تحوّل مفاجئ في مسار التاريخ نحو الانحدار

حالة الغرب اليوم تذكر بسقوط روما عام 399

دمار روما عام 399
دمار روما عام 399
TT

تحوّل مفاجئ في مسار التاريخ نحو الانحدار

دمار روما عام 399
دمار روما عام 399

على مدى القرنين الأخيرين، نهض الغرب ليهيمن على الكوكب؛ إذ أصبح ينتج نحو ثمانين في المائة من مجمل الإنتاج العالمي، وارتفعت مداخيل مواطنيه بنحو خمسين ضعفاً بالمقارنة بمواطني بقيّة العالم. هذه السيطرة الاقتصاديّة أنتجت بالضرورة سيطرة سياسيّة وثقافيّة ولغويّة واجتماعيّة سمحت للغرب بتشكيل العالم على هواه، فانتشر مفهوم الدّولة القوميّة وأصبح الشكل السائد للأنظمة السياسيّة المنخرطة في النظام العالميّ، وأصبحت اللغة الإنجليزيّة لغة الأعمال والثقافة والعلوم والدبلوماسيّة، وأودعت الغالبيّة الساحقة من الدول فوائضها في البنوك الغربيّة، فيما تربعت الأكاديميا الغربيّة على عرش المعرفة، وأصبحت أفلام «هوليوود» وكرة القدم الإنجليزيّة تسلية عابرة للحدود، وتسربت الثقة إلى مثقفيه حتى زعموا أن العالم يشهد نهاية التاريخ، بحيث لن يكون بمقدور أي طرف على الإطلاق أن يغيّر من هيمنة الشكل السياسي الليبراليّ الذي ابتدعه الغرب.

لكن؛ ومع مطلع الألفيّة الثالثة، بدا أن ثمّة تحوّلاً مفاجئاً في مسار التاريخ نحو الانحدار... كانت البداية من الأزمة الماليّة العالميّة عام 2008 التي تسببت في حالة من الركود في معظم اقتصادات دول الغرب؛ ما لبثت أن تحولت، بسبب طبيعة استجابة الحكومات، إلى حالة من المراوحة الاقتصاديّة التي أدت إلى تراجع مساهمتها في الإنتاج العالميّ من ثمانين في المائة إلى ستين في المائة.

فشل النّخب الليبراليّة الأوروبية الحاكمة في إدارة الأزمة أدّى إلى حالة من الجمود الاقتصادي، تسببت في تراجع مستويات الأجور الحقيقيّة، وانتشار البطالة، وتفاقم الديّون العامة والخاصة، فنشأت استقطابات مجتمعيّة حادة، وفقدان غير مسبوق للثقة بالمؤسسات الليبراليّة ووسائل إعلامها، في وقت بدأت فيه الصين – ذات النّظام المغاير - تثبيت موقعها لاعباً أساسياً على مسرح الاقتصاد والسياسة العالميين.

لم تك تلك أولى المرّات التي يجد فيها الغرب نفسه في حال من الانحدار في مواجهة صعود قوى أخرى؛ إذ اتبعت الإمبراطوريّة الرّومانية قوساً مماثلاً من الصعود الدراماتيكيّ بداية من القرن الثاني قبل الميلاد؛ إلى الاستواء على عرش الهيمنة لنحو ستمائة عام، قبل انقلاب الأزمنة نحو السقوط في منتصف الألفيّة الأولى.

