في عام 1931، أجرى الصحافي البريطاني سيفتون ديلمر مقابلة مع أدولف هتلر، الذي كان يغطي حملته الرئاسية الطويلة لصحيفة بريطانية. أنذاك كتب ديلمر في صحيفة «دايلي إكسبريس»: «أدركت سر قوته في لمح البصر. لقد فتن هتلر ملايين الرجال والنساء صوب الالتزام المتعصب، بنظرته الحماسية وشغفه الشخصي».
وأشادت مقالات ديلمر بكبار الضباط في القيادة النازية. وكان يُقيم لهم الحفلات ويحصل في المقابل على أخبار حصرية. لاحظت السفارة البريطانية في برلين الأمر، وأبلغت لندن بأن ديلمر كان «ربما الوحيد خارج الدائرة الساحرة» ممن كانت لديه اتصالات لجمع هذا العدد الكبير من الشخصيات النازية البارزة.
عندما نشبت الحرب عام 1939، جندت المخابرات البريطانية ديلمر لاستخدام معرفته بالدعاية النازية في مواجهتها. واقترح ديملر قائلاً: «أعتقد أنه يجب علينا تجربة نوع جديد من (الراديو الأسود) (الدعاية المضادة) على الألمان. نوع يستهدف تقويض هتلر، ولكن ليس بمعارضته، وإنما عن طريق التظاهر بالتأييد الكامل له ولحربه». كان ديلمر يدير برامجه النازية المزيفة من محطة إذاعية في قرية آسبلي غويس الواقعة على بعد 40 ميلاً من لندن. وبدأت الحلقة الأولى عام 1941.
بعد ثمانين عاماً، زار الصحافي البريطاني بيتر بوميرانتسيف، الذي وُلد في كييف، بلدة بوتشا الأوكرانية في عام 2022، بعدما تحررت من الاحتلال العسكري الروسي، الذي استمر شهراً.
قال له أحد الجنرالات الأوكرانيين وهو يقوده وآخرين في جولة بين الدمار: «لقد تمت تغذية الروس بالكثير من الدعاية المدمرة للعقول»، وأضاف، وهو يشير إلى أكياس الجثث المملوءة بالمدنيين، «هذا خلّفته الدعاية».
في كتابه «كيف تربح حرب المعلومات»، يمزج بوميرانتسيف بين روايات التضليل الروسي مع سيرة ذاتية لديلمر وقراءة متأنية لبرامجه الإذاعية. ففي جهوده لتقويض النازية، اكتشف ديلمر، «الثائر»، كما يرى بوميرانتسيف، حقائق قوية، وإن كانت مؤلمة، حول الطبيعة البشرية التي «تظل أكثر أهمية من أي وقت مضى»، ويمكن أن تساعد في صد مسيرة الاستبداد اليوم.
يقدم بوميرانتسيف قصة زاهية أحياناً لمغامرات ديلمر، لكنه لم يقدم ذلك في الوقت المناسب. فالدروس المستفادة من «كيف تربح حرب المعلومات» تقتصر في الغالب على عبارات مألوفة: «ما نحتاج إليه هو منح الناس الدافع للاهتمام بالحقيقة مرة أخرى»؛ «يمكننا جذب انتباه الجماهير حتى الأكثر تشككاً إذا فهمنا دوافعهم».
وما نسمعه من الحلقات التي كان يبثها ديلمر ليس بالأمر الثوري على الإطلاق. فبين التمنيات الطيبة لطواقم الغواصات الألمانية والأغاني الراقصة المبهجة، كان ديلمر يُعلن عن تعرض الجبهة الأمامية الألمانية للهزائم، ويتحدث عن الجشع بين النخبة الحزبية. كما شجع المستمعين على تناول الحبوب المنومة، على أمل أن يغفوا خلال الهجمات الجوية، وادعى أن زوجات المسؤولين النازيين كن يشترين الأقمشة من الأسواق توقعاً لشحّها. ولسرور ديلمر، ألقت إحدى الصحف في مدينة كيل بشمال ألمانيا باللوم لاحقاً على الشائعات في تهافت الناس على متاجر الملابس في المدينة.
ينسب بوميرانتسيف الفضل إلى ديلمر في إشعال رغبة جمهوره الألماني «في التفكير بأنفسهم مرة أخرى، والوقوع في حب اكتشاف الحقائق»، لكن العديد من هذه الحيل يبدو أنها مصممة لإلحاق الضرر بالجمهور، وليست لإيقاظه. وبعيداً عن البث الإذاعي، أصدر زملاؤه منشورات تُشجع الجنود الألمان على الهروب من الخدمة عن طريق تزييف الادعاء بالمرض. آمل ديلمر أيضاً أن تثير تلك المنشورات التحريضية حالة من عدم ثقة بين الأطباء العسكريين وبين مرضاهم النازيين؛ مما يفاقم من صعوبة العلاج من الأمراض الحقيقية.
هل هددت مخادعات ديلمر الرايخ الثالث؟ لقد أزعجت عمليات البث رئيس الدعاية النازي جوزيف غوبلز بما يكفي لذكرها في مذكرات اجتماعاته، ولكن مايكل بالفور، المخضرم في جهود الدعاية البريطانية والذي وثقها لاحقاً كمؤرخ، استنتج أن الحملة «قد فشلت، وهذه هي الحقيقة». لقد قاتل النازيون حتى النهاية المريرة. ولم تكسرهم الانتفاضات والانشقاقات من الداخل.
يعترف بوميرانتسيف بذلك، غير أنه يُجادل في أن ديلمر ربما ساعد في تحفيز الجنود الألمان ودفعهم إلى الاستسلام. لكنه لا يُقدم أدلة حقيقية في هذا الصدد. وبالمثل، لا يدعم ادعاءه بأن المحاولة الفاشلة لاغتيال هتلر، التي قادها أفراد من الجيش الألماني، أظهرت أن ديلمر «تمكن من التأثير على سلوك مجموعة محددة من الأشخاص وساعد في تعزيز الإجراء الذي، إذا نجح، سوف يُقوض النازيين بشدة».
تصبح الأمور مثيرة للشك أكثر عندما يستكشف بوميرانتسيف نظريات التحليل النفسي، الرائجة وقتذاك، والتي ساهمت في تعزيز جهود الدعاية البريطانية المضادة. يشعر المرء بالتعاطف مع بوميرانتسيف، الذي، بعد إصراره على عبقرية ديلمر، يجب أن يوافق أيضاً، على سبيل المثال، على أن النازية كانت «شكلاً من أشكال السادية والمازوخية» أو أن الألمان يمتلكون «شهية للتضحية بأنفسهم»، كجزء من «دافع الموت» اللاشعوري، والذي سعى ديلمر لإنمائه.
يبحث بيتر بوميرانتسيف في كتابه «كيف تربح حرب المعلومات» عن دروس في الصراع بين روسيا وأوكرانيا
انصراف بوميرانتسيف إلى «الثرثرة النفسية» قبل ومنتصف القرن الماضي، قد يساعد في تفسير الأساليب التي استخدمها ديلمر، ولكنه لا يساعد كثيراً في دفع حروب القرن الحادي والعشرين. نحن نعيش في عصر ذهبي في العلوم الاجتماعية المُدققة من قِبل المختصين. لكن بوميرانتسيف، بعد أن صنّف نفسه أسيراً لادعائه بأن ديلمر كان «عبقري الدعاية» و«الذي «تفوق على هتلر»، لا يمكنه الاستفادة من هذا المعرفة.
بدلاً من ذلك، يستند كتابه «كيف تربح حرب المعلومات» إلى أطروحة مركزية، على رغم أنها غالباً ما تكون ضمنية: إذا اصطف الناس وراء حكومة تراها أنت أو أنا مقيتة، فيجب أن يكون بسبب التلاعب بهم في ذلك - ويمكن التلاعب بهم أيضاً للخروج من هذه الحالة.
نعم، الدعاية مهمة، ويمكن أن تقود، على سبيل المثال، للانحراف بدرجة أكبر نحو الاتجاه الذي يريده أصحاب الدعاية. لكن هل يمكن حقاً أن تكون المسؤولة عن الانجذاب البشري نحو الاستبداد والعنف الجماعي؟
يتطلب كل ذلك تفسيراً بديلاً لصعود هتلر أو الفظائع الروسية في أوكرانيا، تفسير يقدم التاريخ والعلوم الاجتماعية حياله الكثير من الأدلة: سوف يدعم العديد من الأشخاص، تحت ظروف معينة، السلطوية، والنزعة العسكرية، والتحريض على الإبادة الجماعية بعيون مفتوحة؛ لأنهم يجدون هذه الأشياء جذابة.
التعطش الألماني للحرب قد لا يكون له علاقة بالحرب الدعائية على الإطلاق، وربما هذا هو السبب في أن ديلمر لم يفز بها أبداً.
* خدمة «نيويوماكس» فيشر هو مؤلف كتاب «آلة الفوضى: القصة الداخلية لكيفية إعادة تشكيل وسائل التواصل الاجتماعي لعقولنا وعالمنا»