الذكاء الاصطناعي بحاجة إلى الفلاسفة

يحذرون من الإشكاليات الأخلاقية وتفويض القرار للآلة

دانيال أندلر
دانيال أندلر
TT

الذكاء الاصطناعي بحاجة إلى الفلاسفة

دانيال أندلر
دانيال أندلر

لمن يتساءل عن علاقة الفلسفة بالذكاء الاصطناعي، فلا بأس من التذكير بأن الذكاء هو أول المواضيع التي اهتم بها الفلاسفة، بدءاً بأرسطو وأفلاطون ومروراً ببرغسون، دون أن يتفقوا على تعريفه، ثم جاءت التكنولوجيا وأصبحت منذ قرن على الأقل ذات اهتمام واسع، ولذا فإن الجمع بين الاثنين هو محل نقاش فلسفي مزدوج أكثر من أي وقت مضى، ويتمحور الأمر أساساً حول «الأخلاقيات».

ما أفضل الطرق لاستخدام التكنولوجيا؟ للإجابة عن هذه الإشكاليات فإن جهود الفلاسفة ارتكزت على بُعدين مهمين أولهما البُعد الأبستمولوجي أو المعرفي: مثل التساؤل عن ماهية الذكاء الاصطناعي، وهل هو واع أو قادر فعلاً على محاكاة الفكر البشري؟ في هذا المجال يُعد عمل الفيلسوف الأمريكي هوبرت دروفيس من أهم المراجع. وعلى الرغم من أنه ناقش هذه القضية في أواخر السبعينات في كتاب: «ما لا تزال أجهزة الكومبيوتر غير قادرة على فعله» فإن نظرياته لا تزال صالحة في الوقت الراهن. الفيلسوف الأميركي وصل إلى خلاصة مفادها أن الذكاء الاصطناعي لا يستطيع محاكاة الفكر البشري؛ لأن الآلة لن تكون قادرة على القيام بالوظائف العليا التي يقوم بها البشر على نحو كامل، ما دام أن العنصر البشري هو من يقرر.

في نهاية المطاف، تركيزاً على دور «الجسد» في عملية التفكير، وبعيداً عن أفلام الخيال، حاول فلاسفة آخرون فك لغز «الوعي» عند الآلات الذكية. ديفيد تشالمرز أحد الفلاسفة الأكثر تأثيراً في الحقل البحثي الخاص بطبيعة الوعي، وبتفسيره الخاص لمفهوم الوعي، فاجأ الجميع حين أقر بأن نسبة احتمال ظهور ذكاء اصطناعي «واع» قد تصل إلى 20 في المائة في العشر سنوات المقبلة.

وفي كتاب «الذكاء الاصطناعي، الذكاء البشري، اللغز المزدوج» (دار نشر غاليمار)، الذي صدر في مايو (أيار)، اعترف الفيلسوف وباحث الرياضيات الفرنسي دانيال أندلر، وهو أحد أقطاب البحث في هذا المجال، بأنه كان أول المُرحبين بالذكاء الاصطناعي قبل أن يغير رأيه وبالأخص بسبب الإشكالية «الأخلاقية» وعدم التحكم التّام في «الوحش» الذي صنعناه كما يقول: «بخصوص (وعي الذكاء الاصطناعي) أي دليل نستطيع تقديمه لنبرهن على وجود (وعي) عند الآلة الذكية؟ ليس لدينا مفهوم واضح ومحدد للوعي». ثم يواصل «إذا كانت هناك حكمة من قصّة بلاك لوموان مهندس (غوغل) الذي طُرد من عمله بعد أن أقر بأن روبوت الدردشة (لمدا) يتمتع بوعي وإحساس، فهي أن الآلة الذكية تغير تصورنا للعلاقة بين الإنسان والآلة، وهي من اليوم فصاعداً قادرة على التلاعب بنا، ولذا فإن السؤال الأهم هو كيف نحمي أنفسنا من نفوذها ونفوذ المجموعات التجارية التي تقف وراءها...؟». وفي سياق آخر يهتم الفلاسفة بمناقشة التحديات الاجتماعية والإنسانية والحضارية التي تواجه مجتمعاتنا في المستقبل القريب، وهل يحل الذكاء الاصطناعي بديلاً عن العمل البشري أو يتكامل معه؟

