هل علينا قول الحقيقة مهما كانت جارحة؟

بعض الأشخاص يتعايشون مع الكذبة كي يبتدعوا لأنفسهم حياةً أفضل

غلاف المجلة
غلاف المجلة
TT

هل علينا قول الحقيقة مهما كانت جارحة؟

غلاف المجلة
غلاف المجلة

* إن ما يدعونا إلى الكذب هي ما يمكن أن نسميها «الحقائق الجارحة» وذلك لأن الحقيقة ليست دائماً مقبولة

من دون شك، نحن نعيش في عالم مفتوح ومكشوف على كل الميادين والجهات، وذلك بفضل تطور تكنولوجيا وسائل الاتصالات والإعلام عبر الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي، والأقمار الاصطناعية، والذكاء الاصطناعي، بحيث يأخذ الضخ الإعلامي مداه الأقصى ويصل إلى المجتمعات كافة، متخطياً كل الحدود الجغرافية والسياسية. ولكن الأسئلة التي تطرح نفسها بقوة هي التالية: كيف يمكننا أمام هذا العصف الإعلامي التمييز بين الحقيقة والكذب؟ وماذا يدفع الناس إلى الكذب وتشويه الحقائق؟ وهل يمكن تبرير حجب الحقيقة أو تزييفها لدواعي الخير؟ وبشكل أوضح، هل يمكننا أن نعيش من دون أن نلجأ إلى الكذب في سبيل غايات شريفة؟ من حيث المبدأ، إن الحقيقة يجب أن تقال وتُعلن وليس فقط أن تُعلَم؛ ولكن الحياة الغنية بالتجارب عبر التاريخ علّمتنا أن الشر قد يكون أحياناً خادماً للخير، كما أن الألم قد يكون وسيلة للشفاء.

حول هذا الموضوع الراهن أبداً خصصت المجلة الفرنسية «Question de philo (سؤال في الفلسفة)» عددها الصادر في خريف العام الحالي 2023 تحت عنوان «مقاومة الكذب- هل نستطيع العيش مع الحقيقة؟».

إذن، ما الذي يدعونا إلى الكذب؟ وما الذي يمنعنا من العيش مع الحقيقة في حياتنا اليومية؟ ومن دواعي الكذب الخشية من الأحكام الظالمة وعدم التفهم والتجاهل والإبعاد. لذلك، إن الفرد يصنع لنفسه صورة معينة يحتمي وراءها، ولكن هذه الصورة قد تُلزمه وتدفعه أحياناً كثيرة إلى الكذب. وثانياً، الخشية من أن يُظهر الفرد نقاط ضعفه، وذلك لأننا بشر وطبيعتنا تدفعنا إلى الخضوع لإغراء الآخرين لكي يقبلوا بنا حتى لو اضطررنا أحياناً إلى الكذب كي تكون لنا قيمة أمام الآخرين. ثالثاً، قد نكذب لكي نعيش معاً بشكل أفضل بحسب المحلل النفسي Pascal NEVEU في كتابه «الكذب للعيش معاً بشكل أفضل»، ورابعاً، إن ما يدعونا إلى الكذب هي ما يمكن أن نسميها «الحقائق الجارحة»، وذلك لأن الحقيقة ليست دائماً مقبولة وذلك لأنها من الممكن أن تؤذي المعنيين بها. بالنسبة إلى أفلاطون، إن الحقيقة هي غالباً ما تكون جارحة بالنسبة إلى سامعها كما بالنسبة إلى قائلها. ولذلك، فإن كل مجتمع يستند إلى كمية من الأسرار والأكاذيب. ولكن، كون الحقيقة جارحة ومضرة هل يستدعي أن يكون سبباً كافياً كي لا تُقال أبداً؟

رابعاً، التوهم بخلق حياة خاصة، حيث إن بعض الأشخاص يتعايشون مع الكذبة كي يبتدعوا لأنفسهم حياةً أفضل. وهناك أشخاص يستطيعون التعايش مع الكذبة طيلة حياتهم. وبحسب المحلل النفسي Pascal Neveu فإن الكاذب يعيش، عبر، ومن خلال نظرة الآخر إليه، ويحاول أن يكون منظوراً من الآخَر بوصفه شخصاً مختلفاً ويريد أن يكون معروفاً من قبل الجمهور.

