تصوف جبران خليل جبران

كان ينبع من أزمته كإنسان وشاعر مرهف الحس

 جبران خليل جبران
جبران خليل جبران
TT

تصوف جبران خليل جبران

 جبران خليل جبران
جبران خليل جبران

يصادف يوم 6 يناير (كانون الثاني) ذكرى ميلاد جبران خليل جبران 1883، وربما من المناسب في هذه الذكرى أن نسلط شيئاً من النور على جانب من جوانب هذا المبدع الذي ترك بصمة واضحة على تاريخ الأدب والشعر والفكر في عالمنا العربي، ونعني به تصوف جبران، الذي لم يُكتب عنه الكثير، مع أنه جانب من أهم جوانب إبداعه. والتصوف ذاته يحتاج إلى الكتابة المعمقة عنه، فهو لا يزال موضوعاً غامضاً بالنسبة لكثيرين في العالم العربي، حتى على المستوى الأكاديمي. وفي الغالب يراه العموم شيئاً خاصاً بالمسلمين، وهو ليس كذلك، فهناك تصوف هندوسي وآخر بوذي وثالث طاوي ورابع يهودي وخامس مسيحي وسادس سنيّ وسابع شيعي، يقال له العرفان، وهناك تصوف أفلوطين والأفلاطونية المحدثة وهناك تصوف أفلاطون، ويختلف عنهم جميعاً تصوف آرثر كيستلر الذي يمثل التصوف الجديد.

كتاب جبران «النبي» الذي كتبه بالإنجليزية وترجمه صديقه وشريك أفكاره ميخائيل نعيمة إلى العربية، هو نص صوفي بامتياز. وهو كتاب رمزي بامتياز كذلك، فالنبي هو المتصوف وأهل أورفاليس الذين يخاطبهم الكتاب هم البشر قاطبة على تعدد أعراقهم وأديانهم، وهم المجتمع الذي يحلم به جبران ويرسم تفاصيله.

هل يشبه تصوف جبران التصوف المسيحي؟ إنه لا يؤمن بعودة المسيح ولا بقيام ملكوت السماء ولا بعقيدة البعث المسيحية، وإنما يؤمن بوحدة الوجود والتناسخ، كما يعتقد بعض المشرقيين. هو لا يشبه المسيحية، غير أنني لا أراه بعيداً عن متصوفة القرن الثالث عشر والرابع عشر من أمثال إيكهارت وتاولر ويوحنا الصليبي،

لكنه يزيد على هؤلاء باستحضار أزمة الإنسان المعاصر مع نفسه ومع العالم، أزمة الوجود في هذا العالم المادي القاسي وما جلبه على الإنسان من قلق مضاعف في أثناء غيبة الروح. لا بد من انتزاع الإنسان من هذا العذاب والعودة به إلى لحظة ميلاده الأولى، إلى الطفولة النقية التي لا تحسن التلطخ بأصباغ المدنية.

تصوف جبران ينبع من أزمته كإنسان وكشاعر مرهف الحس، أي أنه نشأ كعلاج لأزمة، ولا غرابة في ذلك فالمتصوفة في الهند لا يعرفون اسماً للتصوف، فلا هو فلسفة ولا هو علم، ولذا كان يكتفون بتسميته «طريق الخلاص». الخلاص من ماذا؟ من الحزن الذي تظهر بصمته على الوجوه والقلق الذي سرى في الدم، والخوف من المصير، والرغبة في سعادة تدوم. إلا أن شاعرنا لا يؤمن بالسعادة التي تكون بهذه الصفة، فهو يقبل بالألم، ضرورة تجعلنا نعرف ونميز طعم البهجة. ويؤمن جبران، مثل سبينوزا، أن فهم المشكلة كفيل بحلها. الفهم هو نهاية الشقاء، الفهم هو كل شيء. كلاهما لا يؤمن بحرية الإرادة بل هما جبريان تماماً فلا خلاص إلا في الاستسلام. والتسليم كلمة جيدة في قاموسهما ولا تعني الهزيمة، بل هو الحكمة عينها. هذه الحكمة تأتي كهبة ربانية لا يمكن تفسيرها ولا علاقة لها بحرية الإرادة. وكما صرح جبران في رسالة وجهها إلى مي زيادة، لولا الفهم لما خرج كتاب «النبي»، بمعنى أنه كتاب كُتب في فترة يقظة أو استنارة. التصوف هو دواء كل هذا الاغتراب عن العالم، لأن التصوف وحدة واجتماع، ولا يوجد فيه ما هو أجنبي.

هذا الإنسان مدعو إلى الدخول في رحلة بحث عن الذات، ذاته الصغرى التي ستؤدي إلى معرفة ذاته الكبرى، أي الروح التي تسري في العالم. هناك حجاب يمنع الرؤية، يراه جبران في حضارة الأسفلت التي يعيش فيها الناس في العصر الحديث. وهو هنا لا يبتعد كثيراً عن معاصره مارتن هايدغر الذي سجل خصومة مبكرة ضد التكنولوجيا، وأعلن عن حبه الخالد لعالم الفلاحين البسيط النقي.

