لماذا هزم هيدغر كاسيرر بالضربة القاضية؟

«نقد العقل الخالص» يحسم أكبر مناطحة فلسفية في القرن العشرين

الفيلسوف مارتن هيدغر
الفيلسوف مارتن هيدغر
TT

لماذا هزم هيدغر كاسيرر بالضربة القاضية؟

الفيلسوف مارتن هيدغر
الفيلسوف مارتن هيدغر

في عام 1929، وبالتحديد بين 17 مارس (آذار) و6 أبريل (نيسان) جرت واحدة من أكبر المناظرات الفلسفية وأكثرها إثارة في القرن العشرين. كان ذلك في فندق دافوس الشهير الواقع في أعالي جبال سويسرا الخلابة، حيث يجتمع قادة العالم حالياً كل سنة. وقد جرت بين تصورين مختلفين للفلسفة: التصور التنويري العقلاني الكانطي الذي يمثله إرنست كاسيرر، والتصور النيتشوي البركاني الهائج الذي يمثله هيدغر. كان هيدغر وقتها في عز شبابه (40 سنة) في حين أن كاسيرر كان كهلاً قد تجاوز الخامسة والخمسين. وقد دارت المناظرة حول الفلسفة الكانطية وكيفية فهمها وتفسيرها. وزعم هيدغر أن أحداً قبله لم يفهم كتاب كانط الشهير: «نقد العقل الخالص». وهو واحد من أعقد وأصعب أربعة أو خمسة كتب فلسفية في تاريخ البشرية... وشخصياً لا أتجرأ على فتحه مجرد فتح، رغم أنه موجود على الرّف عندي منذ أكثر من ثلاثين سنة؛ لأني بصراحة عاجز عن قراءته مباشرة وفهمه. هناك شروحات رائعة عنه للفيلسوف لوك فيري، أحد كبار المختصين الفرنسيين بالفلسفة الكانطية. ثم قال هيدغر: إن كانط على عكس ما يظن الجميع لم يكن يعتقد أن المعرفة ناتجة من العقل وإنما عن الخيال الابتكاري الخلاق. فالخيال هو الذي يسبق العقل ويؤسسه وليس العكس. والقدرة الخيالية الخلاقة هي التي تشكل خصوصية الإنسان وجوهره.

الفيلسوف إرنست كاسيرر

الإنسان ليس عقلاً في البداية وإنما خيالات وشطحات وأساطير بهيجة. وهذا يعني أن الشعر يسبق الفلسفة وليس العكس. الإنسان شاعر قبل أن يكون فيلسوفاً. وهذه الفكرة تقلب رأساً على عقب الصورة التي قد نشكلها عن الإنسان والطبيعة البشرية. فإذا كان الخيال هو الذي يسبق العقل فهذا يعني أن الإنسان شاعر قبل أن يكون عالماً، وحالم قبل أن يكون مفكراً. ثم يضيف هيدغر: الإنسان غني بالعالم في حين أن الحيوان فقير بالعالم؛ لأنه محروم من ملكة الخيال والتفكير. وهذه الملكة الخيالية هي التي تجعل من الإنسان صانعاً للمستقبل وراسماً لخريطة العالم.

بعد أن انتهى هيدغر من كلامه المزلزل للقناعات الراسخة صُعق الحاضرون، ذهلوا، داخوا... ويقال بأنهم صفقوا للفيلسوف الصاعد وقوفاً. عندئذ شعر الحاضرون أن الفكر الأوروبي انعطف انعطافة حادة مع هذا المفكر الشاب الواثق من نفسه إلى حد الغطرسة والغرور. على هذا النحو انتصر الهيجان النيتشوي على العقلانية الكانطية. في الواقع أن الظروف العامة السائدة آنذاك ساعدته، كانت تمشي في اتجاهه. ينبغي العلم أن هتلر وصل إلى سدة السلطة بعد أربع سنوات فقط من حصول هذه المناظرة الشهيرة (1929 - 1933). وبوصوله إلى عرش الرايخ لم يعد لصوت العقل الراجح والمنطق الرصين مكانة في ألمانيا. بل ويمكن القول بأن أوروبا كلها دخلت في مرحلة الهيجانات الجنونية. وسوف تكون أكبر مجزرة في التاريخ: 55 مليون ضحية. من سيستمع إلى صوت العقل والمنطق والتنوير في مثل هذا الجو؟

