«الاستشراق»... تاريخ العيون المغلقة باتساع!

رسم صورة «المستبد الشرقي» ووظَّفها لخدمة الهيمنة الاستعمارية

«الاستشراق»... تاريخ العيون المغلقة باتساع!
TT

«الاستشراق»... تاريخ العيون المغلقة باتساع!

«الاستشراق»... تاريخ العيون المغلقة باتساع!

لم يأخذ موضوع «الاستشراق» أهميته في المجالين السياسي والثقافي العربيين؛ إذ يُنظر إليه بوصفه ممارسة جرت في الماضي ينحصر الاهتمام بها في نخبة من الدارسين، حتى كتاب إدوارد سعيد «الاستشراق» رغم وجود ترجمتين عربيتين له عومل كأيقونة، بكل ما في الأيقونة من معاني شهرة العنوان والقداسة والبقاء في مكانة عالية وبعيدة لا يدنّسها التمعن في التفاصيل. وهذا تقصير يصل إلى حد الخطيئة الثقافية والسياسية، لأن الاستشراق فاعل ومؤثر في التوجهات الغربية تجاه المنطقة العربية إلى اليوم، وينبغي أن نفهمه لنفهم جذور التحيز الغربي في أدق وأهم قضايانا كقضية فلسطين.

مناهضة ذهنية الاستشراق، هي ما يحاول المستعرب المرموق بيتر جران أن يحققها من خلال دراساته الأربع المنشورة كلها في مطبعة جامعة «سيراكيوز» بنيويورك والمترجَمة كلها إلى العربية في القاهرة، وأحدثها «الاستشراق هيمنة مستمرة... المؤرخون الأنغلو-أميركيون ومصر الحديثة».

صدر الكتاب عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة في ترجمة رصينة للكاتبة سحر توفيق، ومراجعة المؤرخ عاصم الدسوقي.

لا يبدو أن جران بنزاهته ودأبه العلمي وصبره قد حظي بالاهتمام الذي يستحقه عربياً، ربما نال كتابه «ما بعد المركزية الأوروبية - المجلس الأعلى للثقافة - القاهرة» بعض الاهتمام، لكن كتابيه «صعود أهل النفوذ»، و«الجذور الإسلامية للرأسمالية»، ليسا أقل من ذلك الكتاب، ومع الكتاب الجديد تبدو الكتب الأربعة مشروعاً مناهضاً للنموذج المهيمن في الرؤية الغربية لمصر والمنطقة والعالم.

حتى بعد أن جرت في نهر الدراسات الغربية للشرق مياه كثيرة، تدفقت من عمل إدوارد سعيد، الرائد، إلى أعمال تلاميذه من جيل مؤرخي ومنظِّري ما بعد الاستعمار، لم يزل نموذج «المستبد الشرقي» هو النموذج المسيطر في رؤية الغرب بنخبه الثقافية وصناع القرار السياسي فيه. وبدأبه المعتاد يتتبع بيتر جران أصل هذا النموذج ويحاول عبر فصول الكتاب تفكيكه.

حسبما جاء في العنوان، يرى بيتر جران الاستشراق الإنجليزي والأميركي مدرسة واحدة أسَّسها الإنجليز. لم يستطع المستشرقون الأميركيون التحرك بعيداً عن النموذج البريطاني. يرفض جران الرؤية السائدة لتوقيت بداية الاستشراق الأميركي بتوقيت بداية هذا المجال أكاديمياً بمعناه العلمي قبل الحرب العالمية الثانية، وهي الفترة التي شهدت إنشاء مراكز دراسات الشرق الأوسط. البداية بالنسبة له تسبق هذا بكثير، وكانت مرتبطة بالأهداف الاستعمارية بشكل مباشر، مثل كتاب «وصف مصر» الذي أنجزه باحثون وهواة صاحبوا حملة نابليون على مصر عام 1798، وكتاب «مصر الحديثة» للورد كرومر، الحاكم الإنجليزي بالقاهرة الذي ترك أثراً لا يُمحى على دراسات الاستشراق إلى اليوم. يَعدّ جران «مصر الحديثة» الكتاب المؤسِّس لهذه الدراسات نظراً لاتفاقه مع تقاليد الإمبريالية الإنجليزية والإنجيل في ذات الوقت.