ومقابل هذه الأكاذيب المذكورة أعلاه، هناك أكاذيب يمكنها أن تحمينا تجاه الحقائق الجارحة وتسهم في تجميلها أحياناً، وبالتالي يمكننا تسميتها «الأكاذيب الحميدة»، التي تهدف إلى فعل الخير. من جهة الأخلاق والدين، إن الكذب يقضي بأن يموّه الإنسان فكره بقصد الخداع. وهذا القصد يميز الكذب عن الاستعمالات الأخرى الخاطئة للكلام والمقبولة بهدف التسلية والتنويع. وبهذا المعنى، فإن الكذب يعدّ بمثابة عيب أو خطيئة من قبل التقليد الفلسفي والأخلاقي والديني حتى لو كانت بعض أشكال الأكاذيب مشروعة من قبل بعض الفلاسفة، ومنهم بنجامين كونستان في مناظرته مع كانط حول «حق الكذب». على هذا الأساس، فإن الأخلاق والدين يميزان تقليدياً ثلاثة أنواع من الأكاذيب: 1- الأكذوبة المرحة التي تطلق من أجل الدعابة أو من أجل السخرية. 2- الأكذوبة المفيدة أو الخدومة بعيداً عن الأذى. 3- الأكذوبة المؤذية وهدفها إيذاء الآخر ويمكن تسميتها «الخبيثة»، وهي الأخطر في نظر الأخلاق والدين في الشرق والغرب. في هذه الحالة، إن غالبية أكاذيبنا قد تكون بمثابة أفعال ارتكاسية وغريزية نلجأ إليها لنحمي أنفسنا. ولكن هل هذا يبرر هذه الأكاذيب؟

أمّا علم النفس الاجتماعي فيحسب خمسة دوافع للكذب كشكل من أشكال إخفاء المتكلم لفكره وهي: الحفاظ على صورته وإظهارها، والإقناع للحصول على ميزة إضافية، وتجنب النزاعات (بطريقة دبلوماسية)، وعدم إزعاج محاوره من خلال التعاطف، وتغطية أو تبرير غيابه. وهنا يبرز نموذجان من الانفعالات: السلبي: الخشية من أن ينكشف الشخص بوصفه كاذباً والشعور بالذنب. أما الإيجابي الذي يغلب غالباً لدى الكاذب المعتاد: فهو الشعور بلذة الكذب. ومع هذا النوع، الكاذب يصبح سيد انفعالاته.

أما من جهة علم الاجتماع فيمكننا أن نميز نوعين من المواقف تجاه الكذب: 1- الأكاذيب الأنانية التي تسمح للشخص بتقديم صورة حسنة عن الذات أو بحماية صورته في نظر محاوره، وذلك من خلال المبالغة في مزاياه وإخفاء عيوبه، والحصول على ميزة إضافية أو فرصة عمل، أو بيع شيء لا يحتاجه. وكذلك يتجنب عقاباً أو نزاعاً أو قطيعة. 2- الأكاذيب الغيرية: هنا نكذب كي نجنّب الألم أو الإزعاج أو من أجل سعادة الآخرين. على سبيل المثال، نتحاشى الحديث عن ما يقال عنهم أو عن طريقة لباسهم. ولكن بعض علماء النفس يسمون ذلك «الأكاذيب الدفاعية»؛ لأن الهدف منها حماية علاقتنا بالآخرين. أضف إلى ذلك، هناك دوافع مختلفة تدعونا إلى اللجوء إلى الكذب وتسمح، بنظرنا، بحمايتنا تجاه الآخر، يمكننا تصنيفها بحسب خطورتها: أكاذيب مزيفة لدى الطفل وعفوية ومن دون أية قصدية مؤذية؛ وهذه يمكن ربطها بإبداع الطفل الطبيعي. وأكاذيب - رغبات تبحث عن نكران الواقع، وهذا ما يدعو إلى الكبت وغير مقبول (يمكن أن نكذب على أنفسنا)، وأكاذيب غيرية هدفها حماية الآخرين (الابن، الصديق، الحبيب...)، وأكاذيب نفعية أو خدماتية تهدف إلى اكتساب خير ما أو خدمة ما أو الحفاظ على حب أحد ما أو تجنيب عقوبة معينة. وأخيراً الأكاذيب العدوانية التي يغذيها الحقد والحسد وهدفها الإيذاء.

