عبد اللطيف اللعبي يسرد شهادته عن مرحلة الوباء

«الهروب إلى سمرقند» تنفتح على السيرة الذاتية دون الانتساب إليها

عبد اللطيف اللعبي يسرد شهادته عن مرحلة الوباء
TT

عبد اللطيف اللعبي يسرد شهادته عن مرحلة الوباء

عبد اللطيف اللعبي يسرد شهادته عن مرحلة الوباء

تنتسب سردية «الهروب إلى سمرقند» (دار «الرافدين»/ 2023، بيروت/ ترجمة: أنطوان جوكي) وفق تحديد كاتبها الشاعر عبد اللطيف اللعبي (فاس/ 1942)، إلى أدب مرحلة الوباء. والقصد منه، حصيلة الإبداعات الأدبية كما تمثلت عبر أجناس مختلفة تحقق تدوينها في فترة الحجر الصحي، حيث قيض لكتابها الخضوع لعزلة قسرية جسدت فيها الكتابة الملاذ، والقراءة المتنفَّس. ويحق التمثيل عن تجارب المرحلة برواية التركي أورهان باموق «ليالي الوباء» (2023)، و«يوميات نزيل الوباء» لليبي إبراهيم الكوني، وأيضاً يوميات الكاتب المغربي كمال عبد اللطيف «عيون الموناليزا» (2022)؛ فهذه التجارب عملت على ترجمة واقع المرحلة، لتصدر بعد نهايتها. إنها تأريخ دقيق لحياة الإنسانية ككل.

انبثقت فكرة سردية «الهروب إلى سمرقند»، من حكاية «الوزير وملك الموت» التي اعتقد السارد بوجودها في كتاب «ألف ليلة وليلة». على أنه وهو يبحث، سيجدها منسوبة لفريد الدين العطار في كتابه «منطق الطير». تقول الحكاية:

«في أحد الأيام، حضر وزير الخليفة هارون الرشيد أمامه وقال له، وهو يرتجف من الخوف:

- أتوسل إليك، دعني أغادر بغداد.

- لماذا؟

- في السوق الكبيرة قابلت الموت. كشف وجهه وحدق فيَّ. من المؤكد أنه يريد خطف روحي. عليَّ أن أهرب منه.

فور حصوله على موافقة الخليفة، امتطى الوزير حصانه وتوجه إلى سمرقند. أما هارون الرشيد، فتنكر كعادته في زي متسوِّل وقصد السوق، حيث رأى الموت يحوم. ورغم تنكره، تعرف الموت إليه وانحنى أمامه، فسأله الخليفة:

- ماذا تريد من وزيري؟ لماذا سعيت إلى خطف روحه؟

- لم تكن لديَّ هذه النية. في الحقيقة، فوجئتُ برؤيته آنذاك في بغداد، في حين أن موعدي معه هو هذا المساء، في سمرقند». (ص68 - 69)

إن استحضار الحكاية، وجعلها عنواناً لهذه السردية، هو تمثل لسؤال الموت. وبالضبط في مرحلة الوباء التي يعدها السارد «النشاط الاستثنائي لآلة الموت». من ثم يستعيد القلق الذي راوده ما قبل الوباء وفي أثنائه: كيف سأموت؟ ومتى؟ وماذا سيكون أثر غيابي على الوسط الذي عشت فيه وانتميت إليه؟ فالحكاية توظف لخدمة المعنى الذي تسهم في إنتاجه هذه السردية. إلا أن ما يثير: لماذا فضاء سمرقند بالضبط؟ يقول السارد:

«كم هو جميل اسم سمرقند. القارئ المتنبِّه سيكون قد فهم أن السيد (ناظم) اختاره أولاً لموسيقاه، وهالة الأسطورة التي تتوجه». (ص39)

إن سمرقند في هذه السردية فضاء افتراضي لم يحدث للسارد أن عرفه أو تردد عليه. وبالتالي فهو يوحي بأسفار أقدم عليها لبلدان ودول دون أن يتكهَّن بأي منها سيموت؛ فسمرقند جماع وخلاصة للفضاءات والأمكنة. إنها الخيالي الذي يوحي بالواقعي.

مسألة التجنيس

لا يمكن الذهاب في القول إلى أن «الهروب إلى سمرقند» رواية، ولئن كان الناشر حددها كذلك. إذ لا يتعلق الأمر بحكاية تُحكى، أو تداخل بين الخيالي والواقعي، علماً بأن المؤلف عبد اللطيف اللعبي يعدّ المكتوب «سردية» تهدف إلى إنجاز تدوين يومياتي لوقائع وحالات الوباء كما عاشها السارد «السيد ناظم»؛ فـ«الهروب إلى سمرقند» تنفتح على أدب اليوميات دون أن تكون، وأيضاً على السيرة الذاتية دون الانتساب إليها. من ثم تبقى نموذجاً لسرد مفتوح على مرحلة زمنية من الحياة؛ مرحلة شيوع وباء «كوفيد 19».

«سرديات يتوارى فيها الصوت الحي للكاتب ونفَسه الحارق، ويتوارى أيضاً حضوره الجسدي خلف السطور. ما ينبعث منها غالباً هو صوت مبتذل، كما لو أنه مسجل». (ص 39).