تتداخل العوامل التراثية وأمور الهوية مع العوامل التاريخية في الشرق وفي أميركا ذاتها كما تتداخل مصادر تمويل الدراسات وهوية الكُتَّاب أنفسهم في صناعة الصورة.

ويَعدّ جران «سفر الخروج» النص الأقدم في رسم صورة «المستبد الشرقي» بالدراسات الأنغلو-أميركية كنمط أساسي إسلامي يستعصي على التغيير، وتُقدَّم مصر بوصفها نموذجاً لهذا النمط الذي يرسمه العهد القديم لفرعون مصر. وإلى جانب ذلك هناك الأساس الهيغلي من حيث شمولية الأفكار وأثره في رؤية الشرق.

ولا يفسر هذا الأساس التراثي وحده ثبات الدراسات المتعلقة بمصر، والإصرار على إغلاق العيون على نموذج ثابت دون غيره. يلاحظ جران من قراءاته في الحقبة الكولونيالية بالقرن التاسع عشر وحول قناة السويس أن إنجلترا كانت مهتمة بفكرة الإمبراطورية، مما يعني حاجتها إلى تأمين الطريق إلى الهند وتأمين طريق البترول إلى أوروبا، هكذا يبرز دور مصر كممر يجب أن يكون آمناً. ولم يكن نموذج «المستبد الشرقي» مطلباً أو سياقاً أنجلو- أميركياً فحسب، بل كانت العائلة المالكة المصرية والطبقة المهيمنة في مصر المرتبطة بإنجلترا من أقوى أنصار نموذج الاستبداد الشرقي. في نظر جران كان التفسير الماركسي فرصة لتغيير النظرة، لكنَّ أثره لم يستمر.

بيئة الدراسات في الجانب الأميركي نفسه لها دورها في رسم الصورة؛ ففي نهاية القرن التاسع عشر، الوقت الذي اتجهت فيه دراسات الاستشراق الأميركي إلى التخصص، كانت البلاد لا تزال تعاني من جراح الحرب الأهلية (1861 - 1865) وصعوبات صياغة عقد اجتماعي، وبرزت قضايا النوع والعِرق والطبقة والطائفة. أدى فشل الدولة في صياغة العقد الاجتماعي إلى عقد تحالفات صغيرة للحفاظ على هويتها في فترة تميزت بالعنف الذي وجد صداه في التعليم العالي وتخصصاته المختلفة.

وفي ظل هذا الصراع خسرت النساء والأميركيون من أصل أفريقي أمام الذكور البيض. ويعوّل بيتر جران على خصوصية صوت المرأة الذي سيعود إليه في دراسته للحالة المصرية، ليوضح كيف يتعرض للتغييب في دراسات التاريخ. ويستند جران إلى دراسات المؤرخة المصرية أميرة سنبل الأزهري التي تثبت أن النساء تمتعن بقدر أكبر من المساواة مع الرجال أكثر مما أتيح لهن بصعود الدولة الحديثة عندما تصادف تزامن اعتماد القانون الفرنسي مع مولد السلفية الدينية.

ويلاحظ جران أن الكُتَّاب في موضوع الحداثة المصرية يميلون إلى النخبة الذكورية ويضعون ثقافتها في تضاد مع ثقافة الفلاحين والقبائل وفقراء الحضر، ولا يزال هذا الانحياز قائماً، متشككاً في قدرة دراسات تخضع لهذا الاستقطاب في وصف الواقع.

يفترض نموذج الاستبداد الشرقي وجود فجوة هائلة بين الحاكم والمحكوم، وأن السلطة تتمركز في القاهرة، بينما هي محدودة أو غائبة تماماً على مستوى الأقاليم، والشعب بلا فاعلية كالفلاحين في العصور الإنجيلية، لهذا فالتاريخ المصري راكد، وفي أحسن الأحوال يدور في دوائر، وهكذا يمكن اعتبار عبد الناصر محمد علي جديداً والسادات ومبارك صدى لإسماعيل.

يرفض جران هذه الرؤية ويصل إلى فكرة أن البلدان ليست راكدة، ولكن الركود قد يصيب الدراسات أحياناً. ويدلل على مقولته بأن الصعيد كان مناوئاً لسلطة القاهرة في فترات طويلة، وكانت «جرجا» في قلب الصعيد تتمتع بثقل كبير، ولها أهميتها لدى الباب العالي العثماني بوصفها أحد مصادر الإمبراطورية في القمح.

