إمبراطورية تكاد تأكل نفسها

طبعة ثانية من كتاب «الإمبراطورية الجديدة» لعمر كوش

إمبراطورية تكاد تأكل نفسها
TT

إمبراطورية تكاد تأكل نفسها

إمبراطورية تكاد تأكل نفسها

أنا من محبّي القراءة الثانية للكتب. ونادراً ما أشعر بأن القراءة الثانية هي «ثانية» بحقّ، فدائماً ما أكتشف أشياء في الكتاب أحسبها جديدة رغم أني مررت عليها من قبل. كما أن المُتعة والبصيرة اللتين نتحصل عليهما من الكتب المهمة نادراً ما تأتيان من أول قراءة. وهكذا لم أتردد بقراءة كتاب «الإمبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق» للباحث السوري عمر كوش في طبعته الجديدة بعد مضي أكثر من عشرين سنة على طبعته الأولى.

يناقش الكتاب مفاهيم وتحولات كانت مثيرة بالفعل ومحلّ أخذ وردّ مطلع الألفية، لكنها قد لا تروق اليوم إلا للمختصّين والمولعين بالمتابعات السياسية الحثيثة. إذ ليس من جديد في قول الباحث إن الرأسمالية العالمية مهّدت لترسيخ «إمبراطورية جديدة» تتمثل بالولايات المتحدة الأميركية، وإن القرن العشرين كان «قرناً أميركياً بامتياز»، (مع أنه لم يكن كذلك في نصفه الأول!).

وليس من محدثات الأمور أن يخبرنا كوش في كتابه عن اختلاف «النظام الإمبراطوري» الجديد عن الإمبراطوريات القديمة، ومع ذلك يقول كوش إنه احتاج إلى الاستناد لحقول معرفية كثيرة في سبيل تشريح هذه الظاهرة الإمبراطورية غير المسبوقة، من بينها الفلسفة والتاريخ والاقتصاد والسياسة والأنثروبولوجيا، كل ذلك من أجل تقديم إطار نظري للمفاهيم التي ترافق مصطلح «الإمبراطورية الجديدة».

يقسّم الباحث كتابه إلى 3 أقسام، يلتزم في القسم الأول منها بأطروحته «الإمبراطورية» ويمضي فيها إلى نهايتها تقريباً. يشرح لنا أهداف النظام الإمبراطوري الرامي إلى «التحكم بمصائر البشر والأسواق»، ص 16، والتدخل في القرارات السيادية للدول والترويج لمفاهيم ملتوية من قبيل «الحرب العادلة،» و«الإرهاب الدولي»، وغيرهما من المصطلحات التي لا تخدم إلا مجاميع عسكرية ومالية أميركية تهيمن على «القرار الإمبراطوري الأميركي»، حسب تعبير الباحث.

ويقول كوش، على نحوٍ مبهم، إن حياة البشر صارت متأثرة «بالعالم الإمبراطوري، من خلال ممارسات الشركات فوق القومية، والتجارة العالمية، وتدفق الرساميل المصرفية، ووسائل الإعلام الدولية»، ص 37. ويسهب بالحديث عن دور التلفزيون في عالم الإمبراطورية وتأسيس «مجتمع المشهد الإمبراطوري»، مستنداً إلى أطروحات جان بودريار التي صارت عتيقة بما يكفي، إذ مَن يشاهد التلفزيون اليوم؟

إلى ذلك، فقد أحسن الباحث في توظيف أدوات نعوم تشومسكي عندما تطرّق إلى موضوع التحكم بالعقول، وتوجيه الرأي العام أو «صناعة الإجماع»، بلغة تشومسكي، فهذه أمور لا تزال قائمة رغم التحولات الأخيرة من التلفزيون إلى الجوال، ومن الإنترنت إلى التواصل الاجتماعي، لكن كوش يذهب بعيداً بما يجعل الإيغال بالقراءة بمثابة الخروج عن نص واقعنا الراهن، خصوصاً عندما يستعين بمشرحة جاك دريدا ومقولاته الغامضة من قبيل «العقل التلفزيوني!» (هل بقي اليوم مَن يأخذ جاك دريدا على محمل الجدّ؟).

