«التخاطر» يحسن علاقتنا مع العالم والأفراد

الفيلسوف روزا يقترح بدائل لتأسيس علاقات مختلفة

هارموت روزا مع غلاف كتابه السابق «التسريع»
هارموت روزا مع غلاف كتابه السابق «التسريع»
TT

«التخاطر» يحسن علاقتنا مع العالم والأفراد

هارموت روزا مع غلاف كتابه السابق «التسريع»
هارموت روزا مع غلاف كتابه السابق «التسريع»

في ظل الأزمات المتتالية التي تواجه البشرية في العالم المعاصر يتساءل الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني هارتموت روزا (Hartmut Rosa) حول ماهية الحياة الجيدة، فيقدم إجابة من خلال أحدث كتبه Résonance أي «التخاطر»، الذي يأتي بعد كتابه السابق «acceleration» أي «التسريع»، الذي قدم من خلاله تحليلاً نقدياً للحداثة. وهو يشرح وجهة نظره حول الحداثة وما بعد الحداثة في مقابلة طويلة مع مجلة «العلوم الإنسانية» الصادرة في فرنسا في فبراير (شباط) 2019، حيث يلاحظ أن مصطلح «ما بعد - الحداثة» ليس واضحاً، ولذلك عاد إلى أساس مرحلة الحداثة فوجده في التسريع، لأن «المجتمعات الحديثة لا تستطيع الاستمرار إلا بتسريع الحركات التي تميزها وعلى الأخص التجديد والنمو. وهذه المرحلة كانت قد بدأت وما زالت منذ عام 1980».

ولكن ماذا نستطيع أن نفعل تجاه هذا التسريع في أنماط حياتنا؟ يجيب روزا بأن الحل ليس في وقف التسريع ولا التباطؤ، لأن ذلك ليس بمتناولنا. لذلك فهو يحاول تصور بعض الأساليب الأخرى لـ«نكون في علاقات مختلفة مع العالم». أما الحل أو الخيار البديل فقد يكون التخاطر Résonance. ما المقصود بالتخاطر؟ وكيف يمكننا تطبيقه؟ إن التخاطر ليس فقط حالة انفعالية بل هو شكل خاص للعلاقة الذاتية مع العالم ومع الأفراد. وهناك عدة مراحل للوصول إلى هذه الحالة: أولاً، يجب أن نكون متحسسين تجاه ما يصيبنا أو ما يؤثر فينا. فعندما يصيبنا أمر أو شيء ما نستطيع الاستجابة تجاهه بواسطة إشارات جسدية كأن تدمع عيوننا أو أن نرتجف أمام مشهد ما أو شخص ما. وهذا ما يحدث عندما نستمع إلى قطعة موسيقية تعجبنا، وذلك من دون أي مجهود.

وثانياً، يجب علينا تبني هذه العلاقة، بمعنى أن هذا الشيء أو هذا الشخص الذي يمسّنا يؤثر في جزء من تفكيرنا ومن شخصيتنا. وثالثاً، إن المرحلة الثالثة في التخاطر يسميها روزا: التبني أو التملّك التحويلي. وذلك يحفّز أثراً على الذات، بحيث نستطيع أن نفعل شيئاً آخر مع هذه العلاقة. ومع هذه التجربة نتغيّر ونتحوّل. ورابعاً، إن العنصر الأخير هو ما يمكن تسميته بالإنتاجية. على سبيل المثال، عندما تسألني أثناء مقابلة أجيبك عن كل سؤال كما هو متوقع. هنا لن يكون هناك تخاطر. ولكن التخاطر يحدث عندما تسألني سؤالاً لم تكن تفكر به من قبل. أنت تبنّيت الجواب الذي غيّر وجهة نظرك فأنتجت سؤالاً جديداً على علاقة مع وجهة النظر الجديدة. إذن، نحن لا نستطيع إنتاج شيء جديد من دون مساعدة شيء آخر. ولكن هل نحن أمام ميزة أو ملكة اجتماعية أو طبيعية؟ يجيب الفيلسوف روزا، قائلاً إن الأطفال منذ المرحلة الأولى من ولادتهم يشعرون أو يعانون هذا التخاطر، حيث يجدون أنفسهم قادرين على فعل شيء آخر مع الأشياء والأشخاص المحيطين بهم. وهو يعتقد أن التخاطر موجود حتى لدى الحيوانات.