لقد حاول المؤرخون الغربيّون المعاصرون الاستعانة بحكاية صعود وسقوط إمبراطوريّة روما لاستخلاص العبر منها واستدعاء التفسيرات التي قد تعيننا في فهم توجه التاريخ إلى تكرار ذاته، ومرجعهم في ذلك دوماً النصّ الكلاسيكي ذائع الصيت لشيخ المؤرخين الغربيين؛ إدوارد جيبون (1737 - 1794): «انحطاط وسقوط الإمبراطوريّة الرومانيّة» – (6 مجلدات صدرت بين 1776 و1788)، والذي يزعم فيه أن روما عانت من تهتك داخليّ بطيء بعدما توقفت عن قهر البرابرة – على مختلف أنواعهم: مسيحيون وقوط وفاندال... وغيرهم – مما سمح لهؤلاء بقضم أطراف الإمبراطوريّة حتى انتهوا إلى قلبها. وجهة نظر جيبون، التي أصبحت مثل لازمة لتفكير أجيال من المؤرخين الغربيين من بعده، تذهب في ذلك إلى الادعاء بأن سقوط روما تُسأل عنه روما، وأنّ أولى إمبراطوريات الغرب العظيمة، التي امتدت أراضيها من صحراء العراق الحديث إلى جدار هادريان شمال بريطانيا، كانت بشكل أو آخر صانعة مصيرها؛ الأمر الذي ينتهي في تقولات المؤرخين المعاصرين إلى الاستنتاج أن الغرب اليوم يسلك المسار ذاته، وأن تهاونه في التعامل مع المهاجرين من دول العالمين الثاني والثالث سيقود في وقت منظور إلى تلف الهيمنة الغربيّة من الدّاخل.

بيتر هيذر؛ أستاذ تاريخ العصر الوسيط في «كينغز كوليدج (لندن)»، وجون رابلي؛ أستاذ الاقتصاد السياسي بجامعة كامبريدج، في كتابهما الوجيز: «لِمَ تسقط الإمبراطوريّات: روما، وأميركا، ومستقبل الغرب – 2023»* يطيحان أفكار جيبون ومن تبعه بإحسان، ويزعمان فساد المقاربة التي اتبعوها طوال عقود، ويطرحان، بالاستفادة من أحدث المكتشفات الأثريّة، منهجيّة مغايرة للاستفادة من معرفتنا بالتاريخ الرومانيّ الكلاسيكيّ في تقييم حالة الغرب المعاصر؛ وفي مركزه دائماً الولايات المتحدة؛ دولة العالم العظمى.

يقول المؤلفان إن التقدّم الهائل في دراسة اللقى الأثرية التي يعثر عليها في مناطق نفوذ الإمبراطوريّة من شمال سوريا إلى سهل الراين، سمح لنا بإعادة النظر في استنتاج جيبون حول حدوث تفسّخ داخليّ تدريجي أدى لسقوط روما في عام 399 ميلاديّة؛ إذ إن طبيعة المنتج الماديّ في مختلف أنحاء الامبراطوريّة بتلك اللحظة، سواء في صناعة الفخار، والأسلحة، والمعمار... تظهر بما لا يدع مجالاً للشك أن النخب الرومانية، أو الملتحقة بها، كانت تعيش في مرحلة لا يمكن وصفها بأي حال بالتردي والانحطاط، وأن سقوطها كانت نتيجة عوامل خارجيّة أساساً؛ منها ما يتعلّق بشعوب الدائرة الثانية المجاورة مباشرة لأراضي الإمبراطوريّة والتي استفادت جدليّاً من هذا الجوار لتبني تحالفات قادرة على البقاء بوصفها منظومات سياسية فاعلة، ومنها ما يتعلّق بتحولات ديموغرافيّة ومناخيّة في مناطق شعوب الدائرة الثالثة، ضغطت بشكل أو آخر باتجاه دفع شعوب الدائرة الثانية إلى تحدي المركز الروماني، في وقت كان فيه جزء كبير من الطاقة القتاليّة لجيش روما قد استُنفد في الحروب مع الامبراطوريّة الفارسيّة في الشرق.

التخصص المعرفيّ المتكامل بين المؤلفين هيذر ورابلي، بين التاريخ والاقتصاد السياسيّ، سمح لهما بطرح نظريّة متماسكة تستكشف أوجه التشابه والاختلاف بين حالة الغرب في عام 399 وحالته في عام 1999. وهما يجادلان بأن الامبراطوريات لا تتهتك من الدّاخل بالضرورة، وإنما تزرع، بحكم دورة حياتها، بذور تدميرها، الذي إن لم تحسن النخب قراءة إرهاصاته الكثيرة، انتهوا بامبراطوريتهم إلى التّلف والزّوال.