حياة البشر صارت متأثرة «بالعالم الإمبراطوري من خلال ممارسات الشركات فوق القومية والتجارة العالمية وتدفق الرساميل المصرفية ووسائل الإعلام الدولية»

يلتزم الباحث في القسم الثاني من كتابه بخطته في كشف التحايل الإمبراطوري في اللعب على المفاهيم وخلق صورة مزيفة أو ميتافيزيقية للواقع، تتجسد في صناعة العدو المتخيل، ومن ثم شنّ الحروب «المقدسة»، خصوصاً حربَي العراق وأفغانستان مطلع القرن. لكن القسم الثالث من الكتاب ينحو بعيداً عن الموضوع في استطراد يحرمنا من الاستماع للخلاصات النهائية للكاتب. الفصل الثالث من القسم الثالث (وهو آخر فصل في الكتاب) يستغرق وحده أكثر من 50 صفحة (نحو رُبع الكتاب) يبسط لنا فيها الباحث ظواهر ثقافية تخلقها الإمبراطورية من قبيل «خطاب النهايات»؛ نهاية التاريخ، ونهاية المثقف، ونهاية الفلسفة... إلخ، ودور كل ذلك في «بسط الهيمنة الإمبراطورية على العالم»، ثم لا يلبث أن يتحول موضوع الحديث إلى الشرق والغرب، والمجتمع المدني، والدولة العربية الحديثة، و«الإقليم السوري»، وربيع دمشق، وصولاً إلى اختتام الكتاب بالدعوة إلى «مأدبة سوريّة، يحايثها الحوار والصداقة، ويجتمع حولها الجميع كي يكونوا قادرين على التفكير بشكل مختلف»، ص 186. وهكذا يشعر القارئ بأنه تلقى دفعةً من الخلف طردته خارج الكتاب، أو يخال أن الكتاب نفسه انشطر فجأة ولم تعد خاتمته موجودة.

ولكن كما قلت في البداية، هناك فوائد كثيرة من القراءة الثانية لكتابٍ مهم، حتى وإن كان الزمن قد فات على بعض أطروحاته، وأهم تلك الفوائد اتخاذ الكتاب المعنيّ مقياساً لمدى تبدّل الأحوال، وسرعة التغيير الذي يحصل أمام أعيننا دون أن نعيه أحياناً. ويمكن اعتبار كتاب «الإمبراطورية الجديدة» لكوش مثالاً جيداً على ذلك النوع من الكتب، فهو يحدثنا عن «الإمبراطورية الأميركية» في وقتٍ لم يعد حتى عقلنا الباطن يتقبل هذه الفكرة. إذ سرعان ما سنستحضر في أذهاننا مشاهد الانسحاب «الإمبراطوري» المخزي من أفغانستان، وهجمات الميليشيات العراقية على القواعد الأميركية في العراق وسوريا والأردن.

كما ستحضر على الصعيد الدولي قصة صعود الصين، ونمو تكنولوجيا السلاح الروسي بما بات يشكّل تهديداً للأمن القومي الأميركي باعتراف الكونغرس نفسه. ويوماً عن يوم يزيد عدد الدول التي باتت لا تقيم وزناً للهيبة الأميركية، من إيران إلى جنوب أفريقيا، ووصولاً للبرازيل. فالعالم يتغير وموازين القوى تتبدل. بل حتى من داخل «الإمبراطورية» ستقفز أمام أعيننا محاكمات رئيسها السابق ترمب بتهم الاغتصاب والاحتيال الضريبي، والاستقطاب الحاد بين الجمهوريين والديمقراطيين، مع حالة اختناق واضحة يجسّدها غياب الطريق الثالث بالنسبة للمواطن الأميركي. إنها إمبراطورية تكاد تأكل نفسها.

* كاتب سوري


مقالات ذات صلة

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
كتب كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق «جدة تقرأ» عنوان معرض الكتاب 2024 (المركز الإعلامي)

الكتاب الورقي ينتصر على الأجهزة الرقمية في معرض جدة

في ظل التطور التقني والاعتماد المتزايد على الكتب الإلكترونية، حسم زوار معرض جدة للكتاب 2024 الجدل لصالح الكتاب الورقي

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق دور النشر شهدت إقبالاً كبيراً من الزوار من مختلف الأعمار (هيئة الأدب والنشر والترجمة)

«جدة للكتاب»... مزيج غني بالمعرفة والإبداع بأحدث الإصدارات الأدبية

يعايش الزائر لـ«معرض جدة للكتاب 2024» مزيجاً غنياً من المعرفة والإبداع يستكشف عبره أحدث الإصدارات الأدبية، ويشهد العديد من الندوات وورش العمل والجلسات الحوارية.