في الحداثة التقليدية تتغير شروط الحياة من جيل إلى آخر، ولكن في الحداثة المتقدمة فإن حالات التغيير تصبح عابرة للأجيال

وردّاً على من يعتبرونه من بين المفكرين الذين بادروا إلى تأسيس حركة «SLOW» التي دعت إلى التمهل والتباطؤ في أنماط حياتنا من خلال معارضة التسريع، يجيب روزا بأنه لا يريد أن يظهر على هذا النحو لسببين: أولاً، لأن هذا التيار يجذب الكثير من السياسيين المحافظين الذين يريدون منح الناس وقتاً أطول ولكنهم في الوقت نفسه يدعمون المنافسة والنمو. وهو يجد هذا الموقف غير مقنع وغير منطقي، إذ لا يمكننا منح الناس وقتاً أطول في حين نطلب منهم المنافسة والنمو السريع. وثانياً، إن التباطؤ غير مقبول وإن الناس لا يطلبون التباطؤ بل يطلبون علاقة أخرى مع العالم. وهذا ما فعلته حركة SLOW. ومع ذلك، إن هذه الحركة ليست كافية لتغيير العالم. وأخيراً، حول المنهج الذي يستخدمه في قراءته لعلاقة الإنسان بالعالم، يقول روزا إن ميشال فوكو كان يعتبر أنه في مواجهة مشكلة معينة يجب استخدام كل الوسائل المباحة. لذلك هو يستخدم كل الوسائل المتاحة بالإضافة إلى تجربته الشخصية، ويذكر بأنه غالباً ما يبدأ من خلال الاستبطان، ومن خلال ملاحظة حياته الشخصية، ويعتبر هذه الطريقة من أفضل الطرائق السوسيولوجية. ولكن نقطة الانطلاق الفضلى لعالم الاجتماع تتمثل برأيه في الحدس. ويمكننا أخيراً التعبير بكلمة عما يريده هارتموت روزا: دعوا العالم ينبض في داخلكم.

إذن، نحن لسنا ما بعد - حداثيين، وذلك لأن خصائص الحداثة تبقى وتتجذّر. لذلك هو يسمي هذه المرحلة «الحداثة المتأخرة» المتميزة عن الحداثة التقليدية. ولكن كيف تظهر هذه «الحداثة المتأخرة»؟ يمكننا ملاحظتها في حياتنا اليومية مع الإصلاحات السياسية على سبيل المثال. ولكن الإصلاحات الجارية لم تعد مبررة بإرادة الحصول على عالم أفضل بل خوفاً من التهديد بعدم القدرة على حماية النظام الاقتصادي. إذن، اليوم، أصبحت الحاجة إلى التسريع ملزمة وليست وعداً بمستقبل أفضل. ويمكننا الانتباه إلى هذا التغيير على المستوى الشخصي. ففي الحداثة التقليدية تتغير شروط الحياة من جيل إلى آخر، ولكن في الحداثة المتقدمة فإن حالات التغيير تصبح عابرة للأجيال. بالنسبة إلى الفرد ذاته فإن العالم الذي كان يعرفه بالأمس يمكن أن يصبح مختلفاً في اليوم التالي. ومن مخاطرات الحداثة المتأخرة، يضيف روزا، ظاهرة الاستلاب التي تساهم في فقدان القدرة على امتلاك الأشياء، حيث نكون متصلين مع العالم بطريقة خاصة.