ديفيد تشالمرز

في كتابه «وعظ الروبوتات» (دار نشر فلاماريون) يكتب الفيلسوف من جامعة مونتريال مارتان جيلبر أن دخول الذكاء الاصطناعي أصبح وشيكاً في حياتنا اليومية: من السيارات ذات القيادة الذاتية إلى الروبوتات العسكرية والمساعدين الافتراضيين للأطفال والمسنين كلها مدعوة لاتخاذ قرارات متعلقة بسلامتنا. ولذا فهو يوصي ببساطة بمرافقة التدريب العميق الذي يسمح للخوارزميات بتلقي عدد هائل من المعلومات إلى تدريب «آخر» انطلاقاً من أخلاق وتصرفات بشر «فاضلين» للحصول على «روبوتات متخلّقة». ويستشهد بـ«تاي»، وهي شخصية افتراضية لمراهقة أميركية أطلقتها «مايكروسوفت» عام 2016 لتعليمها تلقائيا حوارات تجريها مع الشباب والمراهقين على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن سرعان ما بدأت بنشر تغريدات عنصرية مؤيدة للنازيين بسبب ما تعلمته من مستخدمي «تويتر» حتى اضطرت «مايكروسوفت» إلى توقيفها. ومع ذلك يعترف الفيلسوف والباحث في جامعة مونتريال بأن «الذكاء الاصطناعي» يبقى علبة سوداء لا نتحكم دائماً في أسرارها ولا نفهم دائماً ردود أفعالها، مستشهداً بحادثة الطائرة التي يقودها الذكاء الاصطناعي والتي تمرّدت على مُشغلها إثر اختبار فقتلته. مثل هذه التصرفات لم يتم تدريب الآلة عليها، وهو الجانب الغامض المعروف باسم «هلوسات الذكاء الاصطناعي»، والتي تتضمن أيضاً الأخبار الزائفة والمعلومات الخاطئة. أما ألكسندر لاكروا مدير تحرير مجلة «فيلوسوفي» الفرنسية فقد وضع نقاط استفهام كثيرة حول «حرية الاختيار والقرار». وفي مقال بعنوان: «هل ستعرف السيارات القيادة بشكل جيد؟» نشر لاكروا مقالا في العدد الخاص بالذكاء الاصطناعي الذي أصدرته المجلة الفلسفية تحدث فيه عن «معضلة عربة الترام»، وهي واحدة من أكثر الإشكاليات مناقشة في الفلسفة الأخلاقية المعاصرة، وقد أعاد طرحها ليناقش مشاريع السيارات الذاتية القيادة التي يريد «غوغل» إطلاقها بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي. كتب لاكروا «إذا كنت سائقاً وعلى وشك الاصطدام لأنك فقدت التحكم في الفرامل وكان عليك أن تختار بين دهس فريق من 5 أشخاص أو شخص واحد فمن تختار؟ الغالبية الساحقة ستجيب الشخص الواحد طبعاً ولكن ماذا لو كان هذا الشخص طفلا؟ أو ابنك؟ أو شخصية محبوبة ككلياني مبابي أو من النساء الحوامل؟ والآن تخيل أن خوارزميات الذكاء الاصطناعي هي من ستتخذ القرار...» في النهاية خلص الفيلسوف الفرنسي إلى استنتاج أن الإنسان يلعب بالنار حين يفوض «حقه في الاختيار» إلى الآلة، فنحن نقرر تحت تأثير اعتبارات ثقافية، وإنسانية، ودينية تختلف من مجتمع لآخر بينما تخضع الآلة لتدريب مجموعات تجارية تحتكر هذه التكنولوجيا، ولا تمثل سوى مصالح ثقافة معينة في وقت معين.