يقسم المؤلفان كتابهما* إلى قسمين: أولهما يعيد قراءة تجربة «روما 399» لاستخلاص أدوات نظريّة تساعد في ثانيهما على تقييم عصر الهيمنة الغربية الحالي - «واشنطن 1999» إذا شئت - لتكون الخلاصة أن الغرب المعاصر قد تجاوز بالفعل نقطة الذروة، وأنّه لو استمرت الاتجاهات على منوالها الحاليّ، فإنه يمضي نحو نهاية محتمة شبيهة بمصير روما قد لا تكون بعيدة جداً؛ أقله في عمر الامبراطوريّات الذي يقاس بالعقود والقرون.

على أن هيذر ورابلي يصرّان على إبقاء بوابة أمل تمديد عمر الغرب عبر تبني النخب الحاكمة سلوكيّات عقلانيّة واعية تسمح؛ إن لم تُبقه في موضع الهيمنة على النظام العالمي، على الأقل بأن تمده بأسباب المنعة بما يكفي للتّعايش مع صعود الامبراطوريات الأخرى – لا سيّما الصين – في نظام عالميّ جديد (متعدد الأقطاب).

وتأخذنا تلك السّلوكيات المقترحة من قبل المؤلفين نحو إعادة نظر شاملة في أسس النظام الرأسمالي المعاصر، تتضمن تغيير نظرة المجتمعات الغربيّة إلى الهجرة – التي عند التّدقيق العلمي هي محفّز لنمو اقتصادات الدّول وعون على تدارك جوانب الضعف فيها، لا مصدر تهديد وتبذير كما ينذر السياسيون الديماغوجيّون - وبناء منظومة أكثر عدالة عبر فرض الضرائب على الثروات - لا الدّخول - وتوفير حد أدنى مشترك من الدّخل والتعليم والعناية الصحيّة لجميع المواطنين، مع إعادة نظر شاملة في الترتيبات العلنية والسريّة التي تسمح للنخب بنقل أصولها إلى الجنان الضريبيّة دون المساهمة في رفد الموازنات العامة للبلدان التي توفّر لهم المنصة لجني الأرباح الطائلة.

يدرك المؤلفان بالطبع أن تنازل النخّب الحاكمة في الغرب عن امتيازاتها ليس بالأمر السهل، ولا شكّ في أن بعضها - بحكم خبرتنا التاريخيّة - قد يكون مستعداً لإشعال حروب عالميّة في الدّفاع عنها، لكنّهما يقولان إن دروس تجربة الغرب في سقوط روما القديمة ينبغي لها أن تُقرأ بعناية من قبل النّخب المعاصرة، وترشّد خياراتها بشأن إدارة المستقبل، قبل أن تجد نفسها في دورة عصور مظلمة جديدة.



لا صوت يعلو على صوت القلب

أريك ماريا ريمارك
أريك ماريا ريمارك
TT

لا صوت يعلو على صوت القلب

أريك ماريا ريمارك
أريك ماريا ريمارك

إحدى الروايات التي سحرتني منذ قراءاتي الأولى، والتي بالتأكيد شجعتني - ومن ضمن أعمال خالدة ألمانية أدبية أخرى - على دراسة الأدب الألماني في جامعة بغداد، قسم اللغات الأوروبية، في أواسط السبعينات، وربما هي وراء ذهابي إلى منفاي في ألمانيا. إنها رواية الألماني أريش ماريا ريمارك: «للحياة وقت... للموت وقت» (كما هو عنوان الأصل الألماني) أو «للحب وقت وللحياة وقت»، كما نقلها عن الفرنسية المصري سمير التنداوي، وصدرت عن «دار المعارف» المصرية بجزأين في بداية الستينات.