على هذا النحو حصلت تلك المناطحة الفلسفية الكبرى بين هيدغر النيتشوي - وكاسيرر الكانطي. ويبدو أن هيدغر انتصر في خاتمتها بالضربة القاضية إذا جاز التعبير. وكان ذلك إيذاناً بصعود القوى اللاعقلانية الجامحة في ألمانيا. ربما كان ذلك تبسيطاً لمناظرة فلسفية من هذا الحجم الضخم والعلو الشاهق. وهو حتماً تبسيط. ولكن لا يمكن إهمال السياق السياسي والمناخ النفسي العام الذي جرت فيه المناظرة.

ينبغي العلم بأن دافوس، هذه القرية السويسرية الصغيرة القابعة في رؤوس الجبال، كانت ملتقى مشاهير الأنتلغنسيا الأوروبية قبل أن تصبح لاحقاً ذلك الملتقى العالمي الضخم الذي نعرفه حالياً والذي يجتمع فيه كبار قادة العالم من ملوك ورؤساء وشخصيات رأسمالية وعولمية تقرر مصير العالم. وكانت منتجعاً للصحة والعلاج، حيث الهواء النقي والمياه العذبة المتدفقة... وهل هناك أجمل من مناظر سويسرا؟ متى سأعود إلى مشاويري الصباحية على ضفاف بحيرة «نيوشاتيل» هناك، حيث التجأ جان جاك روسو يوماً ما هارباً من ملاحقيه الأشاوس الذين حرقوا أنفاسه حرقاً. لحسن حظه أنه لم يكن يوجد إنترنت في وقته وإلا لكانوا قد اخترقوا جهازه الإلكتروني وقرأوا «إيميلاته» يومياً مثلما يقرأها هو أو حتى قبل أن يقرأها! ثم يتصرفون على هذا الأساس. شيء مخيف. شيء مرعب. جُنت الناس. هاجت الوحوش الضاريات. خرجت من جحرها فجأة دفعة واحدة. لكن، تبقى دافوس التي في ظلالها كتب توماس مان روايته الشهيرة: «الجبل السحري»، وجاء إليها ألبرت أينشتاين لكي يشرح للمثقفين الأوروبيين معنى نظرية النسبية التي دوخت العالم؟ وهل نعلم بأن فكرة «العود الأبدي أو التكرار الأبدي للشيء ذاته» خطرت على بال نيتشه في تلك الجبال الشاهقات كالإلهام الصاعق فقصمت ظهره وطرحته أرضاً؟

هذا، وقد تنادت الصحافة الألمانية والأوروبية من كل الجهات لحضور ذلك اليوم المشهود: يوم المصارعة الفلسفية الحرة بين هيدغر - وكاسيرر. وقد يدهشنا ذلك الآن إذا ما علمنا أن موضوع المناظرة كان ناشفاً متقشفاً إلى أقصى الحدود: «ميتافيزيقا كانط أو الميتافيزيقا الكانطية».

