قراءة جديدة لحرب «خلقت الشّرق الأوسط الحديث»

نصّ يبدو كسرد دراميّ من وجهة النظر الإسرائيلية

أنور السادات يتابع مجريات الحرب
أنور السادات يتابع مجريات الحرب
TT

قراءة جديدة لحرب «خلقت الشّرق الأوسط الحديث»

أنور السادات يتابع مجريات الحرب
أنور السادات يتابع مجريات الحرب

يوري كوفمان، مؤلف كتاب «ثمانية عشر يوماً في أكتوبر... حرب يوم الغفران وكيف خلقت الشرق الأوسط الحديث»، الذي صدر منذ أيّام (بالإنجليزيّة) في أجواء الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، ليس مؤرخاً تقليدياً بالمفهوم الأكاديمي المحض، بل هو محامٍ يهوديّ أميركيّ متدين، صنع ثروة صغيرة من العمل في العقارات، منحته الوقت، والقدرة الماديّة كذلك، لأن يطارد شغفه طوال 20 عاماً... تشريح تلك اللّحظة، ذات أكتوبر، الشّديدة الكثافة في تاريخ الشرق الأوسط المعاصر، بداية من التقاطعات الإقليمية والدّوليّة المؤدية إليها، إلى تفاصيل تطوّر الأوضاع العسكريّة والاستخباراتية والسياسية على مختلف الجبهات أثناءها، ومن ثمّ انعكاساتها المباشرة على مصائر الشخصيات التي قادتها من الجانب الإسرائيلي، وعلى الترتيبات السياسيّة التي أدت إليها، سواء على صعيد الدّائرة الأولى التي خاضت الحرب مباشرة (مصر، وسوريا، وإسرائيل) أو في الدّائرة الثانية (العراق والمغرب وليبيا والسعودية والكويت)، بالإضافة إلى الرعاة الدوليين؛ الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي حينها. خلفيّة كوفمان، اليهودي الأميركيّ الثري، فتحت أمامه أبواباً كثيرة، في الداخل الإسرائيلي، فضلاً عن الولايات المتحدة، للاطلاع على الوثائق، ومقابلة الأشخاص، بل زيارة المواقع التي جرت فيها بعض المواجهات الحرجة. على أنّ الإضافة النوعيّة التي يجلبها كوفمان، مقارنة بعشرات النصوص الإسرائيلية والأميركيّة التي نشرت قبله، لا شك ارتبطت بعامل الزمن من ناحيتين؛ مرور نصف قرن على الحدث التّاريخي يمكن أن يسمح بالنّظر إلى الأمور ومآلاتها بتبصّر لا يتوفر لمن كتب في وقت الحدث أو بعده مباشرة، وكذلك فإنّ ترتيبات سريّة وثائق الأرشيف الرّسميّة لكثير من الدّول تؤجل الكشف عنها لفترات تتراوح بين 25 و50 عاماً، ناهيك عن أن كثيراً من العارفين بتفاصيل محددة يفضّلون الانتظار لعقود، كي تتغير المناخات السياسيّة، أو تمر فترة تسقط عنهم إمكان الادعاء الجرميّ، أو ترقباً لرحيل بعض الأشخاص المعنيين عن عالمنا، قبل أن يدلوا بشهاداتهم.

يوري كوفمان

بالطبع، يبدأ كوفمان من واقع موضوعي يجعل من حرب أكتوبر (يسميها السوريون تشرين، والمصريون رمضان، والإسرائيليون حرب يوم الغفران) تطوراً طبيعيّاً لسلسلة الهزائم العسكريّة القاسية التي ألحقتها الدولة العبريّة بمصر (في 1956، وفي 1967) وسوريا (في 1967)، وتتويجاً لعزم القيادتين المصريّة (جمال عبد الناصر) والسوريّة (حافظ الأسد) على استعادة أراضيهما المحتلّة وماء الوجه أمام شعوبهما الذي أريق عندما دمّر سلاح الجو الإسرائيلي القوة الجوية لمصر وسوريا بالكامل تقريباً خلال الساعات الأولى لحرب الأيّام الستة.