تدور أحداث الرواية في ربيع عام 1944، تاريخ الانعطافة الحاسمة في مجرى الحرب العالمية الثانية وبداية تقهقر الجيوش النازية وهزيمة أدولف هتلر، وقصف طائرات الحلفاء الغربيين للعاصمة الألمانية برلين عندئذ بالتوازي مع زحف الجيش الأحمر السوفياتي عليها، قبل سقوطها نهائياً في 8 مايو (أيار) 1945 وانتحار مدمر العالم هتلر قبلها بيومين أو بثلاثة أيام وربما أكثر!

الرواية تروي مغامرة الجندي أرنست غريبير، البالغ من العمر 23 عاماً، الذي يحصل على إجازة غير متوقعة قادماً من الجبهة الشرقية التي كان يقاتل عليها في الحرب العالمية الثانية في وحدة عسكرية تابعة للجيش السادس الألماني. الجندي الشاب غريبير الذي عاش للتو بنفسه هزيمة الجيش السادس على جبهة ستاليننغراد، ورأى الآلاف يموتون هناك، لم يكن يعلم أن عليه أن يعيش حطاماً آخر هذه المرة، حطام مدينته برلين، وكيف ترك قصف طائرات الحلفاء أثره البالغ في المدينة. بيوت محطمة وشوارع محفورة، وأسر مشردة تركت منازلها خوفاً من الموت تحت الأنقاض. حتى أسرته هو نفسه انتهى بها المطاف إلى الهروب من المدينة ومغادرتها إلى مكان مجهول. الجندي أرنست غريبير الذي سيبدأ بالدوران في المدينة مثل غريب، بحثاً عن مأوى أو عنوان لمعارف وأصدقاء له وللأسرة، لن يشعر بالفرحة، بالحياة، إلا بعد أن يلتقي مصادفة بإليزابيث، الفتاة التي انتهى أبوها «الشيوعي اليهودي» إلى معسكر للاعتقال النازي بسبب وشاية.

غلاف الرواية

كم من المصادفات يجب أن تحدث لكي تتشكل حياة إنسان في الاتجاه الذي تريده له الحياة!

أرنست غريبير وإليزابيت، كانا يسيران هائمين بلا هدف عبر حطام وخراب برلين، يتنقلان من مكان إلى آخر، كأنهما يبحثان عن مكان أو شيء لا يستطيعان منحه تعريفاً، وحين تتقاطع خطواتهما مصادفة، كان لا بد لهما أن يقعا في حب بعضهما البعض، وهي مسألة وقت ويقرران الزواج من بعضها البعض، كيف لا يفعلان ذلك، وقد وجد الاثنان السلوى ومعنى للحياة بوجودهما معاً، وهما اللذان تقاسما مائدة يأس واحدة؟ إنهما في مشروع زواجهما لا يفعلان شيئاً غير تلبية نداء القلب، يسيران هذه المرة باتجاه واحد، إلى هدف واحد، حيث يقودهما القلب.

تلك هي المفارقة التي تجعلنا الرواية نعيشها: قصف المدينة يتواصل، القائد المجنون الذي اسمه هتلر ما زال مصراً على تنفيذ جريمته حتى النفس الأخير، يرسل الأطفال في آخر الأيام إلى جبهات الحرب، الناس تهرب، ليس أمامهم غير الموت تحت الأنقاض. فقط هما الاثنان، أرنست غريبير وإليزابيت لا يريدان المغادرة. إلى أين؟ هكذا يطوف الاثنان عبر شوارع برلين وأحيائها، محصنين بحبهما، وهما يلبيان نداء الحواس لا غير، وحين يحل المساء، يبدآن بالبحث عن مأوى يمكنهما اللجوء إليه، النوم تحت سقف يحميهما تحت ظلمة الليل، ولا يهم ماذا يكون المكان، قبواً كان أم خرابة بيت. اثنان غريبان في مدينتهما، يكافحان في سبيل قضيتهما الخاصة بهما، قضية لها علاقة بشؤون القلب، وليس لها علاقة بالوضع العام: الحرب!