وفي ختام هذا الموضوع، لا بد من الاستشهاد بأحد المهتمين الاختصاصيين بالتحليل النفسي Pascal Neveu مؤلف كتاب «mentir pour mieux vivre ensemble (نكذب كي نعيش معاً بشكل أفضل)»، حيث يعدّ أن الكذب يشكل جزءاً من حياتنا فيقول: «الكذب هو كوني ويشكل جزءاً من حياتنا. وإن الطفل يتعلمه باكراً، وحتى الحيوانات تعرف استخدامه. فمع أطفالنا ورب عملنا وفي بيتنا الزوجي نحن نكذب جميعاً لأسباب مختلفة: كي لا نقول الحقيقة أو كي نخفيها من خلال ممارسة الكذب بإغفال أو بعفوية، أو للحصول على صداقة معينة وعدم فقدانها... نحن في الوقت نفسه فاعلون وضحايا ومتواطئون مع أكاذيبنا. لماذا نحن نكذب؟ أين ومع مَن تعلمنا الكذب؟ ما الغاية من أكاذيبنا؟ هل هي عوامل سلام أو مولدة نزاعات؟ هل نحن قادرون على كشفها وبأية وسائل؟ وهل نضع لأنفسنا حدوداً؟ ومن دون الحكم على الكذب أو شيطنته وأيضاً من دون تقييمه يجب التأمل حول ماهية الصدق، وما هي الحقيقة؟ ومَن هو الذي يمتلك الحقيقة؟ وما علاقة الكذب مع الأنا؟ ومتى نتوقف عن التمييز بين الواقع والكذب؟ إن إقامة سلسلة للكشف انطلاقاً من ثلاث فئات كبرى من الأكاذيب قد تفيدنا بوصفها إنذاراً من أجل فهم ما إذا تركنا عالم الكذب كي نحمي أنفسنا أو من أجل الغرق في رفض وجودنا».



«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
TT

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة بأنّك حصلت لتوّك على سِفر ثمين من الحكمة السياسيّة وخبرة الإدارة في المنصب التنفيذي الأهم في إحدى دول العالم العظمى، لا سيما أن الرجل جاء إلى فضاء السلطة من الصحافة كاتباً ورئيس تحرير لمجلّة سبيكتاتور الأسبوعيّة العريقة، ومؤرخاً نشر عدّة كتب مهمة - بما فيها سيرة لملهمه وينستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية - قبل أن يُنتخب عمدة للعاصمة لندن ثم رئيساً للوزراء وزعيماً لحزب المحافظين. ولعل مما يرفع وتيرة التوقعات أيضاً أنّه كان في موقع التأثير واتخاذ القرار في مراحل مفصليّة في تاريخ بلاده المعاصر، سواء الأشهر الأخيرة من عصر الملكة الراحلة إليزابيث الثانية، أو خروج المملكة المتحدة من عضويّة الاتحاد الأوروبي، أو وباء «كوفيد 19». أو الحرب في أوكرانيا، ناهيك عن شهرته عبر العالم كنسخة من دونالد ترمب على الجهة الأخرى من المحيط الأطلسي، حتى أنّه ربما يكون السياسي البريطاني الوحيد الذي يعرفه سكان هذا العالم باسمه الأول (بوريس). لكن الحقيقة أن المذكرات ورغم تضمنها مقاطع مهمة هنا وهناك ولحظات صاعقة من الصراحة، فإنها في المحصلة أقرب إلى موجة جارفة من التبرير المقعّر، والإعجاب النرجسي بالذات، وتصفية الحسابات السياسيّة ولوم للجميع لأنهم أضاعوه، ويا ويلهم أي فتى أضاعوا؟

ومع ذلك، فإن «مطلق العنان» قراءة سهلة، يتم سردها بلغة قريبة من لغة الحوار اليومي أكثر منها لغة متعجرفة كما يتوقع من خريجي المدرسة النخبوية في إيتون وجامعة أكسفورد، مع كثير من علامات التعجب، والأصوات الشارعيّة المكتوبة بحروف كبيرة، والصفات المرصوفة كجمل طويلة، والإهانات الشخصيّة لمنافسيه، والأسئلة البلاغيّة عديمة الفائدة، فيما غلب عليها مزاج من السخريّة والهزل حتى في التعاطي مع القضايا التي يفترض أنّه جاد بشأنها.

هذا النّفس الذي اختاره جونسون لسرد مذكراته (والتي قد تدر عليه دخلاً سيتجاوز الثلاثة ملايين جنيه إسترليني وفق تقديرات صناعة النشر) أفقد الكتاب كثيراً من قيمته المتوقعة كوثيقة تاريخيّة، وبدت أجزاء كبيرة منه روايات ربما يتمنى كاتبها لو كانت الحقيقة، أو ربما أعتقد بالفعل أنها كانت الحقيقة كجزء مما يسميه جونسون نفسه التنافر المعرفي الذي يصيب الساسة المغمسين في وظيفتهم القياديّة لدرجة أنهم يصابون بالعمى عن المشاكل السياسية الهائلة التي تتراكم خارج مكاتبهم. هذا سوى بعض الأخطاء التفصيليّة في تسجيل الأحداث أيضاً والتي لا يفترض أن تمرّ على مؤرخ معتّق أو على ناشره المرموق (يقول مثلاً إن حكومة حزب العمال في أسكوتلندا أطلقت سراح الليبي المتهم بتفجيرات لوكربي، فيما الواقع أنها كانت حكومة الحزب القومي الأسكوتلندي).

