هل اطلع الفيلسوف الألماني هيغل على مقدمة ابن خلدون؟

حسين الهنداوي يكشف تشابههما في تناول مفهوم الدولة والتاريخ والحضارة

هل اطلع الفيلسوف الألماني هيغل على مقدمة ابن خلدون؟
TT

هل اطلع الفيلسوف الألماني هيغل على مقدمة ابن خلدون؟

هل اطلع الفيلسوف الألماني هيغل على مقدمة ابن خلدون؟

من منظور علم التاريخ وفلسفته، يعقد الباحث العراقي دكتور حسين الهنداوي مناظرة فكرية شيقة ما بين العالم العربي ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع والعمران، والفيلسوف الألماني هيغل مؤسس المثالية الألمانية في الفلسفة، ويشير في كتابه المهم «التاريخ والدولة - ما بين ابن خلدون وهيغل» إلى وشائج قوية تربط بينهما رغم البون الزمني الشاسع، الذي يصل إلى أربعة عقود.

يقع الكتاب في 206 صفحات من القطع المتوسط، وصدرت طبعته الأولى عام 1996 عن «دار الساقي»، وعن الدار نفسها صدرت حديثاً طبعته الثانية، مزيدة ومنقحة. يستهلها الكاتب بمقاربة تمهيدية يوضح فيه الأسس النظرية والفكرية التي تستند عليها هذه المناظرة، وكيف قادته إلى اكتشاف علاقة ذات تأثير خاص ما بين الفيلسوفين، لافتاً إلى أنه لم ينطلق من مفاهيم نظرية مجردة، وإنما من مصادر مشتركة بينهما، وأن «فلسفة التاريخ الهيغلية هي التي قادتنا إلى اكتشاف علاقة بينها وبين الفلسفة الخلدونية، وليس العكس».

ويربط هذا المنظور بمفهوم الدولة، طارحاً في خاتمة الكتاب سؤالاً مهماً يشكل خلاصة بحثه المعرفي الشيق وهو: هل اطلع هيغل على مقدمة ابن خلدون؟ لافتاً إلى تناثر أفكار ومفاهيم محورية في فلسفة هيغل ترجع أصولها إلى مفكرين وفلاسفة عرب، من أمثال الكندي والفارابي وابن رشد، وهو ما أشار إليه باحثون ومستشرقون غربيون وألمان على وجه الخصوص، لكن هذه الإشارة تراوح بأوجه مختلفة، فبعضها يؤكد ذلك بشكل صريح، وبعضها الآخر يُغلِّب الظن والاحتمال.

التوافق والاختلاف

يوضح المؤلف ذلك حين يستعرض نقاط التوافق والاختلاف بين الرجلين، مؤكداً أن هناك قطيعة منهجية واعية وشاملة ينفذها ابن خلدون في كتابة التاريخ، تؤدي إلى الفصل أو التمييز بين فن «التدوين» العادي، وبين علم التدوين الفلسفي لأحداث الماضي. ويشمل هذا التمييز الموضوع ومادته من جهة، وتمييزاً في المنهج والأدوات من جهة أخرى.. ويقول: «هذه هي الأرضية الصلبة التي يؤسس عليها ابن خلدون إلى التعامل مع التاريخ البشري، من الآن وصاعداً، بمعايير الفلسفة، لكنه كان يدرك أيضاً أن الفلسفة لا تستقبل إلا ما هو فكر محض، أي لا تتعامل مع وجود جوهري وحقيقي وعميق في التاريخ. من هنا يأتي مصدر دعوته إلى الفصل الواعي بين ظاهر التاريخ وباطنه الذي يقدم عليه منذ بداية مشروعه».