إنها علاقة غير حقيقية. على سبيل المثال، أنا أعمل ولكن عملي لا يعني لي شيئاً؛ فإذا كنت على علاقة مع أي شخص أو مع أي شيء آخر، فإن ذلك لا يعني لي شيئاً ولا أحصل من ذلك على أي لذة شخصية. وهذا لا يسمح لي بالاكتمال. وهذا ما يسميه ماركس بالاستلاب، وماكس فيبر يسميه علاقة خائبة، وألبير كامو يسميه بالغربة عندما يظهر لنا العالم عدائياً أو لامبالياً. وهذا هو تعريف الاستلاب.

وفي هذا الإطار يعتبر روزا أن لماركس تأثيراً قوياً على النظرية النقدية التي تتبناها «مدرسة فرنكفورت» التي ينتمي إليها، ولكنه ليس ماركسياً أرثوذوكسياً. وذلك لأن روزا يعتبر أن ماركس اهتم بالبنى وأهمل الأفراد والجانب الذاتي والثقافي في التغيير الاجتماعي، ولقد تناسى الدوافع والمشاعر التي تدفعنا إلى الفعل. وإذا أردنا فهم كيف يعمل النظام يجب علينا الأخذ بعين الاعتبار الرغبات والمشاعر والوعود التي تدفع الناس إلى الدخول في لعبة التغيير. ويعتبر روزا أن ماركس في مخطوطات عام 1844 كان أقرب إلى هذه الاعتبارات. ويقول روزا إنه على خلاف آخر مع ماركس، حيث إنه لا يعتقد أن الصراع الطبقي يستطيع تغيير النظام، وذلك لأن هذا الصراع هو جزء من النظام. إذن هو لا يؤيد تأملات ماركس حول البنى الاجتماعية وحول الصراع الطبقي، ولكنه يستوحي من تحليلاته الأخرى.

وحول تعامل الطبقات الاجتماعية مع حالة التسريع التي تسود الحداثة المتأخرة يعتقد روزا أن هناك اختلافاً بحيث إن تلك القوة الشمولية المتمثلة بالتسريع تؤثر وتصيب بطريقة مختلفة الطبقات الاجتماعية: الأغنياء والطبقات الوسطى والفقراء. وبالفعل، إن الطبقات العليا استبطنت منطق التسريع وهي تشعر باستمرار بأن الزمن يسبقها. أما الطبقات الدنيا فإنها تدرك أيضاً هذا الضغط الآتي من الخارج، حيث إن رب العمل هو الذي يأمر بما يجب فعله في الوقت المحدد. والتسريع يطال أيضاً الناس العاديين الذين يعملون في مصالح مختلفة ويشعرون بضغط عامل الوقت والتسريع من أجل إنجاز العمل في مدة محدودة. ويعتقد روزا أن أفراد الطبقات الوسطى والشعبية يتمتعون بميزة إضافية؛ فهم عندما يتركون عملهم في آخر النهار فإنهم لم يستبطنوا هذا الضغط الذي شعروا به في النهار. وهذا لا يعني أن ليس عليهم الاستعجال بدورهم ليقوموا بأفعال إضافية تتعلق بواجباتهم العائلية. ومع ذلك فإنهم لا يستبطنون هذا الضغط كما يفعل أفراد الطبقات العليا.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت
TT

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

قبل عشرين عاماً، خاض محرر في دار «بلومزبري للنشر» مخاطرة كبيرة إزاء كتاب غير عادي للغاية. فهي رواية خيالية أولى لسوزانا كلارك، تدور أحداثها في إنجلترا بالقرن التاسع عشر، وتحكي قصة ساحرين متنازعين يحاولان إحياء فنون السحر الإنجليزي المفقود. كانت المخطوطة غير المكتملة مليئة بالهوامش المعقدة التي تشبه في بعض الحالات أطروحةً أكاديميةً حول تاريخ ونظرية السحر. وكانت مؤلفة الكتاب سوزانا كلارك محررة كتب طهي وتكتب الروايات الخيالية في وقت فراغها.

