دعونا ننقذ عشاق الكتب من هذا الجحيم الإلكتروني

كلما وقعت أزمة بعالم النشر نجد موقع «غودريدز» المملوك لشركة «أمازون» هو جوهر المشكلة

دعونا ننقذ عشاق الكتب من هذا الجحيم الإلكتروني
TT

دعونا ننقذ عشاق الكتب من هذا الجحيم الإلكتروني

دعونا ننقذ عشاق الكتب من هذا الجحيم الإلكتروني

إذا كنت تابعت أحدث الفضائح المتعلقة بعالم النشر، تحديداً المؤلفين الشباب، فلا بد أنك عرفت أنها ترتبط بمؤلفة مبتدئة يدور حولها كثير من الضجة، والأكاذيب، والأعذار الخرقاء، و«المراجعات الناسفة»، واعتراف طويل مخيف - وبالطبع، موقع «غودريدز(جود ريدز)». في الواقع، كلما وقعت أزمة بعالم النشر نجد «غودريدز»، الموقع المملوك لشركة «أمازون»، والذي يصف نفسه بأنه «أكبر موقع للقراء وتوصيات الكتب»، بقلب هذه الأزمة.

ويثير هذا الأمر تساؤلات حول ما إذا كان موقع «غودريدز» ليس مجرد عامل مساعد على صنع الفضائح، وإنما لب المشكلة. ودعونا نتناول تفاصيل الفضيحة الأخيرة أولاً؛ فقد اكتشف محققو الإنترنت مؤلفة تدعى كايت كورين، كان من المقرر أن تنشر روايتها الأولى عام 2024، وأنشأت حسابات مزيفة على «غودريدز» من أجل طرح مراجعات سلبية للإضرار بكتب أخرى، وذلك من خلال نشر مراجعات سلبية لهذه الكتب لا تتجاوز في تقييمها للكتب نجمة واحدة فقط.

ولدى مواجهتها عبر الإنترنت، أقدمت كايت كورين على تلفيق محادثة مزيفة عبر الإنترنت لتحويل دفة اللوم باتجاه صديق وهمي لا وجود له. وعندما انكشفت هذه الخدعة، اعترفت كورين أخيراً بما اقترفته، مبررة ذلك بمعاناتها من «انهيار نفسي كامل». وجراء ذلك، تخلى عنها ناشرها ووكيلها، وجرى إلغاء النشر المخطط لروايتها.

وكما يحدث غالباً في هذه الفضائح، فإن استخدام وإساءة استخدام موقع «غودريدز» - موقع يخفي اسمه المبهج تاريخاً حديثاً من الاستغلال البغيض من جانب المستخدمين - ما تسبب في الإضرار بالكثيرين، وتدمير مسيرة شخص واحد على الأقل.

الواضح أن «غودريدز» سقط اليوم وأصبح معطلاً، فما بدأ عام 2007 بوصفه أداة واعدة للقراء والمؤلفين وبائعي الكتب والناشرين، تحوّل اليوم إلى مستنقع غير جدير بالثقة، وخارج نطاق السيطرة، بل أصبح من المتعذر تقريباً التنقل بأرجائه بسبب حجم البيانات غير الموثوقة والنوايا السيئة. وبطبيعة الحال، هناك وفرة كبيرة في البيانات السيئة وكذلك النوايا على الإنترنت. إلا أنه في بدايته، وعد «غودريدز» بتقديم تجربة مختلفة تماماً: مساحة للتجمع يمكن للقراء المتحمسين خلالها التواصل مع الكتاب ومع بعضهم البعض، وتبادل الانطباعات ومشاركة التوصيات. إنها فكرة واضحة وضرورية (القراءة نشاط فردي، لكن هناك متعة كبيرة في التحدث من خلال كتاب بعد ذلك). في الواقع، لا يزال موقع «غودريدز» فكرة جيدة تستحق القتال من أجل إصلاحها.

