«ألف ليلة وليلة» تلقي بظلالها على كتّاب عصر النهضة

الباحث المغربي مصطفى يُعْلَى يرصد تأثيرها في كتاب جديد

«ألف ليلة وليلة» تلقي بظلالها على كتّاب عصر النهضة
TT

«ألف ليلة وليلة» تلقي بظلالها على كتّاب عصر النهضة

«ألف ليلة وليلة» تلقي بظلالها على كتّاب عصر النهضة

يتناول الباحث والكاتب المغربي الدكتور مصطفى يُعْلَى في كتابه «سحر الموروث السردي» الصادر أخيراً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بعض تجليات تأثير «ألف ليلة وليلة» في الآداب العالمية، لا سيما في عصر النهضة بأوروبا. ويتوقف بشكل خاص أمام تأثير قصة «المتلمس وزوجته» في «ألف ليلة» على قصص «الديكاميرون» التي ألفها الشاعر الإيطالي جيوفاني بوكاشيو (1313-1375م)، والذي يعدّ أحد أعلام عصر النهضة في أوروبا. ويروي العمل الإيطالي على غرار «الليالي العربية» مائة حكاية على لسان 7 فتيات و3 شبان يلوذون بمنزل معزول خارج مدينة فلورنسا هرباً من لعنة الموت التي أصابت المدينة.

في «الليالي» تقول شهرزاد: «يُحكى أن المتلمس هرب من الملك النعمان بن المنذر وغاب غيبة طويلة حتى ظنوا أنه مات. وكانت له زوجة جميلة تسمى أميمة، فأشار عليها أهلها بالزواج، فأبت؛ فألحّوا عليها لكثرة خطابها وغصبوها على الزواج؛ فأجابتهم على ذلك وهي كارهة، فزوجوها رجلاً من قومها وكانت تحب زوجها المتلمس محبة عظيمة. فلما كانت ليلة زفافها على ذلك الرجل الذي غصبوها على الزواج به قدِم المتلمس في تلك الليلة فسمع في الحي المزامير والدفوف ورأى علامات الفرح؛ فسأل بعض الصبيان عن هذا الفرح، فقالوا له: إن أميمة زوجة المتلمس زوجوها لفلان، وها هي تزف في هذه الليلة. فلما سمع المتلمس ذلك الكلام تحيّل في الدخول مع جملة النساء فوجدهما على منصتهما فتنفست أميمة الصعداء وبكت وأنشدت هذا البيت:

أيا ليت شعري والحوادث جمة

بأي بلاد أنت يا متلمسُ

وكان زوجها المتلمس من الشعراء المشهورين؛ فأجابها بقوله:

بأقرب دار يا أميمة فاعلمي

وما زلت مشتاقاً إذا الركب عُرّسوا

فعند ذلك فطن العريس بهما فخرج من بينهما بسرعة وهو ينشد قوله:

فكنت بخير ثم بت بضده

وضمكما بيت رحيب ومجلسُ

ثم تركها وذهب وعاشت مع زوجها المتلمس في أطيب عيش وأصفاه وأهناه وأرغده حتى فرق بينهما الممات.

يؤكد المؤلف، أن حكاية المتلمس مع زوجته ترسي مبدأً إنسانياً يتعلق بالحب والإخلاص له ومواجهة الصعاب من أجله والتضحية في سبيله، كما تشجب ضمنياً أضداد تلك القيم المتمثلة في الشر والإكراه وانتهاكات قوى الظلم الغاشمة ونتائج استبدادها، لافتاً إلى أن بنية هذه الحكاية بوصفها نمطاً سردياً حظيت بكثير من مبادرات الاستلهام من جانب أدباء غربيين كثيرين، من أبرزهم الشاعر الإنجليزي جيفري تشوسر (1343- 1400م) في عمله الشهير «حكايات كانتربري»، والذي يعدّ من أعلام عصر النهضة أدبياً.

