مع الماضي بذاكرته الجمعية التي تتقاطع مع سيرتها الشخصية منذ تخرجها في معهد المعلمات بإمارة الشارقة وحتى تقاعدها، لتعيد تذكّر تفاعل جيلها مع كبريات التغيّرات السياسية سواء المحلية، وعلى رأسها المخاض الطويل لاتحاد الإمارات العربية المتحدة، وحتى سياقات الحروب والنكبات العربية منذ حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وصولاً لمجازر «صبرا وشاتيلا» الدامية في لبنان 1982 والنزف الفلسطيني المُستمر، في محطات تجترها البطلة بعودتها إلى قصاصات الأخبار التي ظلّت تجمعها وتحتفظ بها من مجلات وصحف عربية لتؤرشفها وتُراكمها عبر السنوات داخل صناديق، ليصبح فعل تقليبها في هذا الأرشيف بمثابة مواجهة شاقّة مع الماضي، بينما تبدو الصناديق والقصاصات الورقية مُعادلاً للحفظ الإلكتروني والملفات الرقمية التي قد تتفوق في آلياتها وبياناتها، وإن كانت تفتقر إلى حميمية الذكرى، وملمس المُتعلقات الشخصية التي تنكأ لديها جراح الفقد مع كل صندوق تقوم بفتحه: «أعدت غطاء الصندوق الذي يحتاج مني إلى جرأة أكبر لنبشه، ففي الصندوق ثوب فلسطيني طرَّزته أمٌ ثكلى من بئر السبع... أم صديقتي سميرة أخت الشهيد، ودفتر قصائد نازقة دوّنته صديقتي مها من غزة... صورٌ لزميلاتي بالعمل من جنين ونابلس ورام الله... رسائل من صديقتي ابتسام المقدسية... ومن حيفا مفارش مطرزة من صديقة العائلة أم رمزي».

بالتوازي مع تنقّل السرد من حكايات صندوق إلى آخر، يتصاعد الصراع الدرامي لبطل الرواية «مطر» الخبير في تقييم التُحف، الذي يقوده شغفه بمجال «الأنتيك» والآثار القديمة لتتبع مساراتها في مزادات أوروبية تقترب به من عالم عصابات مافيا القطع الأثرية، كما تقوده إلى الاقتراب من حكايات أصحاب القطع الأثرية التي تُباع بالملايين في صالات الأثرياء، كحكاية «مرآة دمشقية» ظلّ صاحبها يتتبعها حتى وصلت لقاعة مزادات «كريستيز» حاملاً معه ذكرى حكاية جدته وأسرته وتشريدهم، وتصنيعهم تلك المرآة بأُبهتها الزخرفية والفنية في غضون ظروف تاريخية استثنائية خلال فترة سيطرة الحكم العثماني في دمشق.

نهب ممنهج

تبدو الرواية التي تقع في 350 صفحة، وكأنها تمنح حضوراً سردياً للقطع الأثرية المفقودة، والمنهوبة، بصفتها شواهد تاريخية تتعقب «تُجار الممتلكات الثقافية»، ودور المزادات، وأمناء المتاحف، وسط متاهات تزوير الوثائق الخاصة بالقِطع وشهادات المنشأ، وتهريب القطع من بلادها، ولا سيما بعد الربيع العربي والحروب الأهلية التي أعقبته، لتفتح ساحات السرقة الممنهجة للآثار في المواقع الأثرية العربية، كما في تونس ومصر وسوريا والعراق، في حين تبدو قصص القطع المفقودة أُحجيات تتبعها الرواية وتحيكها بخيوط نوستالجية تمدّها الكاتبة على امتداد السرد.

تعتني لغة الرواية بالوصف الدقيق للتفاصيل الجمالية التي تبدو في صراع متواتر مع تيار محو أعنف، كقطع السجاد الأصيل وأنواله التقليدية، والزخارف الغرناطية العتيقة على الأسطح، في مقابل ثقافة «الماركات» الاستهلاكية التي تُميّع الذوق العام، والحروف اللاتينية التي تُناظر الحروف العربية وتُغيّبها في لغة الحياة اليومية.

وقد حازت رواية «عشبة ومطر» أخيراً جائزة «العويس للإبداع»، ومن أجواء الرواية نقرأ:

«كنتُ قصيراً، أقفز كي تلمس أطراف أصابعي مطرقة الباب، وبعد أن كبرت قليلاً، وأصبحت أمسكها بيدي، استوقفني شكلها الذي صُنع على هيئة يد بشرية، ثم أدركت أن هناك مطرقتين فوق بعضهما، تعجبت، وسألت أمي عن السبب فقالت: (كانت لدروازتنا مطرقة واحدة، لكن والدك أبهرته فنون بغداد، فجلب منها مطرقتين، مثبتاً المطرقة الأكبر في الأعلى للرجال والمطرقة الأصغر أسفل منها للنساء، ليختصر بذلك السؤال عن هُوية الطارق، فكنا نُميّز الطارق رجلاً أم امرأة من صوت المطرقة)... بِتُ أنصت للطَرق، كنت أعرف طرقات أمي الثلاث، وتعرف أمي طرقاتي المتسارعة، كان هناك طَرقٌ مُبشر، وطرقٌ يخلع القلب، طرق هامس مُدلل، وطرق يُشبه كركرة الأطفال».