من بين فرضيات نموذج الاستبداد الشرقي أن التغيير لا يأتي إلا من الخارج، وهذا الاعتقاد الأخير هو ما يجعل المستشرقين وجانباً من مدرسة التاريخ المصرية يصرّون على أن حملة نابليون كانت نقطة النور التي أضاءت التاريخ المصري. وعبر قراءات موسعة لكتب فردية وجماعية ينفي بيتر جران هذه الأسطورة، ويتفق مع الجيل الأحدث من المؤرخين المصريين مثل عاصم الدسوقي ونيللي حنا، على أن الحملة كانت تنبيهاً لكن ما سبقها لم يكن جموداً مطلقاً كما تروّج السردية الاستشراقية. جاء الفرنسيون بأسلحة متطورة شكَّلت صدمة لطبقة الحكم في مصر لكنّ عناصر الحداثة كانت موجودة في المجتمع ذاته، ويمكن تلمسها من ثقافة طبقة وسطى متعلمة تقتني الكتب، كما يمكن تلمسها من عقود البيع والشراء في تلك الفترة.

بعض الأطروحات الحديثة المتأثرة بالنظرية الاجتماعية استطاعت اختراق هذه الرؤية، ويشير جران إلى دراسة ليلى أبو لغد حول نساء قبائل أولاد علي، ورغم تبنيها نموذج الاستبداد الشرقي في البداية، فإن دراستها نماذج النساء وأشعارهن تُثبت سعي النساء إلى المقاومة وحيازة السلطة. المؤرخة زينب أبو المجد، بدورها ترفض اتخاذ الدولة القومية المصرية وحدة تحليل، مؤكدة في دراستها «إمبراطوريات متخيلة» أن الديكتاتور ملمح إمبراطوري وليس ملمح أمة. ويَعد جران كتاب زينب أبو المجد أول دراسة جادة لصعيد مصر الذي فشلت ثلاثة إمبراطوريات: العثمانية، والبريطانية، والأميركية في إخضاعه، وبالطبع فإن تاريخ المقاومة في الصعيد صفحة لا تحبذها الدولة القومية كذلك.

ومن الأميركيين يذكر جران صديقه تيموثي ميتشل، ويَعدّ كتابيه «استعمار مصر» و«حكم الخبراء» نموذجين للرؤية المضادة للنموذج السائد. متأثراً بالفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، يقدم ميتشل مجادلة حول الطبيعة القسرية للدولة المعاصرة بشكل عام وليس في النموذج المصري فحسب، ولا تنفي طبيعة الاستبداد المصري ومساهمة الاستعمار في إعادة صياغة الدولة على هذا النحو، وجود معارضة في كل وقت. لا تقتصر تلك المعارضة على منطقة أو عِرق أو نوع، إذ يتوقف جران أمام ثورة 1919 طويلاً، ويذهب إلى الاستشهاد بفوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للأدب، وهو الرجل الذي عاش يراقب الطبقات الشعبية ويكتب عنها... وهكذا فالحداثة ليست نموذجاً يُفرض من الخارج، وليست تحديث نخبة، وإنما عمل متوازن تتدخل فيه جميع العوامل.

للأسف، لم يزل هذا الفهم بعيداً عن دوائر السياسة الأميركية التي تعتقد أن مصر لديها نظام أبويّ، وقد تحب مساعدتها على أن تصبح ديمقراطية. وعلى مدار سنوات تقدم مساعدات مع فصلٍ تام بين الإيمان بالطبيعة الديكتاتورية للنظام وبين التساؤل حول ما إذا كانت المساعدات تؤثر في الطبيعة التي يعمل بها النظام.

يرى بعض الكُتَّاب أن الديكتاتورية تُنتج الإرهابيين الذين يمثّلون تحدياً للغرب، وبعد ذلك يتفرقون بين جماعة تبحث عن طريقة لتغلغل الغرب في المجتمعات الديكتاتورية بغية إصلاحها وأخرى ترى من الخطأ طرح سؤال التغيير من أساسه، في تجاهل لكتابات قلة مثل الكاتب السياسي جايسون براولي الذي يستند إلى النظرية الاجتماعية الجديدة، ويؤكد في كتاب حديث له أن إفراد مصر لا معنى له، لأن الغالبية العظمى من البلدان التي تحاول التحول إلى الديمقراطية تتعثر عند نقطة ما، وينبغي دراسة تلك النقطة في كل حالة.