عندما انضممت إلى الموقع عام 2007، راودني شعور بأنني وجدت أخيراً مكاني على الإنترنت. في ذلك الوقت، كنت ما أزال استخدم دفتراً فعلياً للاحتفاظ بقائمة الكتب التي قرأتها أو أردت قراءتها. لذلك كان اكتشاف مكان لتتبع الكتب وتقييمها ومراجعتها أمراً رائعاً. بعد استحواذ «أمازون» على الموقع عام 2013، بدا أن «غودريدز» مهيأً إما للهبوط وإما الصعود. ومع أن «أمازون» لم تحظ سوى بعدد قليل من المعجبين داخل عالم الكتب، بسبب ممارساتها التجارية الشرسة، فإنها تمثل في الوقت ذاته السوق الأولى للكتب على الإنترنت. وبالتالي، فإن الموقع التابع لها المخصص لمناقشة الكتب بدا عنصراً مكملاً بوضوح، وربما مفيداً.

ورغم ذلك، سرعان ما سقط الموقع في حالة من التيه، فلا هو بائع تجزئة ولا صالون جذاب عبر الإنترنت. وعلى الرغم من هذا الأمر، فقد تحول إلى موقع مناقشة الكتب الأكثر شعبية، حتى الآن، مع وصول عدد أعضائه إلى 125 مليون عضو بحلول أواخر عام 2022. ومع انحسار تغطية الكتب ونقدها في مجالات أخرى من وسائل الإعلام الشعبية، اتخذ «غودريدز» على صعيد الواقع الافتراضي حجماً أكبر من حجمه بعالم الكتب. إلا أنه في الوقت ذاته، تحول كذلك إلى مكان يجري فيه الانغماس في أسوأ غرائز المستخدمين أو حتى تشجيعها، سواء أكان الأمر يتعلق بالممارسة المتفشية المتمثلة في طرح مراجعات سلبية مدمرة للكتب التي يجري إدراجها على الإنترنت قبل وقت طويل من نشرها (غالباً ما يجري استهداف روايات الشباب، والتي جرى سحب بعضها في نهاية المطاف من النشر)، أو بوجود العناصر التي تتعمد ممارسة مضايقات عبر الإنترنت، تطارد المؤلفين.

وبذلك، أصبحت الثقافة السائدة عبر «غودريدز» اليوم على النقيض من الروح التي بدأ بها الموقع. جدير بالذكر أن مذكراتي التي لم تنشر بعد حصلت بالفعل على تقييم اثنين فقط عبر «غودريدز»، لكنها لن تتاح للقراء قبل العام المقبل. ولذلك، أصبح من الروتيني أن يحذر الناشرون المؤلفين والكتاب من أن «غودريدز» موقع موجه إلى القراء، وليس الكتاب، وهذا يعني أن ما كان من المفترض أن يشكل منتدى للمشاركة تحول اليوم إلى مكان يدخله المؤلفون على مسؤوليتهم الخاصة.

في ظل عالم مثالي - عالم لا توجد فيه شركة «أمازون» - كان من المفترض أن يعمل «غودريدز» مثل موقع «ليتربوكسد»، والذي يشكل شبكة اجتماعية لعشاق الأفلام.

ويذكر أن «ليتربوكسد» أطلق على نفسه «غودريدز فور موفيز»، لكنه اليوم تجاوز هذا الشعار الأولي بكثير بعد أن اكتشف كيفية إنشاء تجربة استخدامية سلسة وبديهية، ونجح في توفير تجمع ممتع وجذاب، وكسب الإيرادات من كل المشاركات الاختيارية المدفوعة وكذلك من جانب المعلنين، بما في ذلك الاستوديوهات التي تنتج الأفلام التي تجري مناقشتها. وفي الوقت نفسه، لا يزال الناشرون يعتمدون على «غودريدز» للوصول إلى القراء المحتملين، وإن كانت الإعلانات المستهدفة أصبحت أقل فاعلية.

والآن، كيف يمكن إصلاح الأمر؟ يجب أن يبدأ الحل بالناس، بمعنى أن موقع «غودريدز» بحاجة ماسة إلى مزيد من جهود الإدارة البشرية لمراقبة ما يدور فيه. ومن الواضح أن جزءاً من أي مناقشة صحية يكمن في القدرة على التعبير عن الاستياء - تلك المراجعات ذات النجمة الواحدة، المصحوبة بشكل مثالي بحجج منطقية، تتسم بأهمية كبرى - لكن المشكلة أن «غودريدز» حوّل التعبير عن الاستياء إلى سلاح.