وتبدو الحكاية التاسعة من الليلة الأخيرة في «الديكاميرون» كيف تلقى صلاح الدين وهو متنكر في زي تاجر تكريماً من رجل إيطالي يُدعى السيد توريللو. وفيما بعد ينضم توريللو إلى حملة صليبية على بلاد الشرق وإمارات العرب، ويحدد لزوجته فترة محددة يمكنها أن تتزوج بعدها إذا هو لم يرجع. ويقع أسيراً في الحرب ويُقدّم للسلطان صلاح الدين بوصفه بارعاً في تدريب صقور الصيد؛ فيتعرف السلطان عليه ويعرّفه بنفسه ويكرمه تكريماً عظيماً. يصاب توريللو بالمرض فيُنقل بفنون السحر في ليلة واحدة إلى مدينة بافيا، حيث يصل في أثناء حفل زفاف امرأته إلى زوج جديد فتتعرف عليه ويعودان معاً إلى بيتهما.

ويوضح المؤلف أن ما شاب حكاية بوكاشيو من استطراد يمكن عدّه بمثابة فعل استراتيجي جمالي معين في الحكاية مهمته ممارسة مكر التأجيل المراوغ للحظة الحاسمة التي يسترجع فيها الزوج زوجته، إضافة إلى أنه قد أحدث تنويعاً ملحوظا في الإيقاع السردي للحكاية بحيث غطى مدى زمانياً ومكانياً أطول نسبياً شغل 16 صفحة. وهذا على عكس ما ميز نسيج حكاية «المتلمس» الناجز من سرعة سردية ناهضة على التجانس والحذف والمصادفة والتركيز غير المختزل مما مكّنها من صبّ حركة حدثها المكتمل في صفحة واحدة.

ويمضي المؤلف في رصده عدداً من نقاط التشابه والاختلاف بين الحكايتين، مؤكداً أن القصة في «الديكاميرون» قد عمدت إلى إحلال الخاتم محل أبيات الشعر التي ورد ت في «المتلمس» بِعَدّ كل من الخاتم والأبيات علامة على حضور الزوج الحقيقي واكتشاف أمره. وحافظت «الديكاميرون» على العنصر العجائبي المتمثل في انتقال البطل نائماً على سرير سحري من مدينة الإسكندرية المصرية إلى مدينته بافيا الإيطالية في وقت قياسي، بينما خلت حكاية المتلمس من أي عنصر خارق وإن حافظ شكلها على بعض السمات الوظيفية للحكاية العجائبية مثل وجود ملك غاصب وتحولات الحبيبين بين الألم والسعادة ومفارقات القدر في استعادة الهناء القديم. وعلى عادة القصص الشعبي، جاء المكان والزمان في «حكاية المتلمس» غير محددين، في حين دارت أحداث «الديكاميرون» في زمن الحرب الصليبية كما تراوح الكمان بين بافيا في إيطاليا وعكا في فلسطين والإسكندرية بمصر.


مقالات ذات صلة

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
كتب كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق «جدة تقرأ» عنوان معرض الكتاب 2024 (المركز الإعلامي)

الكتاب الورقي ينتصر على الأجهزة الرقمية في معرض جدة

في ظل التطور التقني والاعتماد المتزايد على الكتب الإلكترونية، حسم زوار معرض جدة للكتاب 2024 الجدل لصالح الكتاب الورقي

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق دور النشر شهدت إقبالاً كبيراً من الزوار من مختلف الأعمار (هيئة الأدب والنشر والترجمة)

«جدة للكتاب»... مزيج غني بالمعرفة والإبداع بأحدث الإصدارات الأدبية

يعايش الزائر لـ«معرض جدة للكتاب 2024» مزيجاً غنياً من المعرفة والإبداع يستكشف عبره أحدث الإصدارات الأدبية، ويشهد العديد من الندوات وورش العمل والجلسات الحوارية.

إبراهيم القرشي (جدة)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.