وعذابك يكمن في شعورك بأنك وحيد في مواجهة مع العالم بلا صديق ولا أنيس، تشعر بأنك في هذا العالم لكنك لست منه، كشعور من يشعر بأنه مواطن من درجة ثانية. هذا هو شعور الإنسان في هذا العصر الصناعي المقيت. من ناحية، يكرر جبران دعوة جان جاك روسو إلى العودة إلى الطبيعة. العالم الطبيعي هو الحقيقي والعالم الصناعي هو البهرج المزيف.

وحل كل مشكلات الإنسان يكمن في شيء واحد هو شيوع المحبة بين الناس. قضية القضايا عند جبران هي هذه المحبة التي يراها شريعة تكفل بقاء الجنس البشري، وما سواها الدمار والخراب. وذات الإنسان الصغرى لن تعي ذاتها الكبرى إلا حين تتجاوز ضعفها، أي حين تتجاوز الكراهية والعنصرية والصراعات. كل هذا سيزول عند تحقيق الذات. صحيح أن الذات الصغرى تبدو ضعيفة في حال الجهل، لكن لا بأس، فهذا الضعف وقتي، وسريعاً ما ستتجلى القوة الكامنة في الإنسان، أي الإنسان كامل منذ البداية حتى عندما لا يدرك ذلك، لكن لحظة الإدراك أكمل. في كتاب «نعيمة» عن جبران، أورد أنه في لحظاته الأخيرة رفض أن يلتقي برجل دين جاء ليشاركه طقس الاعتراف الأخير قبل رحيله، إلا أنه أبى، فموقفه من رجال الدين كان موقف المخاصم، لم يكن يحبهم، لكنه لم يكن يرفض الدين، وإنما رفض حبسه في طقوس تؤدى بلا شعور، فالدين المعاملة وحسن الخلق وبث رسائل المحبة بين الناس.

* كاتب سعودي



«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»
TT

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون. يحمل الكتابان العنوانين «حكايات من العراق القديم»، و«ملوك الوركاء الثلاثة»، وترجمهما الإعلامي والكاتب ماجد الخطيب، المُقيم في ألمانيا. وسبق أن نُشر الكتابان في لندن سنة 2006، وجذبا انتباه القراء بصياغتهما المعاصرة التي «تُقدم النصوص الرافدينية القديمة بشكل جذاب إلى جمهور واسع خارج دائرة المؤرخين والباحثين المتخصصين»، حسب رأي الشاعر الراحل سعدي يوسف في حوار معه بمجلة «بانيبال».

صدر الكتابان في طبعة أنيقة، بالورق المصقول، وغلافين ملونين، حافظا على تصاميم ورسومات وصور الكتابين الأصليين؛ تحقيقاً لرغبة الكاتبة فران هزلتون.

تُقدم لنا الباحثة في الكتابين حكايات وأساطير من العراق القديم؛ يعود تاريخ بعضها إلى أكثر من 4000 سنة. هي قصص نقلها الخبراء الإنجليز عن الألواح الطينية المكتوبة بالحروف المسمارية مباشرة من الأرشيف البريطاني الخاص ببلاد ما بين النهرين.

تكفي نظرة إلى عدد الأساتذة الذين أسهموا في ترجمة هذه النصوص من المسمارية إلى الإنجليزية، عن الألواح الطينية القديمة، لمعرفة الجهدين، الأدبي والفني، الكبيرين اللذين بذلتهما فران هزلتون في كتابة هذه النصوص، وتنقيحها وردم الثغرات في بعضها.

واعترافاً بهذا الجهد، قدَّمت المؤلفة شكرها في مقدمة الكتاب إلى قائمة من الأساتذة هم: البروفسور ثوركيلد جاكوبسون، والدكتور جيرمي بلاك، والدكتور غراهام كننغهام، والدكتورة إليانور روبسون، والدكتور غابور زويومي، والدكتور هرمان فانستفاوت، والبروفسور أندرو جورج، والدكتورة ستيفاني دالي والبروفسور بنجامين ر.فوستر.

يحتوي الكتاب الأول «حكايات من العراق القديم» على 13 حكاية وأسطورة سومرية وأكدية، تكشف للقارئ كثيراً من جوانب الحياة في بلاد الرافدين في تلك الأزمنة الغابرة، وتوضح لنا كيف كان الناس يعيشون، وعلاقتهم بالآلهة، وجوانب تفصيلية من الحياة الروحية والثقافية في أور ونيبور وأرتاتا وأريدو وكيش وشوروباك... إلخ.