يضاف إلى ذلك، أن كلا المتصارعين كان نجماً من نجوم الفكر الألماني آنذاك. فإرنست كاسيرر (1874 - 1945) غير المعروف كثيراً في العالم العربي كان سيداً من أسياد الفكر. وكانت تحيط به هالة من العظمة والمجد نظراً لمكانته الأكاديمية العالية في الجامعات الألمانية. وعلى وجه الخصوص لمؤلفاته الكبرى. كان إرنست كاسيرر كانطياً عقلانياً تنويرياً بشكل محض. كان يمثل فلسفة الأنوار في أعلى ذراها تألقاً. كان زعيماً لمدرسة ماربورغ: وهو تيار فلسفي يمثل الفلسفة الكانطية الجديدة. كان كاسيرر من أتباع النزعة الإنسانية، ومن أنصار الفلسفة الهادفة إلى تغليب سلطة العقل ولغة المنطق. أما هيدغر فكان نيتشوياً متفجراً يتحدث بلغة الجبال الشاهقات والوديان السحيقات. بل كان يقول بأن الإنسان شاعر قبل أن يكون عالماً أو فيلسوفاً. ابتدأ كاسيرر الأكبر سناً المناظرة بروح منفتحة، متسامحة، متصالحة. أما هيدغر فرد عليه فوراً بلغة صارمة، قاطعة، متغطرسة. وربما لهذا السبب انتصر عليه في ختام المناظرة. وهو انتصار لم يقم منه كاسيرر بسهولة. لقد تأثر نفسياً وانكسر. أصابه الهم والغم. كانت هزيمة فلسفية كبرى أمام الناس كلهم. لقد صرعه هيدغر بالضربة القاضية. نقول ذلك وبخاصة أن المناظرة جرت أمام نخبة النخبة وصفوة الصفوة من كبار مثقفي سويسرا وفرنسا وألمانيا، بل وأوروبا كلها. هل يمكن القول بأن عهد العقل المتوازن الرصين انتهى وابتدأ عهد الخيال الجنوني الجامح الذي ينتهك المحرمات؟ ربما. يكفي أن ننظر إلى هتلر وهو يخطب بكل عصبية وهيجان جنوني لكي نتأكد من ذلك. فهل سبقت فلسفة هيدغر صعود هتلر؟ هل رافقتها ومهّدت لها الطريق؟ سؤال لا يمكن تحاشيه. ولكن من الظلم أن نختزل فلسفة مفكر ضخم كهيدغر إلى مجرد البعد النازي. فأكبر فيلسوف في القرن العشرين كان أعمق من ذلك وأكبر بكثير.

أخيراً، يمكن القول إن كاسيرر وهيدغر، كانا على حق. فالتصوران اللذان قدماهما عن الإنسان والعالم متكاملان في الواقع لا متعارضان. لأن الإنسان شخص منقسم على نفسه، منشق على ذاته. إنه مشكل في أعماقه من تيار المنطق المتوازن، وتيار الخيال الخلاق، من تيار العقل وتيار الجنون، من تيار الشعر وتيار النثر. والسؤال المطروح الآن هو: هل يمكن أن يعقل العالم قبل أن يشبع جنوناً؟ هل يمكن أن يهدأ قبل أن يقذف بكل ما في أحشائه من أحقاد تاريخية؟ هل يمكن أن تسكن لواعج التاريخ قبل أن يصفي حساباته ومظلومياته وعذاباته؟ هل يمكن أن تهدأ قبل أن تتحقق عدالاته؟ هذه هي الأسئلة المطروحة على العالم حالياً. والجواب عليها لن تجدوه عند هيدغر ولا عند كاسيرر ولا حتى عند كانط. الجواب موجود عند هيغل وكتابه الشهير: دروس حول فلسفة التاريخ!



«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية
TT

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية

فضاءات ومحاور بحث معمق، متخصصة في عوالم التعايش والتناغم المتأصلة والمؤتلِقة ضمن مجتمع دولة الإمارات العربية المتحدة، يناقشها ويقاربها كتاب «التسامح في الإمارات... سيرة جديدة وضّاءة للأخوة الإنسانية (شهادات وقصص بطلها الآخر)»، للصحافي والباحث السوري رفعت إسماعيل بوعساف، الصادر، أخيراً، عن دار «ميتافيرس برس» للنشر. ويعرض المؤلِّف أبرز شواهد تآلف وتقارب حضارات وأديان وثقافات، موضحاً أهم المقومات التي امتازت بها وعلى رأسها: تجذّر التواصل والانفتاح في المجتمع، وتمسك قادة الإمارات بالقيم الإنسانية، وسماحة أهلها واتسامهم بالوسطية والاعتدال، والمشروعات والمبادرات النوعية الكفيلة بترسيخ التسامح محلياً وعالمياً (مثل: وثيقة الأخوة الإنسانية، وبيت العائلة الإبراهيمية، ووزارة التسامح، والمعهد الدولي للتسامح، والأعمال والمبادرات الخيرية المتنوعة).

يتضمن الكتاب، الواقع في 411 صفحة، على أربعة أبواب رئيسية، وخاتمة تضم مقترحات وتوصيات. وتناقش فصوله جوانب كثيرة شاملة يُجمل فيها بوعساف، وعبر سير مشاهداته ومعايشاته في الإمارات طوال أكثر من 20 عاماً، وكذا في ضوء خلاصات أبحاثه الخاصة بالدراسة، مصادر وينابيع جدارة وتميز مجتمع الإمارات في مدارات التّسامح، مبيناً في مستهلّ إضاءاته الأبعاد والجذور التاريخية لحكاية التسامح في هذه الأرض، في المحطات والأزمان كافّة، طبقاً لأسانيد وتدوينات تاريخية جليّة، فأهلها لطالما تميزوا بكونهم يحتفون بالآخر المختلف عنهم ويرحبون به ولا يرفضونه أو يعزلون أنفسهم عنه، وهكذا ضمّوا وحضنوا بين ظهرانيهم أفراداً من أعراق ومذاهب شتّى بقوا يبادلونهم الحب ويتأثرون ويؤثّرون بهم، ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً. ويستعرض المؤلف عقبها، حقائق فاعلية وإثمار مساعي وبرامج دولة الإمارات العربية المتحدة، الرامية إلى تعزيز التقارب بين الأديان وأطياف الإنسانية... وكذا إطفاء ألهبة أزمات الهُويات، واستئصال أسباب الصراعات المذهبية وقطع دابر التعصب. ثم يدرس ويحلل ماهيات أعمدة وتجليات التسامح والتعايش في ميادين الحياة بالإمارات: المجتمعية والصحية والتعليمية والثقافية والاقتصادية والقانونية والإعلامية. ويقدم، أيضاً، جملة شهادات وإشادات لأبرز السياسيين ورجالات الدين والبحاثة والكتّاب الأجانب حول ثراء الإمارات بقيم الانفتاح والتعايش والتواصل، ومنهم: الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومسؤولون أمريكيون، ونجم الكرة الأرجنتيني الراحل دييغو مارادونا، والروائي البرازيلي باولو كويلو، ونجم بوليوود شاروخان، وعالم النفس والباحث الكندي البروفسور إدوارد دينر. كما يُفرد الكتاب محطات موسَّعة لشرح طبيعة وقيمة حصاد جهود الدولة ومبادراتها ورؤى قادتها، الضامنة تمكين وتقوية هياكل ومرتكزات التسامح والتآخي الإنساني في مجتمع الإمارات والعالم أجمع، التي تكللها أعمال ومشروعات عمل خيري وإنساني ترصد لها الإمارات ميزانيات ضخمة، تطول أصقاع الأرض قاطبةً ولا تميز فيها بين دين أو إثنية أو طائفة.

ويحفل الباب الرابع في الكتاب، الموسوم «حوارات وسيمفونية»، بحوارات وأحاديث مع رجال دين ومسؤولين ومثقفين وأطباء وإعلاميين ومهندسين ومبدعين، بعضهم يقيم في الدولة منذ أكثر من 60 عاماً، يروون فيها حقائق ومواقف كثيرة، بشأن التسامح وواقع انفتاح المجتمع وقبوله الآخر المختلف ورسوخ التعايش والمحبة فيه. وتضم قائمة هؤلاء المحاورين: أحمد الحَدَّاد، مفتي دبي وعضو «مجلس الإمارات للإفتاء»، وبول هيندر، أسقف الكنيسة الكاثوليكية في جنوب شبه الجزيرة العربية (2004-2022م)، وراجو شروف، رئيس معبد «سندي غورو دربار» الهندوسي، وحمّود الحناوي، شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز في سوريا، وسوريندر سينغ كاندهاري، رئيس معبد «غورو ناناك دربار السيخي»، وعشيش بروا، مسؤول «المركز الاجتماعي البوذي» في الشارقة، وإيان فيرسرفيس، الشريك المؤسس ورئيس تحرير «موتيڤيت ميديا غروب»، وزليخة داود، أول طبيبة نسائية في الإمارات (1964م)، وبيتر هارادين، الرئيس السابق لـ«مجلس العمل السويسري»، وراميش شوكلا، أحد أقدم المصورين في الإمارات.