إبراهيم القرشي (جدة)

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية
TT

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام، ولفت الانتباه؛ لأن رواية المانجا «أنستان» أو «الغريزة» لصاحبها المؤثر أنس بن عزوز، الملقب بـ«إنوكس تاغ» باعت أكثر من 82 ألف نسخة خلال 4 أيام. وهو إنجاز كبير؛ لأن القصّة الموجهة إلى جمهور من القرّاء الشباب قد خطفت المرتبة الأولى في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً من «الحوريات»، الرواية الفائزة بجائزة «الغونكور» لهذه السنة.

ولمن يستغرب هذا الرواج أو اهتمام دور النشر بالكُتاب المبتدئين من صنّاع المحتوى، فإن الظاهرة ليست بالجديدة؛ حيث إن كثيراً من المكتبات والمواقع أصبحت تخصّص رفوفاً كاملة لهذه النوعية من الكتب، كسلسلة «#فولوي مي» التابعة لدار «أشيت»، والتي تضم أعمالاً للمؤثرين تتوزع بين السّير الذاتية والقصص المصوّرة والتنمية البشرية والأسفار، وحتى الطبخ.

في فرنسا، أول تجربة من هذا القبيل كانت عام 2015، بكتاب «إنجوي ماري»، وهو السيرة الذاتية للمؤثرة ماري لوبيز المعروفة بـ«إنجوي فنيكس» (6 ملايين متابع على إنستغرام). وإن كان البعض لا يستوعب أن تكتب فتاة في سن العشرين سيرتها الذاتية، فقد يستغرب أيضاً النجاح التجاري الكبير الذي حصل عليه هذا الكتاب؛ حيث باع أكثر من 250 ألف نسخة، رغم الهجوم الشديد على الأسلوب الكتابي الرديء، حتى لقَّبتها مجلة «لي زنكوريبتبل» الثقافية متهكمة بـ«غوستاف فلوبير الجديد». شدّة النقد لم تمنع زملاءها في المهنة من خوض التجربة نفسها بنجاح؛ المؤثرة ناتو (5 ملايين متابع على يوتيوب) نشرت مع مؤسسة «روبرت لافون» العريقة رواية «أيقونة»، قدمت فيها صورة ساخرة عن عالم المجلات النسوية، وباعت أكثر من 225 ألف نسخة. وتُعدُّ دار نشر «روبرت لافون» بالذات الأكثر تعاوناً مع صناع المحتوى؛ حيث نشرت لكثير منهم.

في هذا السياق، الأكثر نجاحاً حتى اليوم كان كتاب التنمية البشرية «الأكثر دائماً+» لصاحبته لينا محفوف، الملقبة بـ«لينا ستواسيون» (5 ملايين متابع على إنستغرام) وباع أكثر من 400 ألف نسخة.

مجلة «لي زيكو» الفرنسية، تحدثت في موضوع بعنوان «صناع المحتوى؛ الدجاجة التي تبيض ذهباً لدور نشر» عن ظاهرة «عالمية» من خلال تطرقها للتجارب الناجحة لمؤثرين من أوروبا وأميركا، حملوا محتواهم إلى قطاع النشر، فكُلّلت أعمالهم بالنجاح في معظم الحالات. المجلة استشهدت بالتجربة الأولى التي فتحت الطريق في بريطانيا، وكانت بين دار نشر «بانغوين بوكس» والمؤثرة زوي سوغ (9 ملايين متابع على إنستغرام) والتي أثمرت عن روايتها الناجحة «فتاة على الإنترنت» أو «غور أون لاين»؛ حيث شهدت أقوى انطلاقة في المكتبات البريطانية بـ80 ألف نسخة في ظرف أسبوع، متفوقة على سلسلة «هاري بوتر» و«دافنشي كود».

المجلة نقلت بهذه المناسبة حكاية طريفة، مفادها أن توم ويلدون، مدير دار النشر، كان قد تعاقد مع المؤثرة بنصيحة من ابنته البالغة من العمر 12 سنة، والتي كانت متابعة وفيّة لها.