بدأ «غودريدز» عام 2007 بوصفه أداة واعدة للقراء والمؤلفين وبائعي الكتب والناشرين لكنه تحول اليوم إلى مستنقع غير جدير بالثقة بعد استحواذ أمازون عليه

اللافت أن الهجوم المدمر لا يقتصر الأمر فيه على المؤلفين الناشئين، ففي هذا العام، قررت إليزابيث غيلبرت، مؤلفة رواية «طعام، صلاة، حب» التي كانت من بين الأكثر مبيعاً، سحب روايتها الجديدة «ذي سنو فورست»، بعد أن قصف مستخدمو «غودريدز» صفحتها بمراجعات من فئة نجمة واحدة، لاعتراضهم في المقام الأول على حقيقة أن أحداث الرواية (التي لم يقرأها أحد بعد) تدور في روسيا، وسيجري نشرها في وقت تكون فيه روسيا وأوكرانيا في حالة حرب. ويشير الاحتمال الأكبر إلى أنه ما من سبيل للقضاء على الهجمات الشخصية بالكامل من الموقع. ومع ذلك، فإن وجود المزيد من الأشخاص في متناول اليد للتخفيف من الضرر من شأنه بالتأكيد تحسين التجربة عبر الموقع.

في الواقع، تعزيز حواجز الحماية لن يكون شديد الصعوبة، خاصة أن الموقع يعتمد في الوقت الحاضر على أمناء مكتبات متطوعين يتولون إضافة كتب جديدة إلى قاعدة بيانات الموقع في أوقات فراغهم. ومن شأن توظيف هؤلاء الأشخاص (والعشرات من أمثالهم) ودفع أجور لهم، أن يمكّن ممثلي «غودريدز» من التواصل مع الناشرين، الكبار والصغار، لتسهيل نشر الكتب عبر الموقع فقط عندما تنجز بالفعل مهمة تأليف الكتاب وتحريره، ويصبح جاهزاً لمشاركته مع الآخرين.

وبالنظر إلى جميع المشكلات التي يواجهها موقع «غودريدز»، فقد يبدو من السهل انجذاب الكتاب والقراء إلى منتدى آخر. وبالفعل، ظهرت مواقع مثل «ذي ستوري غراف» و«إيتاليك تايب» باعتبارها بدائل واعدة، لكنها لا تزال بعيدة عن الوصول إلى كتلة معتبرة من جمهور الكتب عبر الإنترنت.

وباعتباري ناقدة للكتب ومحترفة في مجال النشر، فقد قضيت معظم حياتي المهنية في محاولة تشجيع النقاشات المثيرة حول الفنون الأدبية في أي مكان أصل إليه، رقمياً أو فعلياً. ربما لهذا السبب ما زلت ملتزمة بفكرة أن «غودريدز»، أو أي موقع آخر مثله، يجب أن يكون موجوداً. ومع تدهور فائدة المنصات الاجتماعية الأخرى، فإن هذه المنصة تستحق محاولة إنقاذها.

* ناقدة ومضيفة بودكاست «ذي ماريس ريفيو»

- خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

كتب بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة

ندى حطيط
كتب «أبريل الساحر»... نساء إنجليزيات يهربن من الواقع لـ«تحقيق الروح»

«أبريل الساحر»... نساء إنجليزيات يهربن من الواقع لـ«تحقيق الروح»

عن دار «الكرمة» بالقاهرة، صدرت رواية «أبريل الساحر» للكاتبة البريطانية إليزابيث فون أرنيم، التي وُصفت من جانب كبريات الصحف العالمية بأنها نص مخادع وذكي وكوميدي

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم

أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

أراقب باهتمام كبير عالمنا المتغير هذا. لعلك أنت أيضاً تفعل ذلك. تتمعن فيه وهو يعيد تشكيل ذاته مثل وحش أسطوري، في زمن إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ

د. ربيعة جلطي (الجزائر)
ثقافة وفنون قراءات في قصص وروايات لكتاب عرب

قراءات في قصص وروايات لكتاب عرب

عن دار «طيوف» بالقاهرة صدر كتاب «مرايا الفضاء السردي» للناقدة المصرية دكتورة ناهد الطحان، ويتضمن دراسات ومقالات نقدية تبحث في تجليات السرد العربي المعاصر

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق الكاتب السعودي فيصل عباس مع السفير البريطاني نيل كرومبتون خلال الأمسية الثقافية

أمسية ثقافية بمنزل السفير البريطاني في الرياض للاحتفال بإطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني»

أقام السفير البريطاني في الرياض أمسية ثقافية في منزله بالحي الدبلوماسي للاحتفال بإطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني» للكاتب السعودي ورئيس تحرير صحيفة «عرب نيوز».

«الشرق الأوسط» (الرياض)

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو
TT

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

في روايتها «عشبة ومطر» دار «العين» للنشر بالقاهرة - تختار الكاتبة الإماراتية وداد خليفة الثقافة العربية سؤالاً مركزياً حائراً بين واقع مشوّش ومستقبل مجهول، حيث تبدو اللغة والتاريخ وكأنهما ينازعان أنفاسهما الأخيرة للصمود داخل قِلاعها العربية نفسها.

وتعتمد الروائية على تقنية الأصوات المتعددة لتعميق صراعات أبطالها مع عالمهم الخارجي، حيث تتشارك كل من بطلة الرواية «عشبة» وابنها «مطر» في نزعة تراثية جمالية يتفاعلان من خلالها مع دوائرهما التي يبدو أنها تتنصّل من تلك النزعة في مقابل الانسحاق في مدّ «الثقافة العالمية» المُعلبّة، ولغة التواصل «الرقمية»، فتبدو بطلة الرواية التي تنتمي إلى دولة الإمارات وكأنها تُنازِع منذ أول مشاهد الرواية من أجل التواصل مع محيطها الأسري بأجياله المتعاقبة، حيث تُقاوم النزعة «السائدة» في ذلك المجتمع العربي الذي بات أفراده يتحدثون الإنجليزية داخل بيوتهم، ولا سيما أجيال الأحفاد وسط «لوثة من التعالي»، «فهؤلاء الأبناء لا يعرفون من العربية سوى أسمائهم التي يلفظونها بشكل ركيك»، في حين تبدو محاولات «عشبة» استدراك تلك التحوّلات التي طرأت على المجتمع الإماراتي أقرب لمحاربة طواحين الهواء، فتأتيها الردود من محيطها العائلي مُثبِطة؛ على شاكلة: «لا تكبّري المواضيع!».

صناديق مفتوحة

يتسلل هذا الصوت النقدي عبر شِعاب الرواية، فتبدو «عشبة» مهمومة بتوثيق العلاقة مع الماضي بذاكرته الجمعية التي تتقاطع مع سيرتها الشخصية منذ تخرجها في معهد المعلمات بإمارة الشارقة وحتى تقاعدها، لتعيد تذكّر تفاعل جيلها مع كبريات التغيّرات السياسية سواء المحلية، وعلى رأسها المخاض الطويل لاتحاد الإمارات العربية المتحدة، وحتى سياقات الحروب والنكبات العربية منذ حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وصولاً لمجازر «صبرا وشاتيلا» الدامية في لبنان 1982 والنزف الفلسطيني المُستمر، في محطات تجترها البطلة بعودتها إلى قصاصات الأخبار التي ظلّت تجمعها وتحتفظ بها من مجلات وصحف عربية لتؤرشفها وتُراكمها عبر السنوات داخل صناديق، ليصبح فعل تقليبها في هذا الأرشيف بمثابة مواجهة شاقّة مع الماضي، بينما تبدو الصناديق والقصاصات الورقية مُعادلاً للحفظ الإلكتروني والملفات الرقمية التي قد تتفوق في آلياتها وبياناتها، وإن كانت تفتقر إلى حميمية الذكرى، وملمس المُتعلقات الشخصية التي تنكأ لديها جراح الفقد مع كل صندوق تقوم بفتحه: «أعدت غطاء الصندوق الذي يحتاج مني إلى جرأة أكبر لنبشه، ففي الصندوق ثوب فلسطيني طرَّزته أمٌ ثكلى من بئر السبع... أم صديقتي سميرة أخت الشهيد، ودفتر قصائد نازقة دوّنته صديقتي مها من غزة... صورٌ لزميلاتي بالعمل من جنين ونابلس ورام الله... رسائل من صديقتي ابتسام المقدسية... ومن حيفا مفارش مطرزة من صديقة العائلة أم رمزي».

