صدر أخيراً للكاتب الصحافي المغربي جمال المحافظ كتاب «الإعلام في زمن اللايقين» يعالج فيه مفهوم اللايقين، بمنهجية ومقاربة صحافية تتناول قضايا الإعلام ارتباطاً بالتحولات التكنولوجية وتحديات الثورة الرقمية.
ويتضمن الكتاب الذي يقع في أكثر من 330 صفحة من القطع المتوسط والصادر عن مطبعة «المناهل» بالرباط، ستة فصول، هي: « الإعلام والثورة الرقمية» و«الثقافة والإعلام» و«الإعلام والسياسة» و«الصحافة والذاكرة» و«الإعلام والمؤسسات» وأخيراً «الإعلام والجوار».
وإذا كان الكاتب قد أوضح أنه لا يهدف في مؤلفه إلى معالجة المفاهيم والنقاش الدائر حول مبدأ اللايقين، أو الانتصار لموقف معين، لكنه انزاح في استهلال الكتاب، إلى التذكير بأن مفهوم اللايقين أو الارتياب والشك، معناه - حسب العالم الألماني فرنز هايزنبرغ سنة 1927 - أن الإنسان ليس قادراً على معرفة كل شيء بدقة متناهية، أضحى أكثر المفاهيم تداولاً في الزمن الراهن، تحول نموذجاً تفسيرياً وبراديغم إرشادياً جديداً. وانتقل بعد تشكله في دائرة الفيزياء، وبعد تشكله في دائرة الفيزياء، انتقل مفهوم اللايقين إلى الحياة السياسية والإعلامية والاجتماعية والاقتصادية.
وأشار الكاتب المحافظ كذلك إلى أن إيزابيل ستنغرس وإيليا بريغوجين الفائز بجائزة نوبل في الكيمياء عام 1977، عبّرا في كتابهما المعنون «بين الزمن والأبدية»، عن اعتقادهما الراسخ بأن «اليقين الوحيد الذي يمكن أن يتمتع به المرء، هو أننا نعيش في عالم من اللايقين»، في حين ذهب المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي قبلهما بعقود في تعريفه للأزمة إلى القول: «يموت القديم، والجديد لم يولد بعد».
ولاحظ الكاتب أن جائحة «كوفيد - 19» التي انتشرت في كل بقاع العالم عام 2020، ساهمت في تسليط مزيد من الضوء على مبدأ اللايقين، خاصة على المستوى المعرفي والثقافي والإعلامي، حيث أدى هذا المفهوم إلى انتشار المزيد من التفاهة والشعبوية وسيادة التجهيل، في ظل عالم عولمي ومتغير، موضحاً أن التحولات التكنولوجيات الحديثة، جعلت الحدود تنهار، ما بين وسائط الإعلام والتواصل التي تحولت موجهاً لطريقة تمثلنا للعالم وأصبحت العلاقات، لا تتم وفق التجربة المباشرة للأفراد والجماعات، بل وفق ما تقدمه لنا جاهزة. وقال المحافظ: إن الفضاء العمومي تحول نتيجة التوسع الهائل لهذه التقنيات «فضاءً إعلامياً بامتياز»، تشكل ضمنه وسائل الإعلام والاتصال النموذج الطاغي الذي يمارس هيمنة مباشرة على إنتاج المعنى، وعلى مختلف تمثلات الرأي العام.
وإذا كانت التكنولوجيا الحديثة قد أتاحت الفرصة للجميع من الحصول على المعلومات والتبادل، فإنها - كما يورد الكاتب - أدت بالمقابل إلى تغيير جذري في البيئة الإعلامية، فضلاً عن أن التكنولوجيات الرقمية التي هي انعكاس للاستعمال الذي يقوم به المرء، لم تضع حداً لعدم المساواة في الاستخدام، ولم تخفف من سوء التفاهم بين البشر، ولم تقلص من حدة النزاعات والحروب، لكنها وفّرت بالمقابل، ولوجاً غير محدود للمعرفة، ورفعت من القدرة على التبادل والمشاركة، وجعلت الفضاء الرمزي كالقراءة لا يخضع للرقابة.
لكن المؤلف أشار إلى أنه بقدر ما يلاحظ من إقبال متصاعد على التكنولوجيا، يسجل في الوقت ذاته، توجساً مبالغاً فيه أحياناً، بدعوى الاستخدام السيئ لهذه الوسائل الحديثة، كما لم يعد للسياسيين ولا للمؤرخين الحديث إلى «المواطنين الرقميين» عن الماضي وحتى الحاضر، بل يريدون أن يعرفوا عن الغد، كما جاء في كتاب «الثورة الرقمية ثورة ثقافية»، لمؤلفه الباحث الفرنسي في علم اجتماع الإعلام، ريمي ريفيل.
ومن بين المواضيع التي توقف عندها المحافظ، العلاقة ما بين المدرسة والإعلام، وتحويل شبكة الإنترنت إلى سبورة للمستقبل، مؤكدا في هذا الصدد على ضرورة تأهيل منظومة التربية والتكوين، وانخراط المجتمع المدني والإعلام في الاستثمار الأفضل للتكنولوجيا الحديثة في بناء المعرفة والهوية والسلوكيات لدى الجيل الناشئ، مما يجعل اندماج المؤسسات التربوية في مجتمع الإعلام والمعرفة، ضرورة حتمية من أجل التطور، وليس ترفاً فكرياً.
وعموما، فأن نُصوص هذا الكتاب تحمل قلق السؤال حول مُستقبل الإعلام في قلب تحولات جارفة، وإذ تفعل ذلك وهي تُفكر في أثر السياسي على الصحافة، وتقف على اختبار الأخلاقيات في زمن الرقمنة، وتستعرض تحديات الصحافة الثقافية أمام اكتساح الضحالة المُعممة.