أطلقت «جوناتان سترينج والسيد نوريل»، على الفور، سوزانا كلارك واحدةً من أعظم كُتاب الروايات في جيلها. ووضعها النقاد في مصاف موازٍ لكل من سي. إس. لويس وجيه. أر. أر. تولكين، وقارن البعض ذكاءها الماكر وملاحظاتها الاجتماعية الحادة بتلك التي لدى تشارلز ديكنز وجين أوستن. التهم القراء الرواية التي بِيع منها أكثر من أربعة ملايين نسخة.

تقول ألكساندرا برينغل، المحررة السابقة في «دار بلومزبري»، التي كُلفت بطباعة أولى بلغت 250 ألف نسخة: «لم أقرأ شيئاً مثل رواية (جوناتان سترينج والسيد نوريل) في حياتي. الطريقة التي خلقت بها عالماً منفصلاً عن عالمنا ولكنه متجذر فيه تماماً كانت مقنعة تماماً ومُرسومة بدقة وحساسية شديدتين».

أعادت الرواية تشكيل مشاهد طمست الحدود مع الخيال، مما جعلها في القائمة الطويلة لجائزة «بوكر» وفازت بـ«جائزة هوغو»، وهي جائزة رئيسية للخيال العلمي والفانتازيا. وبسبب نجاح الرواية، نظمت جولات لها عبر الولايات المتحدة وأوروبا، ومنحتها «دار بلومزبري» لاحقاً عقداً ضخماً لرواية ثانية.

ثم اختفت كلارك فجأة كما ظهرت. بعد فترة قصيرة من إصدار الرواية، كانت كلارك وزوجها يتناولان العشاء مع أصدقاء بالقرب من منزلهما في ديربيشاير بإنجلترا. وفي منتصف الأمسية، شعرت كلارك بالغثيان والترنح، ونهضت من الطاولة، وانهارت.

في السنوات التالية، كافحت كلارك لكي تكتب. كانت الأعراض التي تعاني منها؛ الصداع النصفي، والإرهاق، والحساسية للضوء، والضبابية، قد جعلت العمل لفترات طويلة مستحيلاً. كتبت شذرات متناثرة غير متماسكة أبداً؛ في بعض الأحيان لم تستطع إنهاء عبارة واحدة. وفي أدنى حالاتها، كانت طريحة الفراش وغارقة في الاكتئاب.

توقفت كلارك عن اعتبار نفسها كاتبة.

نقول: «تم تشخيص إصابتي لاحقاً بمتلازمة التعب المزمن. وصار عدم تصديقي أنني لا أستطيع الكتابة بعد الآن مشكلة حقيقية. لم أعتقد أن ذلك ممكن. لقد تصورت نفسي امرأة مريضة فحسب».

الآن، بعد عقدين من ظهورها الأول، تعود كلارك إلى العالم السحري لـ«سترينج ونوريل». عملها الأخير، رواية «الغابة في منتصف الشتاء»، يُركز على امرأة شابة غامضة يمكنها التحدث إلى الحيوانات والأشجار وتختفي في الغابة. تمتد الرواية إلى 60 صفحة مصورة فقط، وتبدو مقتصدة وبسيطة بشكل مخادع، وكأنها أقصوصة من أقاصيص للأطفال. لكنها أيضاً لمحة عن عالم خيالي غني لم تتوقف كلارك عن التفكير فيه منذ كتبت رواية «سترينج ونوريل».

القصة التي ترويها كلارك في رواية «الغابة في منتصف الشتاء» هي جزء من روايتها الجديدة قيد التأليف، التي تدور أحداثها في نيوكاسل المعاصرة، التي تقوم مقام عاصمة للملك الغراب، الساحر القوي والغامض الذي وصفته كلارك بأنه «جزء من عقلي الباطن». كانت مترددة في قول المزيد عن الرواية التي تعمل عليها، وحذرة من رفع التوقعات. وقالت: «لا أعرف ما إذا كنت سوف أتمكن من الوفاء بكل هذه الوعود الضمنية. أكبر شيء أكابده الآن هو مقدار الطاقة التي سأحصل عليها للكتابة اليوم».