بالتوازي مع تنقّل السرد من حكايات صندوق إلى آخر، يتصاعد الصراع الدرامي لبطل الرواية «مطر» الخبير في تقييم التُحف، الذي يقوده شغفه بمجال «الأنتيك» والآثار القديمة لتتبع مساراتها في مزادات أوروبية تقترب به من عالم عصابات مافيا القطع الأثرية، كما تقوده إلى الاقتراب من حكايات أصحاب القطع الأثرية التي تُباع بالملايين في صالات الأثرياء، كحكاية «مرآة دمشقية» ظلّ صاحبها يتتبعها حتى وصلت لقاعة مزادات «كريستيز» حاملاً معه ذكرى حكاية جدته وأسرته وتشريدهم، وتصنيعهم تلك المرآة بأُبهتها الزخرفية والفنية في غضون ظروف تاريخية استثنائية خلال فترة سيطرة الحكم العثماني في دمشق.

نهب ممنهج

تبدو الرواية التي تقع في 350 صفحة، وكأنها تمنح حضوراً سردياً للقطع الأثرية المفقودة، والمنهوبة، بصفتها شواهد تاريخية تتعقب «تُجار الممتلكات الثقافية»، ودور المزادات، وأمناء المتاحف، وسط متاهات تزوير الوثائق الخاصة بالقِطع وشهادات المنشأ، وتهريب القطع من بلادها، ولا سيما بعد الربيع العربي والحروب الأهلية التي أعقبته، لتفتح ساحات السرقة الممنهجة للآثار في المواقع الأثرية العربية، كما في تونس ومصر وسوريا والعراق، في حين تبدو قصص القطع المفقودة أُحجيات تتبعها الرواية وتحيكها بخيوط نوستالجية تمدّها الكاتبة على امتداد السرد.

تعتني لغة الرواية بالوصف الدقيق للتفاصيل الجمالية التي تبدو في صراع متواتر مع تيار محو أعنف، كقطع السجاد الأصيل وأنواله التقليدية، والزخارف الغرناطية العتيقة على الأسطح، في مقابل ثقافة «الماركات» الاستهلاكية التي تُميّع الذوق العام، والحروف اللاتينية التي تُناظر الحروف العربية وتُغيّبها في لغة الحياة اليومية.

وقد حازت رواية «عشبة ومطر» أخيراً جائزة «العويس للإبداع»، ومن أجواء الرواية نقرأ:

«كنتُ قصيراً، أقفز كي تلمس أطراف أصابعي مطرقة الباب، وبعد أن كبرت قليلاً، وأصبحت أمسكها بيدي، استوقفني شكلها الذي صُنع على هيئة يد بشرية، ثم أدركت أن هناك مطرقتين فوق بعضهما، تعجبت، وسألت أمي عن السبب فقالت: (كانت لدروازتنا مطرقة واحدة، لكن والدك أبهرته فنون بغداد، فجلب منها مطرقتين، مثبتاً المطرقة الأكبر في الأعلى للرجال والمطرقة الأصغر أسفل منها للنساء، ليختصر بذلك السؤال عن هُوية الطارق، فكنا نُميّز الطارق رجلاً أم امرأة من صوت المطرقة)... بِتُ أنصت للطَرق، كنت أعرف طرقات أمي الثلاث، وتعرف أمي طرقاتي المتسارعة، كان هناك طَرقٌ مُبشر، وطرقٌ يخلع القلب، طرق هامس مُدلل، وطرق يُشبه كركرة الأطفال».