كان الإسرائيليون يدركون ذلك تماماً ويتوقعونه، لكن جهاز الاستخبارات العسكريّة (أمان) وثق في «مفهوم» نقله إليهم «الجاسوس الذهبي»، حسب تسميتهم، أشرف مروان (الذي كان مقرباً من السادات، وصهراً لناصر) خلاصته أن سوريا لن تذهب إلى الحرب من دون مصر، وفي المقابل لن تذهب مصر إلى الحرب حتى تتمكن من تحييد سلاح الجو الإسرائيلي؛ الميزة الاستراتيجية النوعيّة التي يمتلكها جيش الكيان. حتى عندما بنى المصريون جدار صواريخ سام المضادة للطائرات على طول الجانب الغربي من قناة السويس مقابل سيناء المحتلّة، وسيّج السوريون دمشق بالصواريخ بأكثر مما كانت موسكو أو هانوي محميّة بها، تطّور المفهوم إلى أن مصر لن تذهب إلى الحرب قبل الحصول على صواريخ سكود الروسيّة الباليستية لاستهداف المدن الإسرائيلية حال حاول سلاح الجو الإسرائيلي استهداف المدن المصريّة، كما فعل إبّان حرب الاستنزاف (بين 1967 – 1973). وقد وصلت المعلومات بشأن تسلم الجيش المصري لتلك الصواريخ، لكن مزيجاً من سوء الإدارة، وضعف التقدير، والصلّف، والاستخفاف بالعرب، أنتج داخل «أمان» مزاجاً من الغطرسة دفع بها لتأكيد أن الحكومة الإسرائيليّة بحكم تواصلها مع مصادر مطلعة على صنع القرار (إلى جانب أشرف مروان، كان هناك ضابط رفيع في الجيش المصري، كُشف عن وجوده، دون اسمه في 2020) قادرة على الحصول على إنذار قبل 48 ساعة على الأقل من انطلاق أيّ أعمال عسكريّة من الجانب العربيّ. وتلك مسألة شديدة الأهميّة للدفاع عن كيان صغير المساحة مثل الدولة العبرية المحاطة بـ3 جبهات طويلة، لناحية استدعاء الاحتياط، حيث جميع الإسرائيليين الراشدين تقريباً مجندو احتياط.

كان الإسرائيليون قد عزموا على تجنب بدء الحرب المقبلة مع العرب كي لا يتعرضوا لإدانات وضغوط دوليّة، ولا سيّما حليفتهم الولايات المتحدة، التي لا تفضّل التورط في مواجهة مع الاتحاد السوفياتي (حليف العرب) أو المخاطرة بإمدادات النفط المتدفقة من الشرق الأوسط.

غلاف الكتاب

ذلك كله تسبب في أخطاء تقييم بشأن النّوايا العربيّة، مكّنت تصورات «أمان» من الصمود رغم كل الإشارات على الأرض ومن المصادر الثانوية بأن المصريين بدأوا بالفعل التحرك لعبور قناة السويس، وأن السوريين يراكمون قواتهم تجاه الجولان، وشبكات صواريخ أرض جوّ جاهزة بالفعل لقنص الطائرات الإسرائيليّة.

وهكذا رفضت القيادة العليا الإسرائيلية، بقيادة وزير الدّفاع موشيه ديان، تحت رعاية رئيسة الحكومة غولدا مائير، الإشارات المتكررة بشأن هجوم عربي وشيك، بما في ذلك مغادرة عائلات الخبراء السوفيات لدمشق والقاهرة، ولذلك لم تكن مستعدة تماماً لهجوم كوماندوز سوري على جبل الشيخ في 6 أكتوبر، ولم يتوفر هناك عدد كافٍ من الدبابات على الأرض في سيناء، وتضاربت التوجيهات للقوات الجويّة، ما تسبب بعدم توفر حجم كافٍ من الطائرات المقاتلة الجاهزة لخوض المعركة فور نشوبها، وبدا كل شيء معتمداً على الارتجال السريع بدل الاستناد إلى خطط محكمة. وهكذا نجحت القوات المصريّة في تنفيذ عبور جريء عبر القنال وتحرير شريط من الأرض في جهته الشرقيّة، فيما انطلق هجوم سوري عنيد عبر 3 محاور، وحقق اختراقات، وبدأ يتجه نحو نهر الأردن والطريق إلى عمق الأراضي المحتلة، وشعرت القيادة الإسرائيلية باليأس لدرجة أن مجلس الوزراء ناقش فكرة استخدام الأسلحة النووية.

يقول كوفمان عن تلك الصدمة الأولى: «قبل حرب 1973، عرّفت القواميس الكلمة العبرية (ميخدال) بأنها؛ التقصير عن تنفيذ شيء مهم. لكن بعد الحرب، اتخذت الكلمة معنى جديداً، لا يزال معتمداً حتى يومنا هذا، لوصف كل فشل ذريع، بأنّه مثل إخفاقات الجيش الإسرائيلي في الأيام الثلاثة الأولى من حرب (يوم الغفران)».

