هل ما يزال العمل نبيلاً؟

سر القوة الإبداعية البشرية منذ عصور ما قبل التاريخ

جيل دولوز
جيل دولوز
TT

هل ما يزال العمل نبيلاً؟

جيل دولوز
جيل دولوز

صدرت، عام 2023، عن «دار بوم» ترجمة وتحرير الكتاب الموسوم «التاريخ والذات العنيدة» من اللغة الألمانية (1981)، إلى اللغة الهولندية، للألمانيين المخرج والروائي ألكسندر كلوجه (1932) وعالم الاجتماع أوسكار نيغت (1934)، في خمسمائة صفحة، تحت عنوان جديد «الذاتية المتمردة، العمل والتاريخ» على يد فرنس بركر، وخيرتيان سخولين، ورودي لايرمانس. أما الكتاب الأصلي فيتكون من 1200 صفحة مليئة بالاستطرادات الفلسفية والتاريخية والحكايات الخيالية والصور والجداول. وفقاً لِلايرمانس، الأستاذ الفخري لعلم الاجتماع النظري في جامعة لوفين، فهذا كتاب كلاسيكي حول النظرية النقدية؛ أي النقد الاجتماعي، الذي مارسه كثير من مفكري مدرسة فرنكفورت، وهو مستوحى من تحليل ماركس للمجتمع الرأسمالي.

ويعرف نيغت وكلوجه العمل بأنه هو «قدرة الإنسان على تغيير المادة بطريقة متعمدة». لذلك فهما يتناولان مصطلح العمل على نطاق واسع جدا؛ فالعمل لا يخدم الإنتاج والصناعة فحسب، بل يخلق أيضا علاقات اجتماعية ويطور المجتمع.

ميشيل فوكو

بالنسبة لهما، فإن العناد أو التمرد يحيل على عدم القدرة على التحكم في القدرات البشرية. فيما يخص هذه القدرات، يمكنك التفكير في الحواس، ولكن أيضاً القدرة على التواصل أو الرغبة أو قدرة الدماغ على إجراء اتصالات. إن الذات نفسها لا تتحكم بشكل كامل في قدراتها؛ مثلا على العقل الباطن (فرويد) أو على الجهاز الهضمي. إن كل قدرة لها منطقها الخاص، وديناميكيتها الخاصة. تُستعمل هذه القدرات في العمل. وهذا يعني ضمن الإنتاج الرأسمالي: المصادرة. إن وسائل الإنتاج والتقنيات الجديدة تغير القدرات وتخلق أيضاً قدرات جديدة. وفي النهاية، فهذه السيرورة ترتبط بالتاريخ؛ فمع كل طريقة إنتاج جديدة، تنشأ قدرات جديدة.

لكن نيغت وكلوجه لا يفكران بطريقة حتمية؛ وهنا بالتحديد يكمن تمرد القدرات. على سبيل المثال، إن تمردَ الجسم يتجسَّد في تعبه. يقول الكاتبان إن ماركس لم تكن لديه في الواقع نظرية عن العمل. فماذا يقصدان بهذا، يا ترى؟ يكتب ماركس في كتاب «رأس المال» عن استغلال العمل في الإنتاج الرأسمالي، لكنه يعدّ العمل في حد ذاته أمرا مفروغا منه. لكنهما ينظران إلى كل أشكال العمل الضرورية قبل ظهور العمل في المصنع، والتي تشكل أيضاً شروط العمل في مجتمع ما بعد الصناعة. إنهما يربطان مفهوم العمل بمجالات مثل العلاقات الشخصية والذكاء والحرب والسياسة. ومن خلال القيام بذلك، فإنهما ينتقدان التمييز الصارم للغاية؛ على سبيل المثال، في رؤية حنه أرندت ويورغن هابرماس بين الفعل الذرائعي والتواصلي، بين العمل والسياسة. بحسبهما، هناك مجال سياسي، ولكن هناك أيضاً سياسة في مجالات أخرى.

وبالإشارة إلى الصيغة التي يعرّف بها ماركس مفهوم العمل بأنه «استقلاب الإنسان مع الطبيعة» وأنه نشاط إنساني واع وإرادي محدد، لا يعمل من خلاله على الطبيعة لإشباع احتياجاته فحسب، بل بفضله يغير طبيعة الإنسان الذاتية ويجعله يشعر بقيمته، فإن أرندت في مساهمتها تؤكد أن «العمل والاستهلاك ليسا سوى مرحلتين في الدورة الدائمة للحياة البيولوجية. يجب الحفاظ على هذه الدورة من خلال الاستهلاك، والنشاط الذي يوفر وسائل الاستهلاك هو نشاط العمل». ولقد ميزت وبشكل حاد بين العمل السياسي من ناحية، والشغل والعمل من ناحية أخرى. كما أن الكدح والعمل، اللذين عدهما التقليد الفلسفي من بيكون إلى ماركس وسيلة للتحرر من قبضة الطبيعة، كانا في الواقع خضوعا للضرورات وقيود العالم المادي. ولذلك، بحسبها، لا ينبغي للسياسة أن تدور حول القضايا الاجتماعية. وبمجرد محاولة إيجاد حلول للفقر أو عدم المساواة الاجتماعية أو العنصرية أو الثقافية، تتم التضحية بالحرية السياسية من أجل الضرورة الاجتماعية.