تكتب كلارك على طريقة «الغراب» الذي يجمع الأشياء اللامعة. وتصل الصور والمشاهد من دون سابق إنذار. تدون كلارك الشذرات المتناثرة، ثم تجمعها سوياً في سردية، أو عدة سرديات. يقول كولين غرينلاند، كاتب الخيال العلمي والفانتازيا، وزوج كلارك: «إنها دائماً ما تكتب عشرات الكتب في رأسها».

غالباً ما يشعر القارئ عند قراءة رواياتها وكأنه يرى جزءاً صغيراً من عالم أكبر بكثير. حتى كلارك نفسها غير متأكدة أحياناً من القصص التي كتبتها والتي لا توجد فقط إلا في خيالها.

تقول بصوت تعلوه علامات الحيرة: «لا أتذكر ما وضعته في رواية (سترينج ونوريل) وما لم أضعه أحب القصص التي تبدو وكأنها خلفية لقصة أخرى، وكأن هناك قصة مختلفة وراء هذه القصة، ونحن نرى مجرد لمحات من تلك القصة. بطريقة ما تعتبر رواية (جوناتان سترينج والسيد نوريل) كخلفية لقصة أخرى، لكنني لا أستطيع أن أقول إنني أعرف بالضبط ما هي تلك القصة الأخرى».

في الحوار معها، كانت كلارك، التي تبلغ من العمر 64 عاماً ولديها شعر أبيض لامع قصير، تجلس في غرفة المعيشة في كوخها الحجري الدافئ، حيث عاشت هي والسيد غرينلاند منذ ما يقرب من 20 عاماً.

ويقع منزلهما على الامتداد الرئيسي لقرية صغيرة في منطقة بيك ديستريكت في دربيشاير، على بعد خطوات قليلة من كنيسة صغيرة مبنية بالحجر، وعلى مسافة قصيرة سيراً على الأقدام من حانة القرية التي يزورونها أحياناً. ويساعد هدوء الريف - حيث لا يكسر الصمت في يوم خريفي سوى زقزقة الطيور وثغاء الأغنام بين الحين والآخر - كلارك على توجيه أي طاقة تستطيع حشدها للكتابة.

في يوم رمادي رطب قليلاً في سبتمبر (أيلول)، كانت كلارك تشعر بأنها على ما يرام إلى حد ما، وكانت قد رفعت قدميها على أريكة جلدية بنية اللون؛ المكان الذي تكتب فيه أغلب أوقات الصباح. كانت تحمل في حضنها خنزيراً محشواً، مع ثعلب محشو يجاورها؛ ويلعب كل كائن من هذه المخلوقات دوراً في رواية «الغابة في منتصف الشتاء». تحب أن تمسك حيواناتها المحشوة أثناء العمل، لمساعدتها على التفكير، وكتعويذة «لدرء شيء ما لا أعرف ما هو. يفعل بعض الناس أشياء كالأطفال، ثم مع التقدم في العمر، يتخلون عن الأشياء الطفولية. أنا لست جيدة للغاية في ذلك».

نظرت إلى الخنزير وأضافت: «لا أرى حقاً جدوى في التقدم بالعمر».

ثم استطردت: «أكبر شيء يقلقني هو كم من الطاقة سأحتاج للكتابة اليوم؟».

وُلدت سوزانا كلارك في نوتنغهام عام 1959، وكانت طفولتها غير مستقرة، إذ كان والدها، وهو قس مسيحي، يغير الكنائس كل بضع سنوات، وانتقلت عائلتها ما بين شمال إنجلترا وأسكوتلندا. في منزلهم البروتستانتي، كان إظهار العواطف غير مرغوب فيه؛ ولذلك نشأت كلارك، الكبرى من بين ثلاثة أبناء، على الاعتقاد بأن التقوى تعني أنه «ليس من المفترض أن تفعل في حياتك ما يجعل منك إنساناً مميزاً»، كما تقول.

*خدمة: «نيويورك تايمز»