كتبت الباحثة في تاريخ العراق القديم، ستيفاني دالي، في مقدمة الكتاب قائلة: «تخبرنا هذه الحكايات بالكثير عن المجتمع في ميزوبوتاميا في بواكيره الأولى. يحكم الملك الجالس على عرشه في القصر بصولجان يرمز إلى سلطته، ويبعث رسله للحوار حول صفقات تجارية، تعززهم تهديدات باستخدام القوة. كان الملوك والآلهة ما انفكوا يقيمون على الأرض، لأنهم لم ينسحبوا بعد إلى السماء، وكانت شهيتهم -وغضبهم ومتعتهم بالطعام والشراب، ورغباتهم وغرورهم- مماثلة لمثيلاتها بين الفانين، رغم أن معبوداً فقط قادر على تقرير مصائر المدن، والتصرف بصفته راعياً للملك في هذه المدينة أو تلك».

يتناول الكتاب الثاني قصص ملوك الوركاء الثلاثة إينْمركار ولوغالبندا وجلجامش؛ أي الجد والأب والحفيد. تحكي قصة إينمركار كيف أن هذا الملك أخذ حفنة من الطين النقي في يده وعجنه على شكل لوح، ثم سطر عليه رسالته إلى أينسوغريانا ملك مدينة أرتاتا الواقعة في الجبال القريبة (ربما إيران). هي أول إشارة في الأدب المكتوب إلى «كتابة رسالة»، ويعتقد العلماء، لهذا السبب، أن الكتابة اكتشفت في زمن هذا الملك.

ومن اللافت أيضاً في الكتابين التماثل الغريب بين بعض هذه الحكايات وحكايات «ألف ليلة وليلة»، رغم الفارق الزمني الكبير بين الاثنين. موضوعات السحر والآلهة، والسرد على لسان الطير، والطيران على ظهر نسر ومؤامرات النساء والخدم... إلخ. وتسرد إحدى القصص يوم نزول إنانا (عشتار) إلى الأرض، وقضاء ليلتها مع الملك، ومن ثم تصف الموكب الذي يجتاز شارع الموكب وبوابة عشتار، على هذا النحو:

«يظهر في البداية الفتيان الوسام، الذين يزينون شعورهم المصففة بالأطواق، ثم تأتي العجائز الحكيمات، فترافق الملك أكثرهن حكمة في موكب إنانا، ثم يأتي الطبالون يقرعون الطبول بعصي مقدسة، ويستعرضون في الموكب لإنانا. ثم يأتي الجنود بسيوفهم وحرابهم المشرعة يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم يأتي أولئك الذين عباءاتهم بوجهين أحدهما أنثوي والآخر ذكري، يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم يأتي أولئك الذي يتنافسون في الدوران والالتفاف والمناورة بمباخر من كل الألوان، يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم يأتي الأسرى مقيدين بأطواق العنق الخشب ينشدون نشيدهم، يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم تأتي بنات المعابد بشعورهن المتوجة، يستعرضن في الموكب لإنانا، ثم يأتي الكهنة يرشون الدم يميناً ويساراً من خناجر مغموسة بالدم، يستعرضون في الموكب لإنانا».

بأسلوب سلس؛ يجمع بين الفكاهة والمفارقة، يُقدم الكتابان حكايات وأساطير من تاريخ العراق القديم، شكّلت جذباً لجمهور واسع من القراء خارج دائرة المؤرخين والمختصين.

يشار إلى أنه بالتعاون مع جمعية «ZIPAG» سردت فيونا كولينز وتارا جاف وبديعة عبيد هذه القصص في كثير من الأمسيات التي أقامتها جمعية «إنهدوانا» في بريطانيا. وترى الناقدة ستيفاني ديلي، من معهد الاستشراق البريطاني، أن هذه الحكايات السومرية تمتعت بالقدرة على إسعاد قراء العصر الحديث بفكاهاتها ومفارقاتها ورؤيتها البراغماتية لأفعال الخالدين والفانين، التي يشتبك فيها الخير والشر. وتتساءل: كانت استجابة الجمهور الحديث مدهشة، رغم فارق العصور والثقافات الهائل، كيف يمكننا تفسير هذا التعاطف الذي يتجاوز كل الحدود؟ تكمن بعض الأجوبة في الثيمة الأساسية، التي تتعلق بالحياة والموت المُعبر عنها في الاستعارة الأسطورية؛ حيث تجسد الآلهة قوى الطبيعة، مثل الخصوبة والعقم والدهاء والغباء.

كتبت فران هزلتون في مقدمة الكتاب أن النسخة الأولى من «حكايات من العراق القديم صدرت سنة 2006، وكانت إشادة بأسلافنا الثقافيين المشتركين: قصصيي العراق القديم. ستسهم هذه الطبعة، كما أتمنى، في الإشادة ليس بحكواتيي العراق القديم فحسب، وإنما أن تصبح أيضاً أداة بيد الذين ارتضوا تحدي أن يصبحوا ساردي حكايات رافدينية حديثين».