مؤلفا الكتاب مهتمان أيضاً بـ«العمل الذكي» أو العمل في التعليم والإعلام والصحافة، ولكن أيضاً في مجال الكومبيوتر. من المحتمل أن تكون هناك قوة مخبأة في كل هذه الأعمال، على وجه التحديد بسبب خصوصيتها وتمردها، أكثر بكثير مما يتم التعبير عنها في ظل علاقات الإنتاج السائدة.

أبعد من نظرية ماركس

لقد اختار المؤلفان مساراً مختلفاً. فبدلاً من الشكوى من انحطاط الحداثة، اتبعا مشروعا بدأ مع ماركس نفسه. لقد تحدث ماركس عن رأس المال، ولكن ما هو بالضبط تاريخ نظيره - العمل؟ فقط اللغة والعمل يرفعاننا عن الطبيعة، كما قالها زميلهما يورغن هابرماس ذات مرة، وفقط من خلال اللغة والعمل يمكن للإنسان أن يفهم ذاته. اختار هابرماس علانية الموضوع اللغوي وودع «مفهوم العمل» الماركسي. من ناحية أخرى، ظل نيغت وكلوجه أكثر ثباتاً في ماديتهما. مثلما كتب ماركس «رأس المال»، أرادا تأليف كتاب عن العمل؛ فهو سر القوة الإبداعية البشرية منذ عصور ما قبل التاريخ.

هكذا يبني نيغت وكلوجه على فكر ماركس، لكنهما ينظران أيضاً إلى أبعد من نظرية المؤسس. بالنسبة لهما، يقتصر العمل، على الأقل، على العمل المأجور في المصنع أو المكتب. بدلاً من ذلك، فإن المجتمع والتاريخ بأكمله هو مختبر يبحث فيه الإنسان باستمرار عن مواد عمل جديدة. «كنشاط كوني يحوّل المادة». ويتساءلان: «هل العمل هو أحد الألغاز التي لم يتم حلها في العالم؟».

ففي هذا الكتاب، نجد العمل الذكي، والعمل البحثي، والعمل المعرفي، وتوجيه العمل وعمل المقاومة، وعمل المرأة، وأعمال الترجمة، والأعمال التجارية، والتاريخ، والعمل النظري، والعمل التشكيلي، وحب العمل، وأيضا العمل الحربي. إن العمل هو التعبير الملون عن حرية الإنسان، ولكنه أيضاً مصدر القمع الصارخ.

إن نظرية الفعل الإنساني التي وضعها نيغت وكلوجه على أساس مفهوم العمل تقوم على خمسة مفاهيم أساسية تُعرض في الجزء الأول «خصوصية القدرات البشرية». ويؤكدان أن لا عمل من دون عمل توجيهي؛ يبذل المرء جهداً لتوجيه نفسه في عمله وحياته ومجتمعه. كما أن هناك، تاريخياً، ثلاثة أشكال من التوجه: الاستبطان، والمحادثة، والتجربة.

يعد مفهوم «Eigensinn» بُعداً مهماً للعمل التوجيهي؛ إذ إن المرء يوجه نفسه من خلال حواسه وبسبب شيء وضعه نصب عينيه. ويستخدم نيغت وكلوجه هذا المفهوم في عدة معانٍ: الخصوصيات، المعنى الخاص للفرد، ملكية الحواس الخمس، القدرة على إدراك كل ما يحدث حولك، وكذلك العناد والتمرد، أو الاشمئزاز، أو الصمود. فيتفحصان أمثلة من فترات تاريخية ويظهران أن الأساطير اليونانية ليست فقط هي التي تقدم رؤى مفيدة، بل أيضاً حكايات الأخوين يعقوب وفيلهلم «غريم - Grimm» الخيالية والتجربة التاريخية المخزَّنة في هذه القصص الخيالية.

وسائل الإنتاج والتقنيات الجديدة تغير القدرات وتخلق أيضا قدرات جديدة. وفي النهاية، فهذه السيرورة ترتبط بالتاريخ؛ فمع كل طريقة إنتاج جديدة، تنشأ قدرات جديدة

يقول لايرمانس، أحد المترجمين الثلاثة، إن هذا الكتاب الذي يعد جزءا من «شريعة الفلسفة الألمانية»، هو عبارة عن معالجة خاصة لعدد من المواضيع من الجيل الأول لمدرسة فرنكفورت ومن ماركس الشاب، والتي لم تكن واضحة بذاتها في وقت نشرها. إنه، في الواقع، كتاب من دون تكملة، من دون مؤلفين يشرحونه بالتفصيل. وما يجعله في غاية الأهمية هو أنه يحتوي على حوار صريح مع مؤلفين مثل دولوز وغاتاري وفوكو، وأنه في حدته واتساع فكره يُظهر الكثير من أوجه التشابه مع هؤلاء المفكرين الفرنسيين. الكتاب هو نوع من الرابط الخفي بين النظرية النقدية لمدرسة فرنكفورت وما بعد البنيوية. ولا يعبر عن نظرية مكتملة. إنما نشهد ممارسة التنظير، مع كل خصوصيات هذين المفكرين المختلفين تماماً. علاوة على ذلك، فإن هذا أيضاً يلبي حاجة كثير من قدرات القارئ.

وقد تمت كتابة الفصول المختلفة في «التاريخ والذات المتمردة» (النسخة الألمانية) كمقالات يمكن قراءتها بشكل مستقل. وهذا يتناسب مع دعوة القارئ إلى شق طريقه عبر الكتاب. وكمبدأ توجيهي محتمل، حرص المترجمون على عرض خط أحمر يتخلل الكتاب كما اكتشفوه أثناء القراءة والترجمة. فكانت نتيجة قراءة مشترَكة تهدف مرة أخرى إلى تشجيع القراء على التأويل بخصوصيات مختلفة. وللعلم، فإنهم اعتمدوا في الترجمة على الكتاب الأصلي؛ فجرى تقسيم الكتاب المُترجم إلى خمسة عشر فصلا معنونة وموزعة بالتساوي على ثلاثة أجزاء. وحرصوا على شرح وجهة نظرهم العلمية والمهنية وهدف تحريرهم لهذا الكتاب، بالإضافة إلى مشكلات الترجمة المأخوذة بعين الاعتبار والمدرجة في نهاية الكتاب.

* كاتبة مغربية.


مقالات ذات صلة

كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)
شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)
TT

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)
شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

ووفقاً لصحيفة «الغارديان» البريطانية، ستفرض شركة «سباينز» على المؤلفين ما بين 1200 دولار و5000 دولار لتحرير كتبهم ومراجعتها وتنسيقها وتصميمها وتوزيعها بواسطة الذكاء الاصطناعي.

وبهذا الشأن، قالت دار النشر المستقلة «كونغيت»، على منصة «بلو سكاي»: «هؤلاء... لا يهتمون بالكتابة أو الكتب».

وتقول الكاتبة سويي ديفيز أوكونجبوا: «تفرض (سباينز) رسوماً على المؤلفين المحتملين لإتمام نشر كتبهم، بأقل قدر ممكن من الاهتمام أو الرعاية أو الحرفية، هؤلاء ليسوا أشخاصاً يهتمون بالكتب أو القراءة أو أي شيء مرتبط بها من قريب أو من بعيد... هؤلاء انتهازيون ورأسماليون استغلاليون».

وبهذا الشأن تقول «سباينز»، التي حصلت مؤخراً على 16 مليون دولار تمويلاً أولياً، إن المؤلفين سيحتفظون بنسبة 100 في المائة من حقوق الملكية الخاصة بهم.

وادعى المؤسس المشارك يهودا نيف، الذي كان يدير سابقاً شركة نشر وخدمات نشر في إسرائيل، أن الشركة «ليست شركة نشر ذاتي» بل «منصة نشر».

ومن جانبها، تقول آنا غانلي، الرئيسة التنفيذية لأكبر نقابة للكتاب والرسامين والمترجمين في المملكة المتحدة: «ننصح المؤلفين بالتفكير بعناية شديدة قبل الالتزام بأي عقد يتضمن دفع الكاتب مقابل نشر عمله».

وأضافت: «من غير المرجح أن يحقق النشر بهذه الطريقة ما يأمل المؤلف في تحقيقه، ومن غير المرجح أن يكون ذلك أفضل السبل أمامه، وإذا كان سيعتمد على أنظمة الذكاء الاصطناعي، فهناك مخاوف بشأن الافتقار إلى الأصالة وجودة الخدمة المقدمة حتى لو كانت هناك ضمانات بأن النظام المعني لم يتم تطويره باستخدام محتوى حقوق الطبع والنشر بشكل غير قانوني».

تقول «سباينز» إنها ستقلل الوقت المستغرق لنشر كتاب إلى فترة أقصاها 3 أسابيع.