ومع ذلك، ما لبث الإسرائيليون أن استعادوا توازنهم إثر الصدمة الأولى، وشرعوا «بعد 9 أكتوبر» ووصول قوات الاحتياط إلى الجبهات بشنّ هجمات مضادة، وخاضوا معارك طاحنة في مختلف المواقع، إلى أن بدأ أكبر جسر جويّ في التاريخ لتعويض خسائر الجيش الإسرائيلي من المعدات والذخائر، في موازاة ضغوط دولية لفرض وقف لإطلاق النار، ما مكّنهم من تحقيق اختراقات بالتوغل داخل الأراضي السوريّة شمالاً، وعبور قناة السويس نحو الأراضي المصرية ومحاصرة الجيش الثالث المصري وتهديد القاهرة جنوباً، على نحو وضع نظام السادات في زاوية حرجة، سهلت قبوله للحد الأدنى من أجل إنقاذ أرواح جنوده ونظامه.

يعتبر كوفمان أن تدخّل السادات في إدارة المعركة على الأرض، رغم وجود قيادة كفوءة ممثلة بالفريق سعد الدين الشاذلي، انتزع للمصريين الهزيمة من قلب نصر ممكن. ومع ذلك، كانت الهزيمة تباع في صحف القاهرة على أنّها نصر مؤزر، بينما كان الإسرائيليون العاديون يتعاملون مع انتصار جيشهم، المؤيّد أميركياً، وكأنّه هزيمة، وضغطوا لتشكيل لجنة تحقيق أدانت في تقريرها أداء قائد الجيش ديفيد إليعازار، ومدير الاستخبارات العسكريّة، فيما تغاضت عن أدوار غولدا مائير، وموشي ديان، صاحبي المسؤوليّة الأساسيّة في «التقصير»، لكنهما اضطرا للاستقالة تالياً وغرقا في المرض والعار.

خلفيّة كوفمان، اليهودي الأميركيّ الثري، فتحت أمامه أبواباً في إسرائيل وأميركا للاطلاع على الوثائق، ومقابلة الأشخاص، وزيارة المواقع التي جرت فيها بعض المواجهات الحرجة

كوفمان يقول عن ذلك؛ إنّ نصف قرن مرّ على الحرب يرينا الآن أن إسرائيل حققت أهدافها الاستراتيجيّة في الحرب، بعد أن خرجت مصر نهائياً من دائرة الصراع مع الكيان العبري، واضطر السوريون بعد حرب استنزاف مريرة خاضوها لعام كامل ضد القوات الإسرائيلية إلى القبول بوقف إطلاق نار ثبّت الأوضاع القائمة على الأرض حتى اليوم، مع شبه استحالة لاستعادة الجولان. علاوة على ذلك، تم في 18 مارس (آذار) 1974 رفع الحظر النفطي العربي، وقفز السادات إلى الأمام عبر زيارته إلى القدس المحتلة، ووقع تالياً اتفاق سلام (في كامب ديفيد) أصبح بوابة عبرت منها دول عربيّة أخرى إلى اتفاقيات مماثلة، مع تطبيع رسمي في العلاقات مع عدد منها. بالتأكيد، لم يعد بإمكان إسرائيل اعتبار تفوقها العسكري أمراً مفروغاً منه، كما كان الحال بعد عام 1967، لكن العرب لم يعد بإمكانهم واقعيّاً أن يأملوا في محو إسرائيل نهائياً من الخريطة.

الكتاب يعاني من نفس توراتي فرضه فهم كوفمان للعالم، ومبالغة في تأثير أوضاع الأشخاص النفسيّة والصحيّة لتفسير قراراتهم (مائير والسادات)

«ثمانية عشر يوماً في أكتوبر» يعاني من نفس توراتي فرضه فهم كوفمان للعالم، ومبالغة في تأثير أوضاع الأشخاص النفسيّة والصحيّة لتفسير قراراتهم (مائير والسادات)، كما هناك انحياز ظاهر غير مبرر لشخصية أرئيل شارون الإشكاليّة، لكن النصّ مع ذلك يبدو كسرد دراميّ آسر للحدث من وجهة النظر الإسرائيلية حيث مزيج من القتال العنيف، والمشاحنات المستمرة بين القادة، وحكايات اللحظات الحرجة، على مختلف نقاط الاشتباك لحدث مفصلي لا يمكن فهم التاريخ المعاصر للشرق الأوسط من دونه.

«ثمانية عشر يوماً في أكتوبر»

Eighteen Days in October: The Yom Kippur War and How It Created the Modern East

المؤلف: يوري كوفمان

الناشر: مطبعة سنت مارتن، 2023


مقالات ذات صلة

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
كتب كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق «جدة تقرأ» عنوان معرض الكتاب 2024 (المركز الإعلامي)

الكتاب الورقي ينتصر على الأجهزة الرقمية في معرض جدة

في ظل التطور التقني والاعتماد المتزايد على الكتب الإلكترونية، حسم زوار معرض جدة للكتاب 2024 الجدل لصالح الكتاب الورقي

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق دور النشر شهدت إقبالاً كبيراً من الزوار من مختلف الأعمار (هيئة الأدب والنشر والترجمة)

«جدة للكتاب»... مزيج غني بالمعرفة والإبداع بأحدث الإصدارات الأدبية

يعايش الزائر لـ«معرض جدة للكتاب 2024» مزيجاً غنياً من المعرفة والإبداع يستكشف عبره أحدث الإصدارات الأدبية، ويشهد العديد من الندوات وورش العمل والجلسات الحوارية.

إبراهيم القرشي (جدة)

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية
TT

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام، ولفت الانتباه؛ لأن رواية المانجا «أنستان» أو «الغريزة» لصاحبها المؤثر أنس بن عزوز، الملقب بـ«إنوكس تاغ» باعت أكثر من 82 ألف نسخة خلال 4 أيام. وهو إنجاز كبير؛ لأن القصّة الموجهة إلى جمهور من القرّاء الشباب قد خطفت المرتبة الأولى في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً من «الحوريات»، الرواية الفائزة بجائزة «الغونكور» لهذه السنة.

ولمن يستغرب هذا الرواج أو اهتمام دور النشر بالكُتاب المبتدئين من صنّاع المحتوى، فإن الظاهرة ليست بالجديدة؛ حيث إن كثيراً من المكتبات والمواقع أصبحت تخصّص رفوفاً كاملة لهذه النوعية من الكتب، كسلسلة «#فولوي مي» التابعة لدار «أشيت»، والتي تضم أعمالاً للمؤثرين تتوزع بين السّير الذاتية والقصص المصوّرة والتنمية البشرية والأسفار، وحتى الطبخ.

في فرنسا، أول تجربة من هذا القبيل كانت عام 2015، بكتاب «إنجوي ماري»، وهو السيرة الذاتية للمؤثرة ماري لوبيز المعروفة بـ«إنجوي فنيكس» (6 ملايين متابع على إنستغرام). وإن كان البعض لا يستوعب أن تكتب فتاة في سن العشرين سيرتها الذاتية، فقد يستغرب أيضاً النجاح التجاري الكبير الذي حصل عليه هذا الكتاب؛ حيث باع أكثر من 250 ألف نسخة، رغم الهجوم الشديد على الأسلوب الكتابي الرديء، حتى لقَّبتها مجلة «لي زنكوريبتبل» الثقافية متهكمة بـ«غوستاف فلوبير الجديد». شدّة النقد لم تمنع زملاءها في المهنة من خوض التجربة نفسها بنجاح؛ المؤثرة ناتو (5 ملايين متابع على يوتيوب) نشرت مع مؤسسة «روبرت لافون» العريقة رواية «أيقونة»، قدمت فيها صورة ساخرة عن عالم المجلات النسوية، وباعت أكثر من 225 ألف نسخة. وتُعدُّ دار نشر «روبرت لافون» بالذات الأكثر تعاوناً مع صناع المحتوى؛ حيث نشرت لكثير منهم.

في هذا السياق، الأكثر نجاحاً حتى اليوم كان كتاب التنمية البشرية «الأكثر دائماً+» لصاحبته لينا محفوف، الملقبة بـ«لينا ستواسيون» (5 ملايين متابع على إنستغرام) وباع أكثر من 400 ألف نسخة.

مجلة «لي زيكو» الفرنسية، تحدثت في موضوع بعنوان «صناع المحتوى؛ الدجاجة التي تبيض ذهباً لدور نشر» عن ظاهرة «عالمية» من خلال تطرقها للتجارب الناجحة لمؤثرين من أوروبا وأميركا، حملوا محتواهم إلى قطاع النشر، فكُلّلت أعمالهم بالنجاح في معظم الحالات. المجلة استشهدت بالتجربة الأولى التي فتحت الطريق في بريطانيا، وكانت بين دار نشر «بانغوين بوكس» والمؤثرة زوي سوغ (9 ملايين متابع على إنستغرام) والتي أثمرت عن روايتها الناجحة «فتاة على الإنترنت» أو «غور أون لاين»؛ حيث شهدت أقوى انطلاقة في المكتبات البريطانية بـ80 ألف نسخة في ظرف أسبوع، متفوقة على سلسلة «هاري بوتر» و«دافنشي كود».