وعلى ضوء ذلك يمكننا النظر إلى التاريخ باعتباره توثيقاً للفضاء العام للإنسانية، يتم التعامل معه عبر المنظور الفلسفي من خلال زاويتين؛ هما التاريخ الكوني المادي المباشر للوقائع والأحداث وما يكمن وراءه، من حلقات ودوائر ذات صلة به، وضاربة في عمقه، لكن يتم ذلك بشكل غير مباشر، فهي مخفية في طبقاته، ومؤثرة فيه، وفي كينونته العابرة الممتدة في كينونة الزمان والمكان. ويتوقف حول محاضرات ألقاها هيغل حول موضوع «التاريخ الفلسفي»، وفيها يؤكد الفيلسوف الألماني أن «الموضوع هنا لن يكون استخلاص أفكار عامة من التاريخ، مدعومة بأمثلة مأخوذة من مجرى الأحداث، إنما تقديم المضمون الخاص بالتاريخ الكوني».

ويرى هيغل أن هذا المضمون الخاص لا يمكن كشفه إلا بواسطة الفلسفة، لأنها هي وحدها من يستطيع قراءة «ما هو خفي في التاريخ»، ويتم ذلك من خلال فكرة بسيطة، تؤكد أن «العقل يحكم العالم». إذن قراءة التاريخ فلسفياً تعني أنه معطى عقلاني، يخضع لمعطيات المنطق، وربط النتائج بالمقدمات، ومن الصعب إحالته إلى بداهة الحواس، وتصوراتها البديهية، ابنة المزاج الخاص.

في هذا التصور ربما تلوح أواصر ما، بين ثنائية ظاهر التاريخ وباطنه، عند ابن خلدون، وبينه كجدلية ما بين الخفاء والعلن عند هيغل؛ لكن يظل أهم ما في مقدمة كتابه «فلسفة التاريخ» أن هيغل يوضح فيها وجهة نظره حول مسار التاريخ البشري كله، رابطاً ذلك بالكينونة الإنسانية الأساس، وهي الوعي بالحرية، فيقول بشكل صريح لا لبس فيه: «تاريخ العالم ليس إلا تقدم الوعي بالحرية». ومن ثم فهي الفكرة الأساسية التي يتشكل منها الكتاب ويستند إليها، ويبني من خلالها هيغل تصوراته وفلسفته للتاريخ، ليس باعتباره حقيقة ماضوية فحسب، وإنما أيضاً من خلال تجلياته في الراهن وما يحدث الآن.

 

مفهوم «العمران البشري» الخلدوني حاضر كليّاً فيما يعنيه هيغل بـ«الفاعلية الروحية» للإنسان، التي تشمل كل أنشطته المادية والذهنية ونتاجاتها، قبل دخوله للحضارة، والتي تمثل مرحلتين أيضاً، ما قبل الدولة، وما بعدها

نظرية الدولة

في سياق هذه المقاربة الفلسفية يتناول الكتاب نظرية الدولة عند هيغل وابن خلدون، ويلفت إلى وشائج وتماثلات عميقة تبدو ممكنة بين جوانب بنيوية في تناولهما بخاصة حول فكرة الحضارة، منها أن ابن خلدون في مقدمته الشهيرة يطرح جملة من الأفكار حول مفهوم العمران البشري، وهو مفهوم واسع يتجاوز مفهوم الحضارة، حيث ينظر إلى المجتمع باعتباره مجموعة من الأفراد يقطنون رقعة جغرافيّة معينة، وتجمع بينهم روابط معينة، تعزز الحاجة للدخول في علاقة مع الآخرين، وينظم المجتمع ذلك في إطار منظومة من الثوابت والقواعد الاجتماعية التي يكفلها القانون؛ حيث إن الفرد في هذا المجتمع لا يستطيع مخالفة قواعد التعايش العامة ضمن نطاق المجتمع هذا أو الانحراف عنها، لأنه في حال فعلها فإنه يعرض نفسه للعقاب، كما سيقع في دائرة من اللوم والسخط من قبل الآخرين. من هذا المنطلق تتكشف لنا طبيعة سيكولوجية القواعد الاجتماعية التي تمارس سلطتها على الأفراد، فهي قواعد مفروضة عليهم بسلطة الوعي الجمعي والصالح العام، ويطلق على تلك القواعد اسم «القهر الجماعي».