ومما لا شك فيه هو أن اهتمام دور النشر بأعمال المؤثرين يبقى مدفوعاً بالأرباح المادية المتوقعة، وهو ما أكده موضوع بمجلة «لوبوان» بعنوان «المؤثرون آلة لصنع النجاحات التجارية في قطاع النشر». كشف الموضوع عن أن تحويل المحتوى السمعي البصري لصناع المحتوى إلى الكتابي، أصبح بمثابة الورقة الرابحة للناشرين، أولاً لأنه يوفر عليهم عناء الترويج الذي تتكفل به مجتمعات المشتركين والمتابعين، وكل وسائل التواصل التابعة للمؤثرين، والتي تقوم بالعمل بدل الناشر، وهو ما قد يقلّل من خطر الفشل؛ بل قد يضمن الرواج الشعبي للعمل. ثم إنها الورقة التي قد تسمح لهم في الوقت نفسه بالوصول إلى فئات عمرية لم تكن في متناولهم من قبل: فجمهور المراهقين -كما يشرح ستيفان كارير، مدير دار نشر «آن كاريير» في مجلة «ليفر إيبدو»: «لم يكن يوماً أقرب إلى القراءة مما هو عليه اليوم. لقد نشرنا في السابق سِيَراً ذاتية لشخصيات من كل الفضاءات، الفرق هذه المرة هو أن المؤثرين صنعوا شهرتهم بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، ولهم جمهور جاهز ونشيط، وإذا كانت هذه الشخصيات سبباً في تقريب الشباب إلى القراءة، فلمَ لا نشجعهم؟».

شريبر: الكتاب بعيد كل البعد عن مستوى «الغونكور» وبأن كاتبته لم تقرأ في حياتها كتاباً باستثناء الكتاب الذي كتبته

هذه المعطيات الجديدة جعلت الأوضاع تنقلب رأس على عقب، فبينما يسعى الكتاب المبتدئون إلى طرق كل الأبواب أملاً في العثور على ناشر، تأتي دور نشر بنفسها إلى صناع المحتوى، باسطة أمامهم السّجاد الأحمر.

وإن كان اهتمام دور النشر بصنّاع المحتوى لاعتبارات مادية مفهوماً -بما أنها مؤسسات يجب أن تضمن استمراريتها في قطاع النشر- فإن مسألة المصداقية الأدبية تبقى مطروحة بشدّة.

بيار سوفران شريبر، مدير مؤسسة «ليامون» التي أصدرت مذكرات المؤثرة الفرنسية جسيكا تيفنو (6 ملايين متابع على إنستغرام) بجزأيها الأول والثاني، رفض الإفصاح عن كم مبيعات الكتاب، مكتفياً بوصفه بالكبير والكبير جداً؛ لكنه اعترف في الوقت نفسه بلهجة ساخرة بأن الكتاب بعيد كل البعد عن مستوى «الغونكور» وبأن كاتبته لم تقرأ في حياتها كتاباً باستثناء الكتاب الذي كتبته؛ لكنها لم تدَّعِ يوماً أنها تكتب بأسلوب راقٍ، وكل ما كانت تريده هو نقل تجاربها الشخصية إلى الجمهور ليأخذ منها العبَر.

الناقد الأدبي والصحافي فريديك بيغ بيدر، كان أكثر قسوة في انتقاده لكتاب المؤثرة لينا ستواسيون، في عمود بصحيفة «الفيغارو» تحت عنوان: «السيرة الذاتية لمجهولة معروفة»؛ حيث وصف العمل بـ«المقرف» و«الديماغوجية»، مضيفاً: «بين الأنا والفراغ اختارت لينا ستواسيون الخيار الثاني». كما وصف الكاتبة الشابة بـ«بالجاهلة التي تعترف بجهلها»، منهياً العمود بالعبارة التالية: «147 صفحة ليس فيها سوى الفراغ، خسرتُ 19 يورو في لا شيء».

أما الناشر بيار سوفران شريبر، فقد قال في مداخلة لصحيفة «لوبوان»: «اتهمونا بنشر ثقافة الرداءة؛ لكن هذه النوعية من الكتب هي هنا لتلتقي بقرائها. إنهما عالمان بعيدان استطعنا تقريبهما بشيء سحري اسمه الكتاب. فلا داعي للازدراء».