«نحن في آذار (مارس) 2020، ولم يعد هناك بلد أو ركن بعيد عن العالم لم يطله وباء (كوفيد19)» (ص 42).

« كان السرد في طور صياغة شكل فريد جدا». (ص 42)

الشخصية والهوية

كتبت سردية «الهروب إلى سمرقند» باللغة الفرنسية. وتكمن المفارقة في الاسم العلم الذي تفردت به الشخصية؛ فهي في النص الفرنسي «بارد» Barde ومعناه المنشد. وأما في الترجمة العربية فالحديث يتعلق بشخصية «السيد ناظم» التي تعود في الجوهر إلى الانضباط شبه الصارم الذي تخضع له حياة المؤلف والكاتب عبد اللطيف اللعبي الذي برر المفارقة بالقول:

«قصة الاسم هذه لم تحضر صدفة، بلا سبب. لقد حلَّت في الوقت الذي شعر فيه (السيد ناظم) أنه ترك خلفه عذابات كان عليه مواجهتها خلال جزء كبير من حياته. يدل خيار اسم (Barde) بوضوح على أن (جرح اسم العلم)، الذي روج له عبد الكبير الخطيبي، لم يعد أكثر من ذكرى، مثله مثل التمزقات المرتبطة بالمنفى والهوية والإحباط من عدم الكتابة بما يسمى اللغة الأم». (ص119).

يتضح أن هنالك اتفاقاً بين المؤلف والمترجم؛ الاتفاق الذي يستشعر من خلاله القارئ، وكأن الأمر يتعلق بشخصيتين، بينما يرتبط الأمر بواحدة تنزع إلى الحرية والتجرد من الماضي المحيل على إرث آيديولوجي يجسده معجم يتضمن: المنفى، الهوية واللغة الأم. وهو المعجم الذي لازم الكتاب المغاربة الذين كتبوا باللغة الفرنسية، حيث طرح السؤال حول إبداعاتهم: هل ما يكتبونه ينتمي إلى الأدب المغربي، وبالتالي العربي، أم أنه يندرج في الأدب الفرنسي؟

تستعيد شخصية «ناظم»، ما دمنا بصدد النص المترجم، 8 سنوات أمضتها في السجن نظير كفاحاتها، ليثبت ضمن النص رقم السجين (18611)، ويقارن السجن الانفرادي السابق كعقاب، بالجماعي الذي تخضع له الإنسانية وقد تمكن منها الوباء.

«نفهم إذن لماذا يستحوذ الرقم 18611 هذه الأيام على السيد (ناظم)». (ص56)

«هل ساعد حضور سجون الرقم 18611 السيد ناظم على تقبل وتحمل بشكل أفضل قسوة حالة الحصر الراهنة؟ قليلاً». (ص60)

سمرقند في سردية اللعبي فضاء افتراضي لم يحدث للسارد أن عرفه أو تردد عليه. إنها جماع وخلاصة للفضاءات والأمكنة. إنها الخيالي الذي يوحي بالواقعي

الوعي بالتأليف

تمتد سردية «الهروب إلى سمرقند» على إيقاع (48 رقماً). واللافت أن التوزيع جاء مقسَّماً بنوع من التساوي بين الأرقام التي تُعد فصولاً موجزة ومكثفة تنتظمها الدعوة لإشراك القارئ في العملية السردية؛ فشخصية ناظم، توازي كونها تخاطب ذاتها، والمتلقي الذي يتعقب المعنى مجسداً في تفاصيل تشمل حياة الكاتب وأسرته، كما عاداته اليومية وطقوسه في مرحلة الوباء؛ فالتماهي صورة عن المطابقة بين السارد والسيد ناظم والمؤلف. وهو بالتالي التكسير للعزلة والحلم بأن أطرافاً أخرى تشارك اللحظة ذاتها، وتعاني المعاناة نفسها. ولكأني بها تسهم في كتابة ما يكتب، أو أن عملية التأليف ينخرط فيها أكثر من واحد. فالمؤلف يرى نفسه في مرآة الآخرين، ويتخيل الآخرين يبادلونه الرأي والإحساس.

«يعرف قرَّاء كتبه الضرورة المعلنة لديه لإشراكهم في تجربة الكتاب الذي يكون في طور الإعداد، وأمله في كسب تواطئهم على هذا الصعيد؛ فهذه المشاركة، بالنسبة إليه، هي أحد مصادر المتعة التي يشعر بها أثناء الكتابة، وأكثر ما يمنح كتابته، هو معناها الحقيقي». (ص98)

ويحق أن نضيف على مستوى الوعي بالتأليف، التماسك الذي يسم الفصول القصيرة، خصوصاً أن كل فصل يعلق بالذي يليه من ناحية لتوسيع الأفق السردي، ومن أخرى لمتابعة سفر القراءة ومتعتها.

تبقى هذه التجربة الأدبية والإبداعية شهادة على مرحلة ساد وهيمن فيها الخوف من الوباء الذي أجبر الجميع على العزلة والاحتراز. وقد صيغت في قالب سردي يصعب تحديد هويته، بل إن المؤلف الشاعر عبد اللطيف اللعبي ترك النص مفتوحاً على تعدد القراءات والتأويلات.