إنهما يعيشان في عالمين في الوقت نفسه: النضال في سبيل قضية حبهما من جهة (عندما يقرران الزواج والاحتفال بليلة العرس مع زجاجة شمبانيا!)، ومن الجهة الأخرى الحرب بكل ما تحمله من عبثية وموت وخراب، وحيث لا أحد يوضح مَنْ هو المسؤول عن كل هذا الدمار الذي لحق بألمانيا والألمان، مَنْ هو المذنب في الحرب المدمرة تلك؟ حتى البروفيسور العجوز بولمان (قام بتمثيل الدور في الفيلم المأخوذ عن الرواية أريش ريمارك نفسه)، الذي يعرفه أرنست غريبير منذ أيام المدرسة لا يقدم له أي جواب كعزاء. «الذنب»، يقول بولمان بصوت رقيق، «لا أحد يعرف، أين يبدأ الذنب وأين ينتهي. إذا شئت فإنه يبدأ في كل مكان وينتهي في اللامكان. لكن ربما الأمر هو أيضاً بالعكس. أما الشراكة في الجريمة، فلا أحد يعرف ماذا يعني ذلك؟ الله وحده»، وحين يسأله غريبير مرة أخرى إن كان عليه الالتحاق بالجبهة بعد انتهاء إجازته أم لا، ليكون بهذا الشكل هو أيضاً شريكاً بالجريمة؟ يجيبه العجوز الحكيم: «ماذا أقول لك؟ إنها مسؤولية كبيرة. لا أستطيع اتخاذ القرار لك»، وعندما يلح أرنست غريبير بالسؤال: «هل يجب على كل واحد أن يقرر لنفسه؟»، يجيبه بولمان: «أظن نعم. ماذا يكون غير ذلك؟».

لقد رأى أرنست غريبير وسمع الكثير، «المرء يُقتل من أجل لا شيء في الجبهة»، وهو يعرف الجرائم التي تنطوي عليها الحرب: «الكذب، القمع، الظلم، العنف. الحرب، وكيف نخوضها، مع معسكرات العبودية ومعسكرات الاعتقال والقتل الجماعي للمدنيين». وهو يعلم أيضاً «أن الحرب قد خُسرت»، وأنهم «سيستمرون في القتال فقط لكي تبقى الحكومة والحزب وكل أولئك الذين تسببوا في كل هذا، لكي يبقوا في السلطة لفترة أطول، لكي يكونوا قادرين على التسبب في المزيد من البؤس». مع كل هذه المعرفة، يتساءل عما إذا كان ينبغي عليه العودة إلى الجبهة بعد إجازته، وبالتالي ربما يصبح شريكاً في الجريمة. «إلى أي مدى أصبح متواطئاً عندما أعرف أن الحرب لم تُخسر فحسب، بل أيضاً يجب أن نخسرها حتى تتوقف العبودية والقتل ومعسكرات الاعتقال وقوات الأمن الخاصة وقوات الصاعقة وفرق القتل الخاصة والإبادة الجماعية واللاإنسانية، إذا كنت أعرف ذلك وأخرج مرة أخرى في غضون أسبوعين لمواصلة القتال من أجلها؟».

أي عمل في وقت الحرب غير معني بالحرب هو نوع من المقاومة. في عمل ريمارك، يصبح الحب كفعل إنساني بسيط بمثابة رمز تحدٍ لإحدى «جماليات المقاومة» ضد الديكتاتورية والحرب، لكي نستعير قول بيتر فايس، رائد ألماني آخر، اضطر أيضاً للذهاب إلى المنفى بعد استيلاء النازيين على السلطة. القلب أقدس من الوطن، من أي وطنية اخترعت فقط لإقناع الناس بإرسالهم إلى الحرب ونزف الدم من أجل القرارات التي يتخذها الأقوياء والمتسلطون. مَنْ منا لم يعرف ذلك وهو يقاوم العيش في بلاد وادي الخرابين أو في أي بلاد أخرى عاشت خرائب شبيهة لها؟

