حياة ألبرتو مانغويل القارئ الأكثر شراهة

كتاب جديد هو قطاف الوباء والحجر

حياة ألبرتو مانغويل القارئ الأكثر شراهة
TT

حياة ألبرتو مانغويل القارئ الأكثر شراهة

حياة ألبرتو مانغويل القارئ الأكثر شراهة

لم يكن «تاريخ القراءة» هو أول كتاب سطره الكندي - الأرجنتيني المولد، ألبرتو مانغويل، لكنه المؤلَّف الذي صنع شهرة صاحبه، بعد أن صدر عام 1996 وترجم إلى 35 لغة، ثم دخل لوائح الكتب الأكثر مبيعاً، ولوقت طويل. هكذا أصبح ألبرتو مانغويل بين ليلة وضحاها اسماً عالمياً مشهوراً، وعرف بأنه «الرجل الذي لا يكفّ عن القراءة» لا بل هو «القارئ الأكثر شراهة»، وبأنه «لا يكتب سوى عن الكتب»، وهو ما حقق له خصوصية وتمايزاً عن باقي كل كتّاب عصره.

لمحبي مانغويل

ولعشاق مانغويل أصدرت «دار الساقي» في بيروت، الترجمة العربية لكتاب «حياة متخيلة» الذي هو عبارة عن حوار طويل معه أجرته سيغلندة غايزل، وعربه مالك سلمان. وهو أقرب إلى سيرة ذاتية، يرويها بنفسه من خلال الإجابة عن أسئلة تتعلق بطفولته، وعلاقته بوالديه، وتأثير اللغات في الخيال، وعمله مع بورخيس وهو في السادسة عشرة من عمره يتلو عليه الكتب، وحبه للكتب، ودوره بصفته مدير المكتبة الوطنية في الأرجنتين، وصلته بالأدب بوصفه علاجاً، وما تأثير مربيته إيلين عليه، ومواضيع أخرى.

اللقاء بين مانغويل وغايزل كان مبرمجاً إجراؤه قبل الوباء، ولم يوقفه الوضع الصحي الاستثنائي الذي عاشه العالم. لا بل يبدو أن مانغويل أسعدته الإقامة القسرية في المنزل، وساعدته على أن يكون أكثر خصباً. فالكتاب يبدأ باعترافاته حول حبه ملازمة البيت، وحبوره بهذا النمط الحياتي المريح، هو الذي تعب من كثرة التسفار خاصة في السنتين اللتين سبقتا الوباء. «على الرغم من رؤية الألم والأسى من حولي فأنا في غاية السعادة في البيت. كنا نسكن على بعد شارعين من نهر هدسون، وكنت أمشي بمحاذاة النهر لفترة وجيزة، ثم توقفت عن ذلك. فأنا أعاني من الربو والسكر وأمراض أخرى كثيرة، ولا أريد المجازفة. طالما التزمت البيت منذ ولادتي التي صادفت يوم 13 مارس (آذار)، وأشعر بالامتنان لكل يوم أعيشه». وبطرافة يتمنى مانغويل لو يخصص العالم بعد انقضاء الوباء أسبوعاً كل شهر، يبقى فيه الناس في بيوتهم ولا يخرجون إلى أي مكان.

القارئ حين يصبح كاتباً

قدم مانغويل نفسه باستمرار على أنه قارئ أكثر مما هو كاتب. ولذلك سأل نفسه ذات يوم: «ما الذي أفعله كقارئ؟ وعندما شرعت في الكتابة، سرعان ما أدركت أن ثلاث صفحات لن تكفي، وسوف أحتاج إلى ثلاثمائة صفحة على الأقل، كي أجيب. كان عليّ أن أدقق في كل ما يأتي على ذهني. ما الذي يحدث في ذهني حين أقرأ؟ كيف ترتبط القراءة بالذاكرة؟ ولماذا نقرأ بصمت؟» بالطبع الإجابات التي صدرت في كتاب «تاريخ القراءة» عام 1996 حققت نجاحاً لم يكتب لأي مؤلف سابق لمانغويل، رغم أنه أصدر الروايات والترجمات والتأملات.

فما سرّ هذا النجاح؟ لعله تناول موضوعاً لم يتطرق إليه أحد من قبل بهذه الصيغة. جاء نصه فاتناً فعلاً. صحيح أن الكتب حول القراءة كثيرة، لكن تناولها من وجهة نظر القارئ هو الجديد في الموضوع، وكذلك بأسلوب شخص لا يعتمد على نظريات كبرى أو يستخدم مصطلحات معقدة.

محبو مانغويل سيجدون في الكتاب الجديد صفحات عن طفولته التي قضاها وحيداً من دون أصدقاء أو أشقاء في سنه. فهو الطفل الأكبر الذي بقي بعيداً عن إخوته معظم الوقت. «لم أكن على احتكاك مع أي أطفال. لا أعرف لماذا لم يعرفوني إلى أطفال آخرين لألعب معهم؟». ويصف ظروف تلك المرحلة الحساسة من حياته بأنها «فريدة» لأنه عاش تقريباً بلا رعاية أب أو عطف أم، بل على يد مربيته إيلين حتى سن الثامنة. فالأم بدت أنانية، لا تعنى إلا بحياتها الاجتماعية، وحفلاتها، ولهوها الذي تقدمه على كل اهتمام بأطفالها. أما والده فلم يكن أحسن حالاً. كان يعيش حياة مزدوجة مقسماً بين عائلتين، وهو لا يعبأ بأطفاله ولا يعرف عن احتياجاتهم إلا القليل.