ويختتم بيتر جران كتابه بالدعوة إلى مزيد من الدراسات الأميركية في حقول مختلفة تفيد الباحثين في الدراسات المصرية، وعلى سبيل المثال دراسة التاريخ المعرفي الأميركي، إذ يقوم بعض العلوم بدور السدنة في الحفاظ على الأفكار القائمة، وليس بعيداً عن ذلك هندسة رواية التاريخ الأميركي بحيث تكون الولايات المتحدة هي «أميركا الشمالية»، واستبعاد أن يكون الإيروكوا وغيرهم من الأميركيين الأوائل جزءاً من الثقافة الرفيعة. ويلاحَظ أن ما يطبقه حراس البوابات على دراسة مصر تشبه ما يطبقونه على دراسة تاريخ فلسطين، حيث ينبغي على الدارسين تحاشي ذكر الفلسطينيين.


مقالات ذات صلة

دراسات في متغيرات العراق السكانية... والهجرات القسرية

كتب غلاف كتاب «العراق دراسات في المتغيرات السكانية»

دراسات في متغيرات العراق السكانية... والهجرات القسرية

شهد المجتمع العراقي تحولات عميقة في بنيته الديموغرافية، ارتباطاً بما شهده البلد من تطورات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وحروب.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب شللي

رومانتيكية فائضة في عالم سريع التغيّر

لم تعُدْ مفردة «الرومانتيكية» تُذكَرُ إلّا قليلاً، وحتى عندما تذكّرُ فغالباً ما تكون في سياق استذكار تاريخ التيارات الأدبية التي سادت في بدايات القرن التاسع عشر

لطفية الدليمي
كتب «سكك حديد مصر»... قاطرة للنهضة والتحديث

«سكك حديد مصر»... قاطرة للنهضة والتحديث

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «مصر والطرق الحديدية» للكاتب محمد أمين حسونة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق مجموعة من الكتب القديمة (أرشيفية - رويترز)

خبراء الكيمياء يحذّرون: الكتب العتيقة تحتوي على صبغات سامة

أطلقت الجمعية الكيميائية الأميركية تحذيراً بشأن المخاطر الصحية المحتملة التي قد تنطوي عليها الكتب القديمة، خصوصاً تلك التي تعود إلى العصر الفيكتوري.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون مختارات شعريّة لحسين درويش للكردية

مختارات شعريّة لحسين درويش للكردية

صدر حديثاً عن «منشورات رامينا» بلندن ديوان شعريّ باللغة الكردية يحمل عنوان «Toza Rojên Berê» للشاعر السوريّ حسين درويش، وهو من ترجمة الشاعر والمترجم ياسين حسين.

«الشرق الأوسط» (لندن)

كواليس حياة اقتصادي أعاد الثقة لهيئة سوق المال السعودية بعد انهيار 2006

مذكرات التويجري وسيرته في دروب الاقتصاد صدرت في مطلع أغسطس الحالي عن دار «جداول»... (جداول)
مذكرات التويجري وسيرته في دروب الاقتصاد صدرت في مطلع أغسطس الحالي عن دار «جداول»... (جداول)
TT

كواليس حياة اقتصادي أعاد الثقة لهيئة سوق المال السعودية بعد انهيار 2006

مذكرات التويجري وسيرته في دروب الاقتصاد صدرت في مطلع أغسطس الحالي عن دار «جداول»... (جداول)
مذكرات التويجري وسيرته في دروب الاقتصاد صدرت في مطلع أغسطس الحالي عن دار «جداول»... (جداول)

في الشهر السابع من عام 2004 قررت السعودية إنشاء «هيئة السوق المالية»، واستمرت في عملها بشكل تقليدي حتى عام 2006 عندما عصفت بالسوق مرحلة غير عادية، مؤشر السوق والسيولة فيها يرتفعان بمعدلات عالية جداً، واندفع المستثمرون من مختلف طبقات المجتمع رجالاً ونساءً للاستثمار في السوق المالية، وكثير منهم اقترضوا ومنهم مَن رهنوا ممتلكاتهم من أجل توفير الأموال اللازمة، وانتشرت المضاربة على نطاق واسع، ومعها التجاوزات الكثيرة.

