حفريات ثقافية في التراث العربي عن «الطعام والكلام»

«عمل المؤلف على طبخها على نار هادئة لتصير مأدبة علمية مفيدة»

حفريات ثقافية في التراث العربي عن «الطعام والكلام»
TT

حفريات ثقافية في التراث العربي عن «الطعام والكلام»

حفريات ثقافية في التراث العربي عن «الطعام والكلام»

صدر، أخيرا، للباحث والأكاديمي المغربي سعيد العوادي، عن دار النشر (أفريقيا الشرق)، بالدار البيضاء، كتاب جديد تحت عنوان «الطعام والكلام... حفريات بلاغية ثقافية في التراث العربي».

ويقول المؤلف إن مقاربته للموضوع أفضت إلى تقديمه للقارئ في أربعة أطباق «لعلها تفتح شهيّته وتستحثّ إقباله»، وهي «حقل الطعام: بين ضيافة الدنيا وضيافة الآخرة»، و«جسور الطعام: من الطعام البلاغي إلى الطعام البليغ»، و«شعرية الطعام: القِرى والمأكول والمشروب»، و«نثرية الطعام: الموهوب والمنهوب والمرهوب».

وتناول العوادي في الطبق الأول وجبة اصطلح عليها بـ«حقل الطعام»، متنقلا من ضيافة الدنيا إلى ضيافة الآخرة. وللكشف عن مميزات ضيافة الدنيا اعتمد المرجع المعجمي للوقوف على دلالات فعلين مركزيين في ممارستي الأكل والشرب، هما: أَكَلَ وشَرِب. ثم مضى يرصد رحلة الطعام، ومرافقته للإنسان في حياته وموته مؤثثا للطفرات النوعية في مسيرته، وصولا إلى الحديث عن تقابلات الطعام داخل الحياة الاجتماعية والثقافية العربية، على اعتبار أن «الطعام لبنة أساس داخل المعمار الحضاري العربي»، فرأى «انسلاكه في التعبير عن المحاسن والمساوئ التي تعاقد عليها المجتمع، وتحوّله إلى أداة للتعبير عن قناعة فكرية»، فاكتشف أن «تراثنا سبّاق إلى الاحتجاج بما يسمى الإضراب عن الطعام»، كما التمس الخصوم المحاصرون في مشاركة الطعام شكلا من رابطة النحو ومنجاة من الأذى المفترض. بل وُظّف الطعام آلية هوياتية دفاعية وهجومية تحاجج لنصرة الذات الفردية والجماعية في معترك الصراع الداخلي مع ذوات شبيهة أخرى، فلاحظنا اعتماد الأفراد والقبائل على سلاح «المعايرة بالطعام» لتشويه سمعة شخصيات دينية وسياسية أو قبائل مناوئة. وكذلك انخرط الطعام في معترك الصراع الخارجي مع أمم مخالفة أخرى، فرأينا استناد الحركتين الشعوبية والعروبية إليه في صراعهما المعروف. أما فيما يتعلق بضيافة الآخرة، فقد تناول الحضور الطعامي في القرآن الكريم والحديث الشريف، متجاوزا البحث في ثنائية الحلال والحرام ذات البعد الفقهي التي انحصرت فيها قراءة القدماء والمحدثين، إلى اقتحام آفاق جديدة أخرى، مستهديا بالمقاربة البلاغية، التي جعلته يلتفت إلى الإعجاز الطعامي بوصفه وجها مبعدا من وجوه الإعجاز القرآني.