خير جليس في الوحدة كتاب

الوحدة عوضها ألبرتو بابتداع علاقة خاصة وحميمة مع الكتب. وهو ما دفعه للكتابة حول هذه العلاقة من وجهة نظر لا تخضع لأفكار معلبة. ويمكننا القول إن ألبرتو يقدم في الكتاب رأياً جريئاً للغاية حين يبدي نفوره من النظريات النقدية الحديثة: «لم أدرس النظريات الأدبية قط، ولم أقرأ أي دراسات أكاديمية. لا أقرأ دريدا، وليفيناس، وبورديو، وعندما حاولت قراءتهم لم أشعر بأي اهتمام كان». مانغويل ليس من محبذي آراء أولئك الذين يخترعون مصطلحات صعبة لتوصيف مفاهيم يعتقدون خطأً أنهم هم من اخترعوها.

لكن ألبرتو، في المقابل ينهل معارفه من كتّاب لهم رؤية رحبة مثل جورج ستاينر، وفلورونس دوبون، وغيرهم كثير.

ومعلوم أن أحد الذين أثروا بعمق في مانغويل هو أستاذه خورخي لويس بورخيس، فمنه تعلم الاستغناء عن النظريات الأدبية، «وأن المعرفة التي يقدمها الأدب تأتي من المتعة التي نستمدها من الكلمات والأفكار، ومن الطريقة التي يتم التعبير بها عن هذه الأفكار».

وإذا كانت مربيته إيلين التي أحبها حباً جماً هي التي شكلته حتى سن الثامنة، فإن بورخيس الذي التقاه لأول مرة وهو في سن السادسة عشرة، كان له الدور الأكبر في نشأته المعرفية. كان مانغويل يعمل يومها في محل لبيع الكتب، حيث تعرف إليه. وعندما فقد بورخيس نظره، في منتصف الخمسينات من عمره، اختار ألبرتو قارئاً له بصوت عالٍ بالإضافة إلى عشرات الأشخاص الآخرين. لم يكن يريد أن يقرأ له، من اختارهم، ما لا يعرف، وإنما ما كان قد قرأه قبلاً لإنعاش ذاكرته. استمر بورخيس بعد العمى بكتابة الشعر وبعد 10 سنوات، عاد لكتابة القصص بعد توقف. «كان يؤلفها في ذهنه ثم يمليها سطراً تلو سطر، وكأنه انتهى من كتابتها سلفاً».

إيلين المربية المثقفة

ربما إلى إيلين، مربيته التشيكية - الألمانية، يعود الفضل في تثقيف ألبرتو؛ إذ يروي أنه بالنسبة إلى إيلين لم يكن اللعب جزءاً من تربيتها، وإنما «كان من الطبيعي أن يعرف الطفل الجغرافيا والتاريخ والرياضيات، وأن يحفظ الأعمال الأدبية العظيمة عن ظهر قلب. كما علمتني بعض المهارات مثل الخياطة والطبخ»، ويشرح خلفيات اهتماماتها هذه: «كانت فكرة الثقافة هذه جزءاً أساسياً من الحياة العادية» بالنسبة لها. روت له كيف أن عائلتها كانت تجتمع وتقرأ المسرحية وتناقشها، قبل أن تذهب لمشاهدتها في المسرح.

في الرابعة، اكتشف مع إيلين القراءة: «شعرت بأنني ساحر، إذ يمكنني تحويل بقع الحبر إلى كلمات. ولم أعد بحاجة لانتظار إيلين لتقرأ لي كي أستمر في اكتشاف الحكاية». ما لا يمكن تجاهله أن إيلين كانت تفتقد إلى أي حس للفكاهة أو النكتة، لكن من ميزاتها أنها تركت له في النهاية حرية أن يكون ما يريد، وهو في غاية التقدير لتلك المساحة الحرة التي أعطيت له.

ولا بد من الإشارة إلى أن الكتاب يعود مرات عديدة، إلى تجربة الوباء والحجر، وانعكاساته على المجتمع. كما نقرأ طويلاً رأي مانغويل في الأدب والأدباء الذين أحبهم وتأثر بهم. ومن المواضيع المهمة قوله: «الكتابة ليست مشروطة بالفقر»، مشيراً إلى أن كتاباً ليسوا بالقلة كانوا ميسورين، والربط باستمرار بين الكتابة وفقر الكاتب مفهوم خطر يسمح للمجتمع بالقول: «لسنا بحاجة إلى تمويل الآداب والفنون؛ لأن الإبداع سيأتي في جميع الأحوال».

يبدي مانغويل إعجابه بالثقافة العربية – الإسلامية؛ إذ يقول: «لا أعتقد أن هناك أي ثقافة أخرى تحتوي على هذه العلاقة الوثيقة بين الفلسفة والشعر. أحب استكشاف الأفكار الدينية، وذلك الانتقال من الفكر اليوناني إلى الإسلام. ولأنني لست مؤمناً فأنا لست مهتماً بالأوجه العقائدية للإسلام أو المسيحية أو اليهودية».

العيش في اللغات

يتكلم مانغويل عدة لغات بطلاقة. اللغة الأولى التي تحضره بشكل عفوي هي الإنجليزية، وعندما يكون في بلد يتحدث الإسبانية أو الفرنسية، فإن اللغة الطبيعية تتغير بعد بضعة أيام، هذا عدا الألمانية التي لم يعد يستخدمها وتعلمها من مربيته إيلين. أما في الكتابة فهو يكتب بالإنجليزية والإسبانية والإيