دانييل دينيت... التفكير مهنة حياتي

يرى الفلسفة وسيلة للكشف عن التماثلات بين كل الحقول المعرفية

دانييل دينيت... التفكير مهنة حياتي
TT

دانييل دينيت... التفكير مهنة حياتي

دانييل دينيت... التفكير مهنة حياتي

ليست معرفتي بالفيلسوف دانييل دينيت Daniel Dennett بعيدة؛ إذ لا أحسبها تزيد على 10 سنوات، والغريب أنّ هذه المعرفة لم تأتِ من بوّابة القراءات الفلسفية التقليدية، بل عبر بوابة البحث في الخلفيات الفلسفية لموضوعة الوعي Consciousness ومتفرّعاته الكثيرة التي يشكّل الذكاء الاصطناعي أهمّ مَعْلَمٍ معرفي وعملي لها. أستطيعُ القول إنّ معرفتي بالفيلسوف دينيت وثلّة من رفقاء مماثلين له في نمط التفكير الفلسفي (من أمثال تشارلس تايلور وديفيد دويتش...) هي التي جعلتني أعتقد برسوخ أنّ الفلسفة في عصرنا الحالي لا يمكن وُلوجها بطريقة عملية منتجة إلّا من بوّابة العلم (الذكاء الاصطناعي والفيزياء والعلوم العصبية وعلم النفس الإدراكي خاصة)، وبغير هذا سنبقى ندور في أفلاك التقليد غير المنتج.

أحب عادة عند التفكّر في أيّ موضوع حيوي ذي أهمية راهنة (مثل الذكاء الاصطناعي) التفكير في 3 أركان له؛ سياقه التاريخي، وخلفيته الفلسفية، والسير الذاتية لآبائه المؤسسين. فيما يخصُّ دانييل دينيت قرأت قبل بضع سنوات مادة مطوّلة لسيرة ذاتية مختصرة له، نشرها في 3 أجزاء من المجلة المرموقة «Philosophy Now»، وفيها ذكر جوانب عن ولادته وعمل أبيه في بيروت خلال الحرب العالمية الثانية. لم تكن قراءة هذه السيرة الذاتية المختصرة عملاً يسيراً، لأنّ دينيت يميل للمداخلة بين الشخصي والعام، وبين المثابات الفكرية العالية والمعيش اليومي؛ لكنّي أيقنتُ أنّ الرجل لا بدّ أن ينشر سيرة ذاتية مطوّلة له في يوم ما (هو يحبّ المطوّلات في كلّ أعماله ولا يكتفي بنتف موجزة)، وقد فعل الرجل ونُشِرَت هذه السيرة مؤخراً (يوم 3 أكتوبر - تشرين الأوّل) تحت عنوان «حياةٌ عشتها في التفكير I've Been Thinking». السيرة هذه ضخمة (464 صفحة)، ونشرتها دار نشر نورتون العالمية.

***

دانييل دينيت فيلسوف وكاتب وعالِم إدراكي أميركي ولِد عام 1942 في مدينة بوسطن بولاية ماساتشوستس الأميركية، وتركّز أبحاثه على فلسفة العقل وفلسفة العلم والفلسفة البيولوجية بقدر ما ترتبط هذه المباحث المعرفية بالبيولوجيا التطورية والعلوم الإدراكية. يوصَفُ دينيت في العادة بأنه واحد من جماعة «الأحصنة الأربعة» التي تضمه مع كل من؛ ريتشارد دوكنز، سام هاريس، كريستوفر هيتشنز.

قضى دينيت شطراً من طفولته في بيروت - لبنان، خلال الحرب العالمية الثانية، حيث كان أبوه يعمل عميلاً للاستخبارات المضادة في مكتب الخدمات الاستراتيجية، تحت غطاء الملحق الثقافي في السفارة الأميركية بلبنان، وعندما بلغ دينيت الخامسة من عمره رجعت به أمه عائدة إلى الولايات المتحدة بعد أن قضى أبوه في حادثة تحطم طائرة مجهول الأسباب، وقد كتب لاحقاً أنّ المرة الأولى التي تعرّف فيها على مفهوم الفلسفة حصل عندما انضم إلى معسكر صيفي وهو بعمر الحادية عشرة؛ إذ قال له المسؤول الأعلى عن المعسكر: «أتعلم ما أنت، دانييل؟ أنت فيلسوف!!».

حصل دينيت على شهادة البكالوريوس في الفلسفة من جامعة هارفارد عام 1963 حيث درّسه هناك دبليو. في. كواين W. V. Quine، ثم حصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة أكسفورد تحت إشراف غلبرت رايل Gilbert Ryle. يصف دينيت نفسه بأنه شخص يميل للتعلم الذاتي autodidact، أو بشكل أكثر دقة يرى في نفسه المستفيد الأعظم من مئات الساعات التي قضاها في الحوارات والدراسات غير الشكلية التي انكبّ عليها في مختلف الفروع المعرفية، على يد أمهر العلماء وألمعهم، الأمر الذي راق له كثيراً وأفعم روحه بالبهجة والمتعة معاً.

حصل دينيت على كثير من الجوائز، كما ألف كثيراً من الكتب، أذكر منها...

«العواصف العقلية... مقالات فلسفية في العقل والسيكولوجيا» 1981، و«فكرة داروين الخطيرة... التطوّر ومعاني الحياة» 1996، و«أحلام لذيذة... معضلات فلسفية أمام علمٍ للوعي» 2005، و«من البكتيريا إلى باخ والعودة ثانية... تطور العقول» 2017.

أظنُّ أنّ أعمال دينيت متطلبة عسيرة على القراءة، وهي نخبوية بامتياز ولا يمكن أن تكون قراءة سياحية عابرة، وربما هذا ما يفسّرُ سبب قلّة ترجماته إلى العربية.

***

اختار دينيت أن يكتب سيرته في 4 أجزاء. يبدأ دينيت كتابه بمقدّمة تمهيدية ذات عنوان مثير «دان المحظوظ»، ثمّ ينطلق في الجزء الأول للحديث عن طفولته، وتأثير الموسيقى في نشأته، وانضمامه لجماعة ويسليان ومن ثمّ هارفارد بين عامي 1959 – 1963، ثمّ دخوله أكسفورد بين عامي 1963 – 1965، ثمّ اكتشافه طريقته الخاصة لكي يصير المرء فيلسوفاً. في الجزء الثاني من الكتاب يفردُ فصولاً مستقلة لكلّ من عمله في جامعة كاليفورنيا (1965 – 1971)، وسنة قضاها في هارفارد عرف خلالها الفيلسوف جيري فودور، ثمّ يتحدث عن السياسة في أجواء جامعة تافتس Tufts، ثمّ انخراطه في الدراسات السلوكية وعلوم الدماغ. الجزء الثالث من الكتاب أفرده دينيت للحديث عن الخلفيات التاريخية والفكرية التي دفعته لنشر كتبه الكثيرة. الكتب الرصينة ليست منتجات تأتي عفو الخاطر، بل بعد مساءلات وتفكّر، وخاصة في الموضوعات الكبرى (مثل طبيعة الوعي وتفكير الآلة وثنائية العقل – الجسد)، وسيكون من المثير دوماً أن نستمع إلى الكاتب – الفيلسوف وهو يشرح لنا تضاريس الخريطة الفكرية التي دفعته إلى كتابة كتبه. أما الجزء الرابع من السيرة الذاتية فقد خصّصها دينيت للحديث عن المعارك الأكاديمية التي خاضها، وفي مقدّمتها مساجلته الشهيرة مع الفيلسوف ريتشارد رورتي بشأن تاريخ الفلسفة.

أعمال دينيت متطلبة عسيرة على القراءة، وهي نخبوية بامتياز ولا يمكن أن تكون قراءة سياحية عابرة، وربما هذا ما يفسّرُ سبب قلّة ترجماته إلى العربية

كما قلت، دينيت فيلسوف متطلّب وقراءته ليست يسيرة حتى لو كانت سيرة ذاتية، لكنّ كلّ من له ذائقة فلسفية وبعض المعرفة الأولية بمباحث الذكاء الاصطناعي ونظرية المعرفة وعلم النفس الإدراكي سيجد لذّة كبرى في قراءة هذه السيرة، وسيخرج منها بحقيقتين شاخصتين...