استمرت الارتفاعات المتسارعة خلال فترة قصيرة، ووصلت إلى ذروتها بوصول المؤشر إلى قمة تاريخية بلغت أكثر من 21000 نقطة بتاريخ 25 فبراير (شباط) 2006 ليحدث ما كان متوقعاً؛ وهو الهبوط المفاجئ والحاد للسوق، وكان ذلك يوم السادس والعشرين من شهر فبراير، أي اليوم الذي تلا وصوله إلى قمته التاريخية.

انهيار السوق أوجد حالة من الهلع بين المواطنين، وانتشرت أخبار عن الذين خسروا كل شيء بعد أن باعوا أو رهنوا ما يملكون من بيوت ومحلات تجارية وممتلكات أخرى مختلفة من أجل استثمارها في سوق الأسهم، وأخذت الصحف ومواقع الإنترنت خصوصاً ما كانت تسمى «الساحات» تضج بالشكوى وإلقاء المسؤولية على الحكومة، وبالذات على هيئة السوق المالية التي وجدت نفسها ملومة ومتهمة ومدانة على عدم التدخل وشرح ما يحدث. وسط هذه الغمامة الكبيرة من القلق والتوتر، صدر قرار تكليف الدكتور عبد الرحمن بن عبد العزيز التويجري، رئيساً لمجلس هيئة السوق المالية، وبدأ مهمة جديدة لإعادة الثقة إلى السوق، وهي المهمة التي رصد تفاصيلها وكواليسها في سيرته الذاتية «مسرى العُمر» التي صدرت أغسطس (آب) الحالي عن دار «جداول»، وأورد فيها تفاصيل مثيرة عن الحياة الاجتماعية والتعليمية في مسقط رأسه بمدينة المجمعة، ثم الدراسة في جامعة الملك سعود وأميركا، وفصول ممتدة عن التجربة العملية في مجلس التعاون الخليجي وصندوق النقد الدولي ثم عمله في المجلس الاقتصادي الأعلى ورئيساً لهيئة سوق المال السعودية.

باشر التويجري أعماله لترتيب حالة السوق بعد الأزمة، وكانت من أهم التحديات التي واجهتها الهيئة، التعامل مع تفاقم وتنوع المخالفات التي حدثت في السوق المالية خلال الأزمة التي مرت بها، وأخذت الهيئة تعلن المخالفات ونوعها وعقوبتها دون ذكر اسم المخالف، قبل أن يقر مجلس الهيئة إعلان أسماء المخالفين بعد إصدار حكم إدانة نهائي من لجنة الاستئناف. واجه القرار شبهة التشهير في وجه الهيئة، ووجد التويجري من الضروري أخذ موافقة الملك عبد الله بن عبد العزيز، وكان له ذلك عندما توجّه إلى مخيمه الملكي في روضة خريم، وقال له الملك عبد الله: «توكل على الله»، إذا كان الموضوع وفق النظام. توالت قرارات المعالجة لحالة السوق والخطوات التطويرية، ومع اقتراب نهاية عام 2006 بدأت السوق المالية تستعيد ثقة المتداولين تدريجياً، وبدأ نشاط التداول في الارتفاع.

التويجري مع عدد من زملائه في المرحلة المتوسطة عام 1968م ( x محمد الأحمد)

حدثٌ غيّر الحياة الهادئة

مع بداية عام 1990 كانت الحياة هادئة، ومدينة الرياض تزدهر يوماً بعد آخر، بعد أن تجاوزت السعودية الأزمة النفطية التي أدت إلى انخفاض أسعار النفط بشكل حاد في منتصف الثمانينات الميلادية، لكن المنطقة على وشك أن تواجه زلزالاً هزّ استقرارها، وحوّل السكينة فيها إلى خوف وترقب لمجهول قادم.

في يوم الثاني من شهر أغسطس 1990 يدير التويجري مؤشر الراديو وهو يجوب شوارع الرياض، لتنطلق من أثير الإذاعة المفاجأة غير المتوقعة؛ الجيش العراقي يدخل الكويت! ليبيت السعوديون تلك الليلة في قلق وتساؤل، ويبدأ الكويتيون في الوصول إلى المدن السعودية للنجاة بأنفسهم من لأواء الحرب، فيما واصل التويجري من موقع عمله في مجلس التعاون الخليجي المساعدة على إنجاز مهام المجلس ودوره في التعامل مع تبعات هذه الفاجعة التي أصابت إحدى الدول المؤسسة للمجلس.