السؤال الأهم هو كيف نحمي أنفسنا من نفوذ الآلة ونفوذ المجموعات التجارية التي تقف وراءها؟

دانيال أندلر

وإن بدت الهوة عميقة بين السباق المجنون الذي دخلته المجموعات التي تحتكر تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي لأغراض ربحية ونقاش الفلاسفة الذي يتطلب التأمل والبحث، إلا أن عمالقة التكنولوجيا قد أدركوا بسرعة أهمية هذا الدور. «غوغل» مثلاً يستعين منذ فترة طويلة بالفلاسفة لتطوير أنظمته الذكية، جيمس مانيكا وهو نائب رئيس التكنولوجيا والمجتمع عند «غوغل» شرح في ندوة نظمت في مايو الماضي أن المجموعة تستعين بالفلاسفة «لتتأكد أن يبقى الذكاء الاصطناعي أخلاقياً ويتطور ليصبح جريئاً ومسؤولاً في الوقت نفسه». كما نقلت صحيفة «لي زيكو» الفرنسية خبراً عن المدير العام لـ«مايكروسوفت فرنسا»، الذي أعلن أن أكثر الوظائف المفتوحة في مجموعته في العشر السنوات المقبلة هي لحاملي شهادات في الفلسفة والرياضيات، الفلاسفة بصفة خاصة لأنهم، كما يقول الخبر، «خير من يدعو إلى طرح الأسئلة في بيئة لا تبحث إلا عن أجوبة جاهزة...». لكن الأمور لا تسير بسرعة حسب البعض لأن الذكاء الاصطناعي يتطور كل يوم بخطوات عملاقة. ليتيسيا بوليكونك مديرة مختبر الأفكار «أنبياس أيتيك» حثّت الشركات على تكثيف تعاونها مع الباحثين والفلاسفة، مؤكدة أنه إن لم نرافق تعميم الذكاء الاصطناعي بالتفكير في طبيعة الإنسان فإن المجتمع الإنساني سيغرق في انجرافات خطرة. وتقول بوليكون في حوار نشرته صحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «أمام مجيء الذكاء الاصطناعي ينقصنا الفلاسفة»: «في تقرير (دلفو) الذي قُدم للجنة الأوروبية في 2017 تمّ اقتراح قوانين مثالية وآيديولوجية مثل حماية حقوق الروبوتات أو تحديد شخصية قانونية لهم... كيف يعقل ذلك ولم نحدد بعد معنى الروبوت أو الآلة الذكية؟ هل يمكن عدّ الجوال أو جهاز التحكم مثلاً آلات ذكية؟ ومن المسؤول عن القرارات التي تتخذ؟ هل هي الشركة، المخترع، أم الآلة نفسها؟ مثل هذه النصوص ترتكز على تصور للإنسان والآلة بعيد كل البعد عن واقع، الأخطر من ذلك أن 90 في المائة من الخبراء الذين شاركوا في (دليل أخلاقيات المفوضية الأوروبية حول الذكاء الاصطناعي) هم من عالم التكنولوجيا والأعمال، المعالجة إذن لم تكن إنسانية، بل تجارية بحتة. من الضروري وضع الفلسفة وكذا علم النفس والاجتماع والتربية والسياسة والقانون في قلب النقاش حول الذكاء الاصطناعي».


مقالات ذات صلة

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

كتب دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

يضم الكتاب مجموعة من البحوث والدراسات الأكاديمية وموضوعات وقراءات تتعلق بالجانب الاجتماعي - الاقتصادي

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

عشيّة الذكرى الثالثة لرحيله، تتحدّث عائلة الروائيّ اللبنانيّ جبّور الدويهي عن سنواته الأخيرة، وعن تفاصيل يوميّاته، وعن إحياء أدبِه من خلال أنشطة متنوّعة.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

رواية «حكاية صفية» للروائية الكويتية ليلى العثمان الصادرة عام 2023، رواية جريئة بشكل استثنائي

فاضل ثامر
كتب بعض واجهات المكتبات

موجة ازدهار في الروايات الرومانسية بأميركا

الصيف الماضي، عندما روادت ماي تنغستروم فكرة فتح مكتبة لبيع الروايات الرومانسية بمنطقة فنتورا بكاليفورنيا

ألكسندرا ألتر
كتب الرواية الخليجية... بدأت خجولة في الثلاثينات ونضجت مع الألفية

الرواية الخليجية... بدأت خجولة في الثلاثينات ونضجت مع الألفية

يتناول الناقد والباحث اليمني د. فارس البيل نشأة وجذور السرد الإبداعي في منطقة الخليج وعلاقة النص بالتطورات الاجتماعية والاقتصادية المتلاحقة

رشا أحمد (القاهرة)

إيميلي هنري... كتب تحقق أعلى مبيعات من دون ترويج ولا «تيك توك»

إميلي هنري
إميلي هنري
TT

إيميلي هنري... كتب تحقق أعلى مبيعات من دون ترويج ولا «تيك توك»

إميلي هنري
إميلي هنري

لم يسبق لإيميلي هنري قط أن أجرت جولة للترويج لأحد كتبها أو قرأت مقاطع من كتبها داخل إحدى المكتبات بهدف الترويج. أضف إلى ذلك أنها لا تملك حساباً على «تيك توك». أما حسابها على «إنستغرام»، فيتميز بصور أغلفة كتبها، بينما يخلو من جولات في خزانة ملابسها أو محاولاتها إنقاذ بعض القطط، أو صور لتناولها وجبة شهية مرتبة في الأطباق على نحو أنيق.

ووفق تعبير هنري، فإنها لا ترغب في أن تتحول إلى «كاتبة وشخصية شهيرة بعض الشيء في الوقت ذاته». إنها «روائية رومانسية»؛ وهنا انتهى الأمر. وبالتأكيد يعدّ هذا نهجاً غير مألوف، بل حتى ربما يعدّ جريئاً، في عصر يتوقع فيه قراء أعمال الخيال الشعبي مستوى من العلاقات شديدة الحميمية مع كتّابهم المفضلين.

ورغم ذلك، فإن هنري، التي تشتهر في أوساط محبيها باسم «إم هن»، نجحت في إطلاق خامس كتاب لها يحقق أعلى مبيعات في غضون 4 سنوات. واستمرت أحدث أعمالها؛ التي حققت نجاحاً مدوياً، «قصة طريفة (Funny Story)» في قائمة أفضل الكتب مبيعاً طوال 9 أسابيع. وفي أول شهرين من صدوره، حصد الكتاب نحو 60 ألف مراجعة من القراء عبر موقع «غود ريدز»، ناهيك بإطلاقه صناعة كاملة من القمصان والشموع والملصقات على صلة به.

ووفق الأرقام، باعت هنري، في المجمل، 7 ملايين نسخة داخل الولايات المتحدة منذ عام 2020. ويجري العمل على تحويل 3 من رواياتها إلى أفلام. وأعلنت هنري، الثلاثاء الماضي، أن رواية أخرى؛ هي «مكان سعيد (Happy Place)»، سيجري تحويلها إلى مسلسل على «نتفليكس».

عن ذلك، تقول هنري: «كان الأمر سريعاً للغاية. أشعر كأن السنوات الأربع الأخيرة لم تكن في حقيقتها سوى 35 ثانية فقط».

في أثناء تبادل أطراف الحديث مع هنري داخل مقهى «كوفي إمبوريم» في سينسيناتي المليئة بالأشجار، بدا من الصعب تخيل انسحابها نحو حالة من الهدوء. من جهتها، قالت هنري، وسط هدير جزازات العشب الدائرة في الحي: «أنا أحب الناس حقاً. عندما أكون وسط مجموعة كبيرة أميل إلى رفع صوتي لمستوى أعلى، لكن بعد ذلك سأعود للمنزل في صمت تام. وقد لا أتحدث مع أي شخص على امتداد أيام عدة».

بدأت هنري مسيرتها في مجال الكتابة عبر تأليف روايات موجهة للشباب، وكانت تعكف على كتابة أول رواية لها بعنوان «الحب الذي قسم العالم (Love That Split the World)»، في الصباح قبل أن تذهب للعمل بصفتها كاتبة فنية لدى شركة للهاتف والإنترنت والتلفزيون، وكانت مسؤولة عن اللغة الغامضة فوق صناديق الكابلات، ولم يكن هذا العمل ممتعاً لها.

وعليه؛ استقالت هنري بمجرد حصولها على سلفة كتابها الافتتاحي؛ وهو كتاب متواضع، وفق ما ذكرت، ثم كتبت أو شاركت في تأليف 3 كتب أخرى للجمهور الأصغر سناً.

تقول: «وصلت إلى لحظة في أثناء كتابتي لجمهور البالغين الأصغر سناً شعرت عندها بالإرهاق. لم يكن لديّ أي شيء جديد لأقوله».

أما كتابها الأول للبالغين، «بيتش ريد (Beach Read)»، فكان فرصة لها كي تكتب من دون ضغوط الجمهور صغير السن. ورغم أن كثيرين رأوا هذا أبسطَ مشكلة يمكن أن يواجهها أي كاتب، فإن هنري تنصح اليوم الكتاب الطموحين بالاستمتاع بخصوصية العمل على مشروع ما دون إقحام القراء في الأمر. وقالت: «من المتعذر أن نعود يوماً إلى هذا الشعور نفسه من المتعة».

صدرت رواية «بيتش ريد» في 19 مايو (أيار) 2020، تقريباً قبل أسبوع من تجاوز أعداد ضحايا جائحة «كوفيد19» داخل الولايات المتحدة عتبة المائة ألف. وبطبيعة الحال، كان أقرب إلى المستحيل تنظيم فعاليات تتضمن التفاعل مع الجمهور. وبدا الموقف منطوياً على مفارقة بالغة، بالنظر إلى أن الرواية كان المقصود منها أن يستمتع القراء بمطالعتها على رمال الشاطئ.

ومع ذلك، ورغم استمرار إغلاق كثير من الشواطئ العامة، فإن الرواية حققت نجاحاً ساحقاً عبر «تيك توك». ويوماً بعد آخر، زحفت الرواية نحو قائمة أفضل الكتب مبيعاً حيث ظلت لأكثر من عام.

في هذا الصدد، قالت أمادنا بيرجيرون، مسؤولة التحرير لأعمال هنري لدى «بيركلي»: «في ذلك الوقت، كان كثيرون يتطلعون إلى شيء يضفي على حياتهم شعوراً بالإشراق والراحة والدفء، وفي الوقت نفسه لا يخجلون من التعبير عن الحزن. وبالفعل، وفرت رواية (بيتش ريد) للقارئ كل هذه الأشياء».

وشكل ذلك سابقة جرى الحفاظ عليها عبر الروايات الثلاث التالية لهنري: «أشخاص نلتقيهم في الإجازة (People We Meet on Vacation)»، و«عشاق الكتب (Book Lovers)» و«مكان سعيد (Happy place)». وبمرور الوقت، زادت المبيعات؛ كتاباً وراء كتاب، بينما ظلت هنري داخل كنف منزلها في سينسيناتي.

تقول: «أعتقد أنني لو كنت قد قمت بجولة ترويجية للرواية، أو لو أن (بيتش ريد) لم تصدر في فترة الجائحة، لكان فريق العمل قد اعتقد أن المبيعات تزداد بفضل الجولات التي أقوم بها. وبالتالي، كانوا سيطلبون مني إنجاز مزيد منها. إلا إنه بالنظر إلى أن كل شيء كان ناجحاً من دون اضطراري إلى تنظيم جولات، فقد تعاملوا بمرونة مع رغبتي في البقاء داخل المنزل».

يذكر أنه في وقت مبكر من عملها الأدبي، واجهت هنري ضغوطاً للخروج إلى العالم عبر نافذة «تيك توك». وعن هذا، تقول: «أعلنت رفضي الفكرة. عندما يموت (إنستغرام)، سأموت معه. هذا آخر حساب لي عبر شبكات التواصل الاجتماعي».

وتضيف: «بدأت تداعب خيالي أحلام؛ لو أنني بدأت مشوار الكتابة قبل عصر شبكات التواصل الاجتماعي. في تلك العصور، لم أكن لأعلم كيف يبدو كاتبي المفضل، ولم أكن لأعبأ أو حتى أفكر في الذهاب إلى فعالية يشارك فيها. من الغريب أن تحلم بالكتابة وهي في صورة ما، ثم تكبر وتبدأ مسيرة الكتابة بالفعل لتجد أنها تحولت إلى صورة أخرى مختلفة تماماً».

وتنسب هنري وبيرجيرون ودانييل كير، مساعدة مدير شؤون الدعاية لدى «بيركلي»، جزءاً من الفضل في النجاحات التي حققتها روايات هنري إلى تصميمات الأغلفة العصرية والبراقة التي صممتها ساندرا تشو، خصوصاً الاهتمام الذي توليه للألوان ولغة جسد الشخصيات.

في رواية «قصة طريفة»، بذلت تشو مجهوداً كبيراً للوصول إلى الوضعية المثالية لجسد الشخصية الرئيسة بالرواية. وشرحت تشو أن «دافني»، أمينة مكتبة أطفال، بدت «متعجرفة بعض الشيء في البداية». في النهاية، نجحت تشو في تصويرها على نحو يعكس التوازن الصحيح بين الذكاء والحذر. وبناءً على طلب هنري، اختارت تشو أن ترسم «دافني» بملابس بسيطة، مع ارتدائها حذاء «كروكس» أصفر.