المجلة نقلت بهذه المناسبة حكاية طريفة، مفادها أن توم ويلدون، مدير دار النشر، كان قد تعاقد مع المؤثرة بنصيحة من ابنته البالغة من العمر 12 سنة، والتي كانت متابعة وفيّة لها.

ومما لا شك فيه هو أن اهتمام دور النشر بأعمال المؤثرين يبقى مدفوعاً بالأرباح المادية المتوقعة، وهو ما أكده موضوع بمجلة «لوبوان» بعنوان «المؤثرون آلة لصنع النجاحات التجارية في قطاع النشر». كشف الموضوع عن أن تحويل المحتوى السمعي البصري لصناع المحتوى إلى الكتابي، أصبح بمثابة الورقة الرابحة للناشرين، أولاً لأنه يوفر عليهم عناء الترويج الذي تتكفل به مجتمعات المشتركين والمتابعين، وكل وسائل التواصل التابعة للمؤثرين، والتي تقوم بالعمل بدل الناشر، وهو ما قد يقلّل من خطر الفشل؛ بل قد يضمن الرواج الشعبي للعمل. ثم إنها الورقة التي قد تسمح لهم في الوقت نفسه بالوصول إلى فئات عمرية لم تكن في متناولهم من قبل: فجمهور المراهقين -كما يشرح ستيفان كارير، مدير دار نشر «آن كاريير» في مجلة «ليفر إيبدو»: «لم يكن يوماً أقرب إلى القراءة مما هو عليه اليوم. لقد نشرنا في السابق سِيَراً ذاتية لشخصيات من كل الفضاءات، الفرق هذه المرة هو أن المؤثرين صنعوا شهرتهم بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، ولهم جمهور جاهز ونشيط، وإذا كانت هذه الشخصيات سبباً في تقريب الشباب إلى القراءة، فلمَ لا نشجعهم؟».

شريبر: الكتاب بعيد كل البعد عن مستوى «الغونكور» وبأن كاتبته لم تقرأ في حياتها كتاباً باستثناء الكتاب الذي كتبته

هذه المعطيات الجديدة جعلت الأوضاع تنقلب رأس على عقب، فبينما يسعى الكتاب المبتدئون إلى طرق كل الأبواب أملاً في العثور على ناشر، تأتي دور نشر بنفسها إلى صناع المحتوى، باسطة أمامهم السّجاد الأحمر.

وإن كان اهتمام دور النشر بصنّاع المحتوى لاعتبارات مادية مفهوماً -بما أنها مؤسسات يجب أن تضمن استمراريتها في قطاع النشر- فإن مسألة المصداقية الأدبية تبقى مطروحة بشدّة.

بيار سوفران شريبر، مدير مؤسسة «ليامون» التي أصدرت مذكرات المؤثرة الفرنسية جسيكا تيفنو (6 ملايين متابع على إنستغرام) بجزأيها الأول والثاني، رفض الإفصاح عن كم مبيعات الكتاب، مكتفياً بوصفه بالكبير والكبير جداً؛ لكنه اعترف في الوقت نفسه بلهجة ساخرة بأن الكتاب بعيد كل البعد عن مستوى «الغونكور» وبأن كاتبته لم تقرأ في حياتها كتاباً باستثناء الكتاب الذي كتبته؛ لكنها لم تدَّعِ يوماً أنها تكتب بأسلوب راقٍ، وكل ما كانت تريده هو نقل تجاربها الشخصية إلى الجمهور ليأخذ منها العبَر.

الناقد الأدبي والصحافي فريديك بيغ بيدر، كان أكثر قسوة في انتقاده لكتاب المؤثرة لينا ستواسيون، في عمود بصحيفة «الفيغارو» تحت عنوان: «السيرة الذاتية لمجهولة معروفة»؛ حيث وصف العمل بـ«المقرف» و«الديماغوجية»، مضيفاً: «بين الأنا والفراغ اختارت لينا ستواسيون الخيار الثاني». كما وصف الكاتبة الشابة بـ«بالجاهلة التي تعترف بجهلها»، منهياً العمود بالعبارة التالية: «147 صفحة ليس فيها سوى الفراغ، خسرتُ 19 يورو في لا شيء».

أما الناشر بيار سوفران شريبر، فقد قال في مداخلة لصحيفة «لوبوان»: «اتهمونا بنشر ثقافة الرداءة؛ لكن هذه النوعية من الكتب هي هنا لتلتقي بقرائها. إنهما عالمان بعيدان استطعنا تقريبهما بشيء سحري اسمه الكتاب. فلا داعي للازدراء».