* كاتب مغربي


مقالات ذات صلة

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)

«أبريل الساحر»... نساء إنجليزيات يهربن من الواقع لـ«تحقيق الروح»

«أبريل الساحر»... نساء إنجليزيات يهربن من الواقع لـ«تحقيق الروح»
TT

«أبريل الساحر»... نساء إنجليزيات يهربن من الواقع لـ«تحقيق الروح»

«أبريل الساحر»... نساء إنجليزيات يهربن من الواقع لـ«تحقيق الروح»

عن دار «الكرمة» بالقاهرة، صدرت رواية «أبريل الساحر» للكاتبة البريطانية إليزابيث فون أرنيم، التي وُصفت من جانب كبريات الصحف العالمية بأنها «نص مخادع وذكي وكوميدي». ومنذ صدورها عام 1922 تحولت إلى أحد أكثر الكتب مبيعاً واقتُبست للمسرح والإذاعة والسينما مرات عديدة.

تتناول الرواية التي قامت بترجمتها إيناس التركي قصة 4 نساء بريطانيات مختلفات تماماً هربن من كآبة لندن بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى إلى قلعة إيطالية ساحرة في الريفيرا الإيطالية ليقضين إجازة الربيع. وبعد أن تهدهن روح البحر الأبيض المتوسط يتغيرن تدريجياً ويكتشفن الانسجام الذي تاقت إليه كل منهن، ولكن لم يعرفنه قط.

وتجيب الرواية بشكل مقنع عن السؤال الأبدي حول كيفية تحقيق السعادة في الحياة من خلال مفارقات الصداقة بين النساء والتمكين والحب المتجدد والعشق غير المتوقع. وصفتها صحيفة «الديلي تلغراف» بأنها «على مستوى ما، قد تُعد الرواية هروباً من الواقع، ولكن على مستوى آخر فهي مثال لتحرر الروح»، بينما رأت صحيفة «ميل أون صنداي» أنها تتضمن «وصفاً حسياً حالماً لأمجاد الربيع الإيطالي».

وتُعد إليزابيث فون أرنيم (1866-1941) إحدى أبرز الكاتبات الإنجليزيات واسمها الحقيقي ماري أنيت بوشامب، وهي ابنة عم الكاتبة كاثرين مانسيفيلد. ولدت في أستراليا لعائلة ثرية وتزوجت أرستقراطياً ألمانياً حفيداً للملك فريدرش فيلهلم الأول، ملك بروسيا، واستقرت مع زوجها في عزبة عائلته في بوميرانيا حيث ربيا 5 أطفال.

بعد وفاة زوجها كانت على علاقة عاطفية مع الكاتب المعروف هـ. ج. ويلز لمدة 3 سنوات، لكنها تزوجت بعدها فرانك راسل الأخ الأكبر للفيلسوف الحائز جائزة نوبل برتراند راسل لمدة 3 سنوات ثم انفصلا. وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية انتقلت للإقامة في الولايات المتحدة حتى توفيت. زواجها الأول جعل لقبها «الكونتيسة فون أرنيم شلاجنتين»، أما زواجها الثاني فجعل اسمها إليزابيث راسل.

نشرت روايتها الأولى باسم مستعار ولكن مع النجاح الكبير لكتبها استخدمت اسم «إليزابيث فون أرنيم». أصدرت أكثر من 20 كتاباً وتُعد روايتها «أبريل الساحر» التي نُشرت عام 1922 من أكثر الكتب مبيعاً في كل من إنجلترا والولايات المتحدة ومن أحب أعمالها إلى القراء وأكثرها شهرة.

ومن أجواء الرواية نقرأ:

«بدأ الأمر في نادٍ نسائي في لندن بعد ظهيرة أحد أيام فبراير، نادٍ غير مريح وبعد ظهيرة بائسة عندما أتت السيدة ويلكنز من هامبستيد للتسوق وتناولت الغداء في ناديها. التقطت صحيفة (التايمز) من على الطاولة في غرفة التدخين وجرت بعينيها الخاملتين أسفل عمود مشكلات القراء ورأت الآتي:

(إلى أولئك الذين يقدرون الشمس المشرقة، قلعة إيطالية صغيرة من العصور الوسطى على شواطئ البحر الأبيض المتوسط للإيجار، مفروشة لشهر أبريل (نيسان) سوف يبقى الخدم الضروريون).

كانت هذه بداية الفكرة، ومع ذلك كما هو الحال بالنسبة إلى عديد من الأشخاص الآخرين، لم تكن صاحبتها على دراية بذلك في تلك اللحظة.

لم تكن السيدة ويلكنز مدركة قط أن كيفية قضائها شهر أبريل في ذلك العام قد تقررت في التو والحال إلى درجة أنها أسقطت الصحيفة بحركة غلب عليها الانزعاج والاستسلام في الوقت نفسه، وتوجهت نحو النافذة وحدقت في كآبة الشارع الذي تقطر به الأمطار».