اللافت أن هذا لا يتم بشكل عشوائي إنما يفرض المجتمع قوانينه الملزمة للأفراد بمنطق الوعي الجماعي المستقل عن وعي كلِ فرد على حدة، كما أن ظهور المجتمعات البدائية لا ينفصل عن عملية النمو الديمغرافي، بل يرتبط بها ارتباطاً عضوياً وحتمياً، وتبدأ هذه العملية بالأسرة وتستمر بالنمو مروراً بالقبيلة أو العشيرة، تعقبها مجتمعات بسيطة، وتنتهي بالمجتمعات المركبة.

وعلى ذلك يتلخص مفهوم المجتمع البشري في الفلسفة، كما عند أرسطو وابن خلدون وهيغل، في كونه ناتجاً عن طبيعة أملتها الحتميّة أو الضرورة على الإنسان، على اعتبار أنه كائنٌ اجتماعيٌّ بحاجة إلى الآخرين من بني جنسه للوصول وتحقيق غاياته ومتطلّباته. يرى ابن خلدون أنّ المجتمع الإنساني ضروري، مقتبساً رأيه هذا من الحكمة الأرسطيّة التي تقول بأن الإنسان مدني بطبعه، ولا بد له من الاجتماع ببني جنسه، ويشير ابن خلدون في هذا السياق إلى أن الحقيقة الأزلية التي ترهن بقاء الإنسان على قيد الحياة مرهونة بشرطين رئيسيين، هما: توفر طعامه وقوت يومه الذي يحتاجه جسده للاستمراريّة في الحياة والنمو. كذلك قدرته على مواجهة الأخطار والدفاع عن نفسه، بالشكل الذي يضمن سلامة حياته من أي تهديدٍ يحيط بها. ولن يتوافر هذان الشرطان إلا عن طريق الاجتماع والتجمّع، وعلى هذا الأساس فإنه من البديهي أن يكتسب هذا التجمع ماهية «المجتمع الإنساني» ومن البديهي أيضاً أن يوصف بذلك.

من هنا تبرز ضرورة الدولة؛ حيث يبدأ مفهوم «العمران» عند ابن خلدون في التبلور كفعل طبيعي وتلقائي، وهو ما يبرر تمييزه الدقيق بين «التوحش» و«التمدن»، أو بين «العمران البدوي» و«العمران «الحضري»، الذي يعكس - حسب الكتاب - مرحلتين متواليتين، لكنهما مختلفتان تماماً؛ الأولى اجتماع على أساس رابطة الدم والنسب، والثانية اجتماع على أساس رابطة الانتظام في إطار الدولة. وأحسب هنا أن هذا الطرح يشير ضمنياً إلى مفهوم «المواطنة»، أحد المفاهيم التي تجلت في إرساء قواعد الدولة الحديثة.

أما عن فكرة الدولة عند هيغل، فيلاحظ المؤلف أن مفهوم «العمران البشري» الخلدوني حاضر كلياً فيما يعنيه هيغل بـ«الفاعلية الروحية» للإنسان، التي تشمل كل أنشطته المادية والذهنية ونتاجاتها، قبل دخوله للحضارة، والتي تمثل مرحلتين أيضاً، ما قبل الدولة، وما بعدها.

هنا يلفت المؤلف في كتابه القيم إلى أن «هذه الموازاة تقطع بأن ظهور الدولة وعلاقتها بالحضارة عند هيغل سيرورة مشابهة لتلك التي في مقدمة ابن خلدون».

 


مقالات ذات صلة

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
كتب كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق «جدة تقرأ» عنوان معرض الكتاب 2024 (المركز الإعلامي)

الكتاب الورقي ينتصر على الأجهزة الرقمية في معرض جدة

في ظل التطور التقني والاعتماد المتزايد على الكتب الإلكترونية، حسم زوار معرض جدة للكتاب 2024 الجدل لصالح الكتاب الورقي

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق دور النشر شهدت إقبالاً كبيراً من الزوار من مختلف الأعمار (هيئة الأدب والنشر والترجمة)

«جدة للكتاب»... مزيج غني بالمعرفة والإبداع بأحدث الإصدارات الأدبية

يعايش الزائر لـ«معرض جدة للكتاب 2024» مزيجاً غنياً من المعرفة والإبداع يستكشف عبره أحدث الإصدارات الأدبية، ويشهد العديد من الندوات وورش العمل والجلسات الحوارية.

إبراهيم القرشي (جدة)

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»
TT

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون. يحمل الكتابان العنوانين «حكايات من العراق القديم»، و«ملوك الوركاء الثلاثة»، وترجمهما الإعلامي والكاتب ماجد الخطيب، المُقيم في ألمانيا. وسبق أن نُشر الكتابان في لندن سنة 2006، وجذبا انتباه القراء بصياغتهما المعاصرة التي «تُقدم النصوص الرافدينية القديمة بشكل جذاب إلى جمهور واسع خارج دائرة المؤرخين والباحثين المتخصصين»، حسب رأي الشاعر الراحل سعدي يوسف في حوار معه بمجلة «بانيبال».

صدر الكتابان في طبعة أنيقة، بالورق المصقول، وغلافين ملونين، حافظا على تصاميم ورسومات وصور الكتابين الأصليين؛ تحقيقاً لرغبة الكاتبة فران هزلتون.

تُقدم لنا الباحثة في الكتابين حكايات وأساطير من العراق القديم؛ يعود تاريخ بعضها إلى أكثر من 4000 سنة. هي قصص نقلها الخبراء الإنجليز عن الألواح الطينية المكتوبة بالحروف المسمارية مباشرة من الأرشيف البريطاني الخاص ببلاد ما بين النهرين.

تكفي نظرة إلى عدد الأساتذة الذين أسهموا في ترجمة هذه النصوص من المسمارية إلى الإنجليزية، عن الألواح الطينية القديمة، لمعرفة الجهدين، الأدبي والفني، الكبيرين اللذين بذلتهما فران هزلتون في كتابة هذه النصوص، وتنقيحها وردم الثغرات في بعضها.

واعترافاً بهذا الجهد، قدَّمت المؤلفة شكرها في مقدمة الكتاب إلى قائمة من الأساتذة هم: البروفسور ثوركيلد جاكوبسون، والدكتور جيرمي بلاك، والدكتور غراهام كننغهام، والدكتورة إليانور روبسون، والدكتور غابور زويومي، والدكتور هرمان فانستفاوت، والبروفسور أندرو جورج، والدكتورة ستيفاني دالي والبروفسور بنجامين ر.فوستر.

يحتوي الكتاب الأول «حكايات من العراق القديم» على 13 حكاية وأسطورة سومرية وأكدية، تكشف للقارئ كثيراً من جوانب الحياة في بلاد الرافدين في تلك الأزمنة الغابرة، وتوضح لنا كيف كان الناس يعيشون، وعلاقتهم بالآلهة، وجوانب تفصيلية من الحياة الروحية والثقافية في أور ونيبور وأرتاتا وأريدو وكيش وشوروباك... إلخ.

كتبت الباحثة في تاريخ العراق القديم، ستيفاني دالي، في مقدمة الكتاب قائلة: «تخبرنا هذه الحكايات بالكثير عن المجتمع في ميزوبوتاميا في بواكيره الأولى. يحكم الملك الجالس على عرشه في القصر بصولجان يرمز إلى سلطته، ويبعث رسله للحوار حول صفقات تجارية، تعززهم تهديدات باستخدام القوة. كان الملوك والآلهة ما انفكوا يقيمون على الأرض، لأنهم لم ينسحبوا بعد إلى السماء، وكانت شهيتهم -وغضبهم ومتعتهم بالطعام والشراب، ورغباتهم وغرورهم- مماثلة لمثيلاتها بين الفانين، رغم أن معبوداً فقط قادر على تقرير مصائر المدن، والتصرف بصفته راعياً للملك في هذه المدينة أو تلك».

يتناول الكتاب الثاني قصص ملوك الوركاء الثلاثة إينْمركار ولوغالبندا وجلجامش؛ أي الجد والأب والحفيد. تحكي قصة إينمركار كيف أن هذا الملك أخذ حفنة من الطين النقي في يده وعجنه على شكل لوح، ثم سطر عليه رسالته إلى أينسوغريانا ملك مدينة أرتاتا الواقعة في الجبال القريبة (ربما إيران). هي أول إشارة في الأدب المكتوب إلى «كتابة رسالة»، ويعتقد العلماء، لهذا السبب، أن الكتابة اكتشفت في زمن هذا الملك.

ومن اللافت أيضاً في الكتابين التماثل الغريب بين بعض هذه الحكايات وحكايات «ألف ليلة وليلة»، رغم الفارق الزمني الكبير بين الاثنين. موضوعات السحر والآلهة، والسرد على لسان الطير، والطيران على ظهر نسر ومؤامرات النساء والخدم... إلخ. وتسرد إحدى القصص يوم نزول إنانا (عشتار) إلى الأرض، وقضاء ليلتها مع الملك، ومن ثم تصف الموكب الذي يجتاز شارع الموكب وبوابة عشتار، على هذا النحو:

«يظهر في البداية الفتيان الوسام، الذين يزينون شعورهم المصففة بالأطواق، ثم تأتي العجائز الحكيمات، فترافق الملك أكثرهن حكمة في موكب إنانا، ثم يأتي الطبالون يقرعون الطبول بعصي مقدسة، ويستعرضون في الموكب لإنانا. ثم يأتي الجنود بسيوفهم وحرابهم المشرعة يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم يأتي أولئك الذين عباءاتهم بوجهين أحدهما أنثوي والآخر ذكري، يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم يأتي أولئك الذي يتنافسون في الدوران والالتفاف والمناورة بمباخر من كل الألوان، يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم يأتي الأسرى مقيدين بأطواق العنق الخشب ينشدون نشيدهم، يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم تأتي بنات المعابد بشعورهن المتوجة، يستعرضن في الموكب لإنانا، ثم يأتي الكهنة يرشون الدم يميناً ويساراً من خناجر مغموسة بالدم، يستعرضون في الموكب لإنانا».

بأسلوب سلس؛ يجمع بين الفكاهة والمفارقة، يُقدم الكتابان حكايات وأساطير من تاريخ العراق القديم، شكّلت جذباً لجمهور واسع من القراء خارج دائرة المؤرخين والمختصين.

يشار إلى أنه بالتعاون مع جمعية «ZIPAG» سردت فيونا كولينز وتارا جاف وبديعة عبيد هذه القصص في كثير من الأمسيات التي أقامتها جمعية «إنهدوانا» في بريطانيا. وترى الناقدة ستيفاني ديلي، من معهد الاستشراق البريطاني، أن هذه الحكايات السومرية تمتعت بالقدرة على إسعاد قراء العصر الحديث بفكاهاتها ومفارقاتها ورؤيتها البراغماتية لأفعال الخالدين والفانين، التي يشتبك فيها الخير والشر. وتتساءل: كانت استجابة الجمهور الحديث مدهشة، رغم فارق العصور والثقافات الهائل، كيف يمكننا تفسير هذا التعاطف الذي يتجاوز كل الحدود؟ تكمن بعض الأجوبة في الثيمة الأساسية، التي تتعلق بالحياة والموت المُعبر عنها في الاستعارة الأسطورية؛ حيث تجسد الآلهة قوى الطبيعة، مثل الخصوبة والعقم والدهاء والغباء.

كتبت فران هزلتون في مقدمة الكتاب أن النسخة الأولى من «حكايات من العراق القديم صدرت سنة 2006، وكانت إشادة بأسلافنا الثقافيين المشتركين: قصصيي العراق القديم. ستسهم هذه الطبعة، كما أتمنى، في الإشادة ليس بحكواتيي العراق القديم فحسب، وإنما أن تصبح أيضاً أداة بيد الذين ارتضوا تحدي أن يصبحوا ساردي حكايات رافدينية حديثين».