يصف التويجري تلك المرحلة: «كانت بالفعل أياماً عصيبة ومُجهدة، وكنت مثل الناس أعيش في دوامة، لكن القلق خف تدريجياً بعد الإعلان عن قيام التحالف الدولي لتحرير الكويت، وكانت تلك الأيام لا تُنسى، وأجواء الحرب تعبّر عن نفسها بصور مختلفة، بما فيها كثافة وجود القوات الأجنبية في المدن وعلى الطرقات، وأزيز الطائرات بأصواتها المرعبة، وكان الخوف من الصواريخ التي قد يطلقها العراق وقد تكون محملة بالغازات السامة يزيد الخوف لدى العائلات، واستمر القلق من المجهول عندما دوّت صفارات الإنذار ليل 21 يناير (كانون الثاني) في مدينة الرياض إيذاناً بوصول الصواريخ العراقية إليها».

كويتي في أثناء اتّجاهه إلى الحدود السعودية قبل أكثر من 30 عاماً (أ.ب)

مهمة جديدة في أرض الوطن

كانت أجواء الغزو العراقي للكويت تسيطر على المنطقة، وبينما كانت الأحداث تتفاقم في المنطقة، كان عبد الرحمن التويجري يتحضر للانتقال إلى واشنطن والعمل في صندوق النقد الدولي، ممثلاً للسعودية، وقد التحق بالعمل هناك مع فريق سعودي، واستمر لنحو عقد من العمل في دهاليز أهم المؤسسات الاقتصادية الدولية، قبل أن يعود مجدداً إلى السعودية ليتولى مهمته الجديدة كأول أمين عام للمجلس الاقتصادي الأعلى، المؤسسة الجديدة والحديثة التي أنشئت عام 1999 وبُنيت عليها آمال كبيرة في قيادة جهود الحكومة للإصلاح الاقتصادي.

واصل التويجري مهامه في الموقع الجديد، وكان يحرص على المشاركة في المنتدى الاقتصادي العالمي الذي يُعقد سنوياً في دافوس، ولكن بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول)، ولإبداء التضامن الدولي مع الولايات المتحدة الأميركية، تقرر عقد المنتدى بشكل استثنائي في مدينة نيويورك التي حدثت فيها المأساة. وشارك التويجري ضمن وفد المملكة الكبير مقارنةً بالأعوام السابقة، وكان الهدف من تكثيف الحضور في المنتدى استغلال الفرصة التي يتيحها المنتدى مع وجود الأعداد الكبيرة من المسؤولين ورجال الأعمال ووسائل الإعلام العالمية المختلفة لإيضاح موقف المملكة من العمل الإرهابي الذي حدث في نيويورك.

مذكرات التويجري وسيرته في دروب الاقتصاد صدرت في مطلع أغسطس الحالي عن دار «جداول»... (جداول)

وبعد مبايعة (الأمير) عبد الله بن عبد العزيز ملكاً على البلاد عام 2005، صدر مرسوم ملكي بتاريخ 17 أغسطس بإعادة تشكيل المجلس الاقتصادي الأعلى ليكون برئاسة الملك. وبدأت السعودية مساعيها لتحقيق إحدى أهم خطواتها، بالانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، وأورد التويجري في مذكراته جهود العمل على الانضمام وما أولاه المجلس الاقتصادي من اهتمام كبير بهذا الموضوع على أمل الوصول إلى اتفاق يمكِّن المملكة من الاستفادة القصوى من فوائد الانضمام إلى المنظمة، وما يتيحه من إمكانية تسهيل وزيادة حركة التبادل التجاري بينها وبين دول العالم، ولا يؤدي في الوقت نفسه إلى إلحاق أضرار باقتصاد المملكة ومنتجاتها الوطنية.

استغرقت المفاوضات عدة سنوات، وكانت صعبة وشاقة، وتضمنت أخذاً ورداً مع الدول التي تفاوض المملكة وفق إجراءات المنظمة، وبذل الفريق التفاوضي السعودي جهوداً كبيرة للحفاظ على مصالح المملكة والوصول إلى اتفاق متوازن يُعظم المنافع ويُقلل الأضرار، قبل أن تنجح السعودية في توقيع اتفاق العضوية بعد ذلك في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) 2005.