لقد مرت سبعون عاماً على صدور الرواية وثمانون عاماً على القصة التي ترويها، وعلى ما حدث من خراب طال مدن ألمانيا، وأولها العاصمة برلين. عندما كنت مراهقاً قرأت عدداً لا يُحصى من الروايات عن الحرب العالمية الثانية، لكن «للحياة وقت... وللموت وقت» وبطلها حفرا نفسيهما بشكل خاص في أعماق ذاكرتي. ربما يكون أرنست غريبير هو السبب الذي دفعني دون وعي إلى رفض الذهاب إلى الجبهة عندما اندلعت الحرب العراقية الإيرانية في 22 سبتمبر (أيلول)، وأنني تمردت على الذهاب إلى الجبهة وغادرت إلى المنفى، إلى ألمانيا بلد أرنست غريبير وأريك ريمارك؟

تدور أحداث «للحب وقت... للموت وقت» في ربيع عام 1944 تاريخ الانعطافة الحاسمة في مجرى الحرب العالمية الثانية وبداية تقهقر الجيوش النازية وهزيمة أدولف هتلر

النازيون عرفوا مبكراً قوة روايات أريش ريمارك. إحدى أولى الروايات التي رموها للنار في جريمة حرقهم للكتب في 10 مايو 1933، كانت الرواية الأولى لريمارك «كل شيء هادئ في الميدان الغربي»، رواية مضادة للحرب بامتياز، وكانت إلى ذلك الوقت «بيست سيلر» بيعت بالملايين. ليس من الغريب أيضاً أن يكون أيريش ماريا ريمارك هو أحد أوائل الكتّاب الألمان الذين غادروا ألمانيا مباشرة بعد تسلم هتلر للسلطة عام 1933.

ليس من الغريب إذن أنني أحببت هذه الرواية منذ قراءتي لها وأنا شاب يافع، كأنني كنت أعرف، أن بغداد ستعيش ذات يوم الدمار نفسه الذي عاشته برلين، كأنني كنت أعرف أن دماراً سيلحق بنا جميعاً أينما سنكون، كأنني كنت أعرف أن أجيالاً ستموت في الحروب، وأن أجيالاً أخرى ستأتي، تحلم بالحب، بالزواج، بالسعادة، لكنها ستموت بطلقة طائشة، بقذيفة دبابة أو مدفعية، بقصف طيران يلقي حممه على الجميع أو بصاروخ لا يفرق بين مبنى أو إنسان، بسقف بيت ينهد على الرؤوس ويطمر أسراً بأكملها، كأنني كنت أعرف، أنه لا حاجة لكتابة ما يكفي من روايات الحرب وتذكير أجيال قادمة بماذا تعنيه الحرب، ماذا يعنيه الخراب، كلا، لأن الناس سيعيشون كل ذلك بأنفسهم، بل كأنني كنت أعرف، أن لا أرضاً ولا زاوية في العالم إلا وتتحول إلى ساحة حرب، وأن لا مكان سينجي الناس من الموت تحت قذيفة سلاح مصنع في هذا البلد أو ذاك... وحين تنشب الحرب، أو حين تُطلق قذيفة أو طلقة أو صاروخ ويموت إنسان، ليس من المهم السؤال، طلقة مَنْ هي التي أُطلقت هناك، أو لأي هوية، لأي دين أو لأي قومية دُمغت بها أشلاء قتلى الحروب وصرعى الإطلاقات، كلا، ليس ذلك هو المهم، المهم هو ألا يُقتل إنسان، ومن يقول غير ذلك، ويتغنى منشداً مع العسكر، مدمرين العالم، «لا صوت يعلو على صوت المعركة»، عليه التعلم من جندي المشاة العاشق أرنست غريبير وحبيبته العاشقة إليزابيت في رواية «للحياة وقت... وللموت وقت»، عليه التعلم: أن أكبر إنجاز إبداعي في أزمان الحرب هو البقاء على قيد الحياة، وأن لا مفر أمامنا، لكي نعيش حياتنا بسلام، من غير أن ننشد بصوت أعلى من كل صوت آخر: «لا صوت يعلو على صوت القلب وشؤونه» وكل ما عدا ذلك: هو خراب في خراب.