وقدّم العوادي، في الطبق الثاني، وجبة وسمها بـ«جسور الطعام»، عمل فيها على الانتقال من الطعام البلاغي إلى الطعام البليغ، فعالج في نقطة الانطلاق قضية بالغة الأهمية لدى المعنيين بالطعام من جهة، والبلاغة من جهة أخرى؛ حيث بحث عن آثار الطعام في النظرية البلاغية في مستوييها المصطلحي والشاهدي، وكشف القناع عن «المرجعية الطعامية في مصطلح البلاغة»، فوجد «صلات غائرة تربط مصطلح البلاغة بالتبلغ الأكلي، ومصطلح الفصاحة باللبن الصافي، ومصطلح الاستعارة باستعارة الأواني المطبخية، ومصطلح الذوق بتذوّق المآكل والمشارب. أما في الطبق الثالث، فتطرق للطعام بوصفه مادة شعرية»، اعتنى بها الشعراء، فقسّم الموضوع على ثلاثة أقسام، بسط فيها القول في تيمة قرى الأضياف عند الشعراء، فألفاها تتأسس على «تجاذب» عناصر مساعدة (اليفاع، والكلب، والنار، والناقة) وعناصر معيقة (الليل، والقر، والزوجة)، وبدا له أن «خطاب المرأة الداعي إلى الوسطية وحسن التدبير أكثر تعقّلا من خطاب الرجل الداعي إلى إفناء المال وسوء التبذير». كما درس نصوصا مختلفة لشعراء تفنّنوا في صفة الأطعمة والأشربة، ووقف عند ريادة ابن الرومي والمأموني في هذا الباب الشعري اللطيف، ثم تابع المسير صوب شعر الشراب، لبيان علاقة هذا الخطاب باختراق السلط المختلفة. وتوسع على مستوى الطبق الرابع، في تجلية «تشكّلات الطعام» داخل نصوص الأخبار والخطب والرسائل والمناظرات والمقامات من خلال التركيز على الثالوث الطعامي: الكريم، والطفيلي، والبخيل، المنتج لضروب ثلاثة من الطعام هي على التوالي: الطعام الموهوب، والطعام المنهوب، والطعام المرهوب.

وقد تتبع الطعام الأول في النثر الفني، والنثر الإرشادي (كتاب «آداب المؤاكلة» للغزي)، والنثر العلمي (كتب الطبيخ). وعرض للطعام الثاني من خلال «استجماع فلسفة التطفيل، ورصد محكي التطفيل بالبحث في بنيته السردية ومغالطاته الحجاجية والتناصية»، فبدا له أن «التطفيل رؤية طعامية للعالم» تهدم عالم الكرم وتبني عالما بديلا.

وانتهى مسيره عند «الطعام المرهوب» مع البخلاء الذين حاولوا، على غرار الطفيليين: «هدم مفهوم الكرم الهشّ، وبناء مفهوم مغالطي يدعو إلى الاقتصاد والإصلاح». ثم حاول «تجميع عناصر متفرقة لتشكيل صورة طعام البخيل، وما يسيّجه به من حيل متنوعة لصيانته عن الأكَلة المتلصّصين».

في «تحلية» كتابه، يخبرنا العوادي أن «الكتابة محض عملية طبخ تامة ومتكاملة لمواد معرفية منتقاة، يستعمل فيها الكاتب الطاهي بهارات لغوية ومنهجية بخبرات مخصوصة، بغاية تقديمها إلى قارئ نهم متلهّف باستمرار إلى كل ما لذَّ وطاب». وهكذا، و«اندماجا مع هذه التعليمة»، يضيف العوادي: «جمعنا مكونات معرفية كثيرة من حقل التراث العربي الواسع والمتداخل، ثم عملنا على طبخها على نار هادئة لتصير مأدبة علمية مفيدة، ثم قدَّمناها إلى القارئ الكريم في أربعة أطباق رئيسية، مسبوقة بمُفَتِّحة، ومختومة بتحلية»، ليخلص إلى النتائج العامة للأطباق الأربعة التي انتظمت ضمن وليمة اصطلح عليها بـ«الطعام والكلام»؛ لكون «هذا الكتاب ظل معنيا بإبراز العلاقة بين الطعام والكلام وفق منظور بلاغي ثقافي منفتح على مقاربات نسقية وسياقية؛ حيث لم يبتعد الكتاب قيد أنملة عن أثر الطعام في الكلام، بما يمدّه من تعبيرات مجازية ورمزية تبني جسورا من التفاعل مع محيطنا الواسع، وعن أثر الكلام في الطعام حين يصبح حاملا له ومعبّرا عنه كما في حالة الطعام التراثي الذي أوصلته لنا موائد اللغة».

في «مُفتِّحة» الكتاب، يهيئ العوادي قارئه لثنائية «الطعام والكلام» في عنوان كتابه، بداية بحمد الله الذي «أفاض علينا بألوان الشراب وصنوف المأكولات، وميّزنا باستعمال الكلام وابتداع الاستعارات، ومنحنا عقلا وذوقا يمزج المفردات بالطيبات، فنجمّل أطباقنا ببديع المشتهيات، ونزيّن كلامنا بلذيذ العبارات»، مع «الصلاة والسلام على أشرف المخلوقات، الناطق بمستحلى اللغات، صاحب المكرمات، والمبشر بالجنات»، مع إشارته إلى أن التداعي الأول الناتج عن قراءة مفردتي «الطعام» و«الكلام» في عنوان الكتاب قد يكون من أن «العلاقة بينهما لا تعدو أن تكون علاقة صوتية بديعية»، فيما «الواقع أن بينهما من الصلات المتوثقة ما يتجاوز الصوت إلى المعنى اللغوي والدلالة الحضارية؛ فليس من التوافق الساذج أن تلتقي اللفظة واللقمة في فم الإنسان، فتلفظ الأولى إلى الخارج، وتلقم الثانية لتستقر في الداخل. إنها علاقة خلافية يحيا بها الكائن الإنساني، فالطعام حصنه المادي ضد الجوع والمرض، والكلام حصنه المعنوي ضد الوحدة والخواء».

وعندما يلتقي الطعام بالكلام، يتحقق الدفء الإنساني بمعانيه المختلفة في الحضارات البشرية المتعددة؛ لأن الطعام ليس مادة قصاراها أن تهضم، ولكنها مادة تسعى إلى أن تتكلّم، كما لا ينحصر دورها في بناء الذات، وإنما يمتد إلى بناء الحياة.

الكتابة محض عملية طبخ تامة ومتكاملة لمواد معرفية منتقاة، يستعمل فيها الكاتب الطاهي بهارات لغوية ومنهجية بخبرات مخصوصة

ولخص الأكاديمي والباحث والناقد محمد زهير، في تصديره للكتاب، لقيمة العمل الذي يقترحه العوادي، بقوله إن الكتب ذات القيمة تقرأ لفائدتها، وإنها إذا ضمّت إلى الفائدة الإمتاع فتلك «غاية قصوى للحظوة بمأدبتها أو مآدبها»، مع إشارته إلى أن كتاب العوادي «من هذا الصنف الجامعة مآدبه بين واسع الفائدة وروقان المتعة، باستقصائه المستفيض من وفير الكلام عن الطعام مأكوله ومشروبه في التراث العربي، سواء من جهة إضفاءات اللغة على الطعام أسماء ووسوما وصفات وتكنيات... أو من جهة ما قيل أو دوِّن عن الطعام مختصّا به أو مستعارا منه، لإنفاذ رأي وإرسال وجهة نظر... أو من جهة ما روي أو كتب عن سلوكات وأقوال مَن كانت علاقتهم بالطعام في حالات البذل أو التقتير أو الشره متخذة نمط حياة خارج المعتاد لدى العموم، ولا تخلو أحيانا من طرافة أو عجب واستغراب... فمدارات هذه الجهات على العلاقة بين الطعام والكلام، وهي علاقة تراسلات وتطعيمات واسعة شاسعة، لما لمقوم الطعام من ضرورة الحياة، ولما لفعل الكلام من ارتباط حميم بكل مجالاتها». وأن يهتم الكلام في مجال البلاغة ورحاب الثقافة كل ذلك الاهتمام الواسع بالطعام، يضيف زهير: فـ«لأن الطعام هو الدم الساري في شرايين الحياة والأساس المادي لشرط قيامها»، و«أن يرتقي الكلام في مقامات البلاغة بالخطاب عن الطعام مجردا منه صورا ومعاني تعبر عن أحوال وأهداف واختيارات، فذلك إن دلَّ على أساسية الطعام وضرورته في الحياة، فإنه من وجه ملازم يدل على أن الإنسان لا يحيا بالطعام وحده، إذ مجرى الحياة ومعناها مستدعيان لشبكة تقاطعات مادية ورمزية بها يتحرك المجرى وينبني المعنى»، مع إشارته إلى أن في كتاب العوادي «ألوانا وصنوفا عديدة من موائد الكلام المعدّة استنادا إلى موائد ومِنح الطعام، ترمي من خلالها ليس فقط العلاقة العضوية بينهما، بل وإلى ذلك تدخّل الذهن والخيال والذوق في تصنيع مأدبتي الطعام والكلام المراوحتين في مناسيب البساطة والرفاه وفق مصدر كل منهما».


مقالات ذات صلة

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

يوميات الشرق ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

لعلّه المتحف الوحيد الذي تُعرض فيه عيدان كبريت، وبطاقات يانصيب، وأعقاب سجائر... لكن، على غرابتها وبساطتها، تروي تفاصيل "متحف البراءة" إحدى أجمل حكايات إسطنبول.

كريستين حبيب (إسطنبول)
كتب فرويد

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية

د. ماهر شفيق فريد
كتب ناثان هيل

«الرفاهية»... تشريح للمجتمع الأميركي في زمن الرقميات

فلنفرض أن روميو وجولييت تزوَّجا، بعد مرور عشرين سنة سنكتشف أن روميو ليس أباً مثالياً لأبنائه، وأن جولييت تشعر بالملل في حياتها وفي عملها.

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

صدر حديثاً عن دار نوفل - هاشيت أنطوان كتاب «دليل الإنسايية» للكاتبة والمخرجة الآيسلندية رند غنستاينردوتر، وذلك ضمن سلسلة «إشراقات».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون «شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

عن دار «بيت الياسمين» للنشر بالقاهرة، صدرتْ المجموعة القصصية «شجرة الصفصاف» للكاتب محمد المليجي، التي تتناول عدداً من الموضوعات المتنوعة مثل علاقة الأب بأبنائه

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»
TT

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون. يحمل الكتابان العنوانين «حكايات من العراق القديم»، و«ملوك الوركاء الثلاثة»، وترجمهما الإعلامي والكاتب ماجد الخطيب، المُقيم في ألمانيا. وسبق أن نُشر الكتابان في لندن سنة 2006، وجذبا انتباه القراء بصياغتهما المعاصرة التي «تُقدم النصوص الرافدينية القديمة بشكل جذاب إلى جمهور واسع خارج دائرة المؤرخين والباحثين المتخصصين»، حسب رأي الشاعر الراحل سعدي يوسف في حوار معه بمجلة «بانيبال».

صدر الكتابان في طبعة أنيقة، بالورق المصقول، وغلافين ملونين، حافظا على تصاميم ورسومات وصور الكتابين الأصليين؛ تحقيقاً لرغبة الكاتبة فران هزلتون.

تُقدم لنا الباحثة في الكتابين حكايات وأساطير من العراق القديم؛ يعود تاريخ بعضها إلى أكثر من 4000 سنة. هي قصص نقلها الخبراء الإنجليز عن الألواح الطينية المكتوبة بالحروف المسمارية مباشرة من الأرشيف البريطاني الخاص ببلاد ما بين النهرين.

تكفي نظرة إلى عدد الأساتذة الذين أسهموا في ترجمة هذه النصوص من المسمارية إلى الإنجليزية، عن الألواح الطينية القديمة، لمعرفة الجهدين، الأدبي والفني، الكبيرين اللذين بذلتهما فران هزلتون في كتابة هذه النصوص، وتنقيحها وردم الثغرات في بعضها.

واعترافاً بهذا الجهد، قدَّمت المؤلفة شكرها في مقدمة الكتاب إلى قائمة من الأساتذة هم: البروفسور ثوركيلد جاكوبسون، والدكتور جيرمي بلاك، والدكتور غراهام كننغهام، والدكتورة إليانور روبسون، والدكتور غابور زويومي، والدكتور هرمان فانستفاوت، والبروفسور أندرو جورج، والدكتورة ستيفاني دالي والبروفسور بنجامين ر.فوستر.

يحتوي الكتاب الأول «حكايات من العراق القديم» على 13 حكاية وأسطورة سومرية وأكدية، تكشف للقارئ كثيراً من جوانب الحياة في بلاد الرافدين في تلك الأزمنة الغابرة، وتوضح لنا كيف كان الناس يعيشون، وعلاقتهم بالآلهة، وجوانب تفصيلية من الحياة الروحية والثقافية في أور ونيبور وأرتاتا وأريدو وكيش وشوروباك... إلخ.

كتبت الباحثة في تاريخ العراق القديم، ستيفاني دالي، في مقدمة الكتاب قائلة: «تخبرنا هذه الحكايات بالكثير عن المجتمع في ميزوبوتاميا في بواكيره الأولى. يحكم الملك الجالس على عرشه في القصر بصولجان يرمز إلى سلطته، ويبعث رسله للحوار حول صفقات تجارية، تعززهم تهديدات باستخدام القوة. كان الملوك والآلهة ما انفكوا يقيمون على الأرض، لأنهم لم ينسحبوا بعد إلى السماء، وكانت شهيتهم -وغضبهم ومتعتهم بالطعام والشراب، ورغباتهم وغرورهم- مماثلة لمثيلاتها بين الفانين، رغم أن معبوداً فقط قادر على تقرير مصائر المدن، والتصرف بصفته راعياً للملك في هذه المدينة أو تلك».

يتناول الكتاب الثاني قصص ملوك الوركاء الثلاثة إينْمركار ولوغالبندا وجلجامش؛ أي الجد والأب والحفيد. تحكي قصة إينمركار كيف أن هذا الملك أخذ حفنة من الطين النقي في يده وعجنه على شكل لوح، ثم سطر عليه رسالته إلى أينسوغريانا ملك مدينة أرتاتا الواقعة في الجبال القريبة (ربما إيران). هي أول إشارة في الأدب المكتوب إلى «كتابة رسالة»، ويعتقد العلماء، لهذا السبب، أن الكتابة اكتشفت في زمن هذا الملك.

ومن اللافت أيضاً في الكتابين التماثل الغريب بين بعض هذه الحكايات وحكايات «ألف ليلة وليلة»، رغم الفارق الزمني الكبير بين الاثنين. موضوعات السحر والآلهة، والسرد على لسان الطير، والطيران على ظهر نسر ومؤامرات النساء والخدم... إلخ. وتسرد إحدى القصص يوم نزول إنانا (عشتار) إلى الأرض، وقضاء ليلتها مع الملك، ومن ثم تصف الموكب الذي يجتاز شارع الموكب وبوابة عشتار، على هذا النحو:

«يظهر في البداية الفتيان الوسام، الذين يزينون شعورهم المصففة بالأطواق، ثم تأتي العجائز الحكيمات، فترافق الملك أكثرهن حكمة في موكب إنانا، ثم يأتي الطبالون يقرعون الطبول بعصي مقدسة، ويستعرضون في الموكب لإنانا. ثم يأتي الجنود بسيوفهم وحرابهم المشرعة يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم يأتي أولئك الذين عباءاتهم بوجهين أحدهما أنثوي والآخر ذكري، يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم يأتي أولئك الذي يتنافسون في الدوران والالتفاف والمناورة بمباخر من كل الألوان، يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم يأتي الأسرى مقيدين بأطواق العنق الخشب ينشدون نشيدهم، يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم تأتي بنات المعابد بشعورهن المتوجة، يستعرضن في الموكب لإنانا، ثم يأتي الكهنة يرشون الدم يميناً ويساراً من خناجر مغموسة بالدم، يستعرضون في الموكب لإنانا».

بأسلوب سلس؛ يجمع بين الفكاهة والمفارقة، يُقدم الكتابان حكايات وأساطير من تاريخ العراق القديم، شكّلت جذباً لجمهور واسع من القراء خارج دائرة المؤرخين والمختصين.

يشار إلى أنه بالتعاون مع جمعية «ZIPAG» سردت فيونا كولينز وتارا جاف وبديعة عبيد هذه القصص في كثير من الأمسيات التي أقامتها جمعية «إنهدوانا» في بريطانيا. وترى الناقدة ستيفاني ديلي، من معهد الاستشراق البريطاني، أن هذه الحكايات السومرية تمتعت بالقدرة على إسعاد قراء العصر الحديث بفكاهاتها ومفارقاتها ورؤيتها البراغماتية لأفعال الخالدين والفانين، التي يشتبك فيها الخير والشر. وتتساءل: كانت استجابة الجمهور الحديث مدهشة، رغم فارق العصور والثقافات الهائل، كيف يمكننا تفسير هذا التعاطف الذي يتجاوز كل الحدود؟ تكمن بعض الأجوبة في الثيمة الأساسية، التي تتعلق بالحياة والموت المُعبر عنها في الاستعارة الأسطورية؛ حيث تجسد الآلهة قوى الطبيعة، مثل الخصوبة والعقم والدهاء والغباء.

كتبت فران هزلتون في مقدمة الكتاب أن النسخة الأولى من «حكايات من العراق القديم صدرت سنة 2006، وكانت إشادة بأسلافنا الثقافيين المشتركين: قصصيي العراق القديم. ستسهم هذه الطبعة، كما أتمنى، في الإشادة ليس بحكواتيي العراق القديم فحسب، وإنما أن تصبح أيضاً أداة بيد الذين ارتضوا تحدي أن يصبحوا ساردي حكايات رافدينية حديثين».