من الناحية الإيجابيّة فإن جونسون يضمِّن كتابه تعليقات ذكيّة حول مسائل استراتيجيّة تبدو في ميزان اليوم أفضل من أدائه الفعلي رئيساً للوزراء كما مثلاً في رؤيته لأسباب اللامساواة الاقتصاديّة بين الأجيال، وتفسيره للانقسام الاقتصادي العميق بين العاصمة لندن الكبرى وبقيّة المملكة المتحدة، وتصوّراته حول رفع سويّة الأجزاء الأقل حظاً منها من خلال برامج تحديث البنية التحتية وتكنولوجيا الاتصال والاستفادة من أموال الخزينة العامّة لجذب استثمارات القطاع الخاص، وكذلك تحوّله من منكر لتحولات المناخ إلى منذر من مخاطرها ومفسّر للحجج الأخلاقيّة والاقتصاديّة الدّاعية إلى التصدي لجذورها من أجل مصلحة الأجيال المقبلة.

أثناء زيارة لمكتبه في عام 2017 طلب منه نتنياهو استخدام المرحاض بعد ذلك، وجدت أجهزة الأمن جهاز تنصت تم زرعه هناك

يفشل بوريس في تقديم مرافعة كانت متوقعة منه بشأن دوره فيما يعرف بـ«بريكست»، أو القرار بتخلي بريطانيا عن عضوية الاتحاد الأوروبيّ. وهو يعترف بأنّه كان مشتتاً وقتها بين اعتقاده بضرورة أن تتخلص بلاده من سلطة بروكسل عليها (مقر الاتحاد الأوروبي) من ناحية، وتفهمه لمشاعر كثيرين من عائلته وأصدقائه الذين أرادوا منه دعم حملة البقاء في النادي الأوروبيّ، ويقرّ بأنه في المساء الذي أعلن فيه قراره بدعم التوجه إلى الخروج من الاتحاد، كتب نسختين من المقال نفسه، واحدة (مع) وواحدة (ضد) كي يمكنه اختبار حنكة حججه، ليجد في النهاية أن حملة تأييد البقاء افتقدت إلى الحماس، ولم تمتلك أي رسالة إيجابيّة واضحة لتقولها. في المقابل، فإن جونسون يبدو في هذه المذكرات ليس مفتقراً فحسب لأي شعور بالمسؤولية عن الفوضى التي أعقبت التصويت على المغادرة، والإدارة السيئة للمفاوضات التي قادتها حكومات المحافظين وهو فيها مع الاتحاد الأوروبي، بل يبدو غاضباً حتى على مجرد اقتراح مساءلته من حيث المبدأ متسائلاً: «وماذا بحق الجحيم كان من المفترض علينا أن نفعل؟»، بينما يقفز للعب دور البطولة منفرداً فيما يتعلق برد حكومة المملكة المتحدة على حالات التسمم النووي التي نسبت لروسيا في سالزبوري عام 2018. في وقت صار فيه من المعلوم أن تيريزا ماي، رئيسة الوزراء حينها، هي من كانت وراء ذلك الموقف الحازم. ويخلص جونسون للقول إن حزب المحافظين كان سيفوز في انتخابات هذا العام لو بقي على رأس السلطة ولم يتعرّض للخيانة من رفاقه، وهي مسألة يكاد معظم المراقبين يتفقون على استحالتها بالنظر إلى تراكم سلسلة الفضائح وسوء الإدارة وهزالة الطرح الآيديولوجي لحكومات حزب المحافظين خلال الخمسة عشر عاماً الماضية على نحو تسبب للحزب النخبوي بأقسى هزيمة له في مجمل تاريخه العريق. في المذكرات يكتب جونسون عن زيارة قام بها بنيامين نتنياهو إلى مكتبه في عام 2017، طلب خلالها رئيس الوزراء الإسرائيلي استخدام المرحاض. بعد ذلك، وجدت أجهزة الأمن جهاز تنصت قد تم زرعه هناك. وقال جونسون إنه على وفاق مع نتنياهو وإن القراء يجب ألا يستخلصوا استنتاجات أوسع حول الزعيم الإسرائيلي من تلك الحكاية!