والآن، هل ثمة احتمال أن تخوض هنري جولات للترويج لأعمالها الجديدة، خصوصاً مع عودة الجولات الترويجية من جانب كتاب آخرين؟

عن هذا الأمر، تجيب كير: «ندرس دوماً هذه الفكرة، لكننا نركز اهتمامنا، في نهاية المطاف، على سبل مثيرة ومبتكرة للترويج لإيميلي ورواياتها، والتفاعل مع الجمهور والوصول إلى قراء جدد».

بمعنى آخر؛ نوقش الأمر بالفعل، لكن لم يُقَر جدول زمني محدد لأية جولات ترويجية بعد.

من ناحية أخرى، ظهرت هنري في 3 برامج تلفزيونية ـ «غود مورنينغ أميركا» و«توداي» و«تامرون هول». واستلهاماً من تجربة روائيين آخرين غالباً ما ينظمون حفلات في ساعات متأخرة من الليل، احتفالاً بإطلاق كتاب جديد، ساعدت «بيركلي» في تنظيم أكثر عن 200 فعالية احتفالية بإصدار رواية «قصة طريفة» عبر مكتبات بمختلف أرجاء البلاد. ونُظّم أكثر من 50 منها عند منتصف الليل.

في هذا السياق، عبرت ليا كوك، مالكة دار «ذي ريبيد بوديس»، المختصة في الأعمال الرومانسية، عن اعتقادها بأن «قراء الأعمال الروائية الخيالية يشكلون فئة مميزة بحد ذاتها، من حيث الولاء. وقد نفدت نسخ الرواية لدينا في 3 أيام فقط».

في 22 أبريل (نيسان) الماضي، تدفق أكثر من 100 من القراء المتحمسين على متجر الدار في حي بروكلين بنيويورك. وكانت هناك أطباق من الشوكولاته، ومطبوعات فنية مستوحاة من رواية «قصة طريفة» ومحيط بحيرة ميتشغان الذي تدور أحداث الرواية في أجوائه... وفجأة، ظهرت هنري نفسها تتجول وسط الحشد مثل ضيف آخر مبتهج. وكانت ترتدي ملابس بسيطة براقة تعكس أجواء الشاطئ والبحر.

وفي مقطع فيديو، ظهر القراء وهم يستقبلونها بسعادة غامرة وحماس وتصميم على التقاط هذه اللحظة بهواتفهم الخاصة. وتعالت صيحات إحدى المعجبات: «يا إلهي! يا إلهي!». أما هنري، فرحبت بالقراء، بينما حمل وجهها شعوراً بالانتصار والارتياح.

تقول لنا: «كان هناك أشخاص تعرفت عليهم بعدما تابعتهم سنوات وهم يروجون لكتبي عبر وسائل التواصل الاجتماعي. كانت تلك لحظة مميزة ورائعة للغاية، لكن الشيء الجميل حقاً في قرائي أنهم شيء خارج عني؛ إنهم مجتمع قائم بذاته».

يُنسب جزء من الفضل في النجاحات التي حققتها روايات إيميلي هنري إلى تصميمات الأغلفة العصرية والبراقة

يذكر أن النسخة ذات الغلاف المقوى لرواية «قصة طريفة» باعت نسخاً أكثر بنسبة 850 في المائة خلال الأسابيع الأربعة الأولى من إصدارها، مقارنة بالنسخة ذات الغلاف الورقي في الفترة ذاتها، رغم أن تكلفتها تبلغ نحو الضعف. وبحلول أواخر مايو (أيار)، كانت لا تزال في مقدمة الكتب داخل كثير من مكتبات سينسيناتي.

ومع ذلك، فإنها عندما همت بمغادرة مقهى «كوفي إمبوريم» برفقة زوجها للعودة إلى المنزل، لم تكن هنري تتبختر في مشيتها مثل شخصية مهمة أو بارزة أو حتى شخص تجذب كتبه القراء إلى المكتبات في منتصف الليل؛ وإنما كانت تسير بجدية تليق بكاتبة عاقدة العزم على العودة إلى العمل.

خدمة «نيويورك تايمز»