الأولى؛ يرى دينيت في الفلسفة وسيلة للكشف عن حقيقة التماثلات بين كل الحقول المعرفية. تلك التماثلات التي قد تستعصي رؤيتها بوضوح كافٍ على المشتغلين في كل حقل معرفي على حدة. ذلك واحد فحسب من بين أدوارها الكثيرة. الحياة قصيرة ومعقدة للغاية، وليس بإمكان الناس فعل كل ما يشتهون، وأحدُ أهم الأشياء التي يعانون في الوفاء بها هو رؤية الكيفية التي يتناغم فيها حقل اختصاصهم مع الصورة المعرفية الشاملة. ثمة دوماً إشكاليات في السطح البيني بين الاختصاص الضيق والصورة الشاملة. إن واحداً من أنبل أهداف الفلاسفة هو إنجاز هذا الأمر بطريقة أكفأ وأفضل مما يفعله الآخرون، وهذا ليس بالدور الأوحد للفلاسفة، غير أنه الدور الذي يتعامل معه دينيت بأكبر قدر ممكن من الجدية والتكريس الواجب.

الثانية؛ يعتقد دينيت أن نطاق الفلسفة ينبغي أن يعمل على الأسئلة الأساسية الجوهرية للغاية التي لم تنضم بعد إلى حقل معرفي محدد؛ إذ إنك في اللحظة التي تمتلك فيها رؤية واضحة بشأن تلك الأسئلة الجوهرية، وقيمة ما قد يرقى ليكون جواباً مناسباً لها، تكون حينئذ غادرتَ عالم التفكّر الفلسفي وولجتَ مملكة العلم العتيدة.

ويوجز دينيت رؤيته الفلسفية بهذه العبارات المثيرة التي تصلح خاتمة مناسبة لسيرته الذاتية (الفكرية):

«إن الشيء الوحيد الذي أراه مستوجباً للنظر والتفكير بشأن طريقتي الخاصة في تناول الموضوعات الفلسفية هو رغبتي في إظهار كم هي عزيزة وثمينة تلك الكينونات التي تقع في الجانب المقابل لِطَيْفِ المادية الخشنة (وأعني بتلك الكينونات أشياء مثل؛ العقول، الذوات، الرغبات... إلخ)، وكم أنّ مكانة تلك الكينونات لم تخفت في العالم المادي.

إن ما أفعله في مشاكساتي الفلسفية ليس سوى القول؛ حسناً، دعونا نتخذ سبيل التفكير الفلسفي الجاد، وحينها فإننا بدلاً من بلوغ تخوم المملكة الديكارتية التي تضمّ العقول إلى جانب الأرواح في مملكتها السرمدية فإننا يمكن أن نعيد وضع العقل في مكانته الخليقة به في العالم الذي نعيشه، وإن مسعاي هذا ليس سوى طريقة محددة في النظر إلى كينونات مادية محددة، وأظن أن طريقة النظر هذه تمتلك فعلاً مُوحّداً عظيم الشأن».


مقالات ذات صلة

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
كتب كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق «جدة تقرأ» عنوان معرض الكتاب 2024 (المركز الإعلامي)

الكتاب الورقي ينتصر على الأجهزة الرقمية في معرض جدة

في ظل التطور التقني والاعتماد المتزايد على الكتب الإلكترونية، حسم زوار معرض جدة للكتاب 2024 الجدل لصالح الكتاب الورقي

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق دور النشر شهدت إقبالاً كبيراً من الزوار من مختلف الأعمار (هيئة الأدب والنشر والترجمة)

«جدة للكتاب»... مزيج غني بالمعرفة والإبداع بأحدث الإصدارات الأدبية

يعايش الزائر لـ«معرض جدة للكتاب 2024» مزيجاً غنياً من المعرفة والإبداع يستكشف عبره أحدث الإصدارات الأدبية، ويشهد العديد من الندوات وورش العمل والجلسات الحوارية.

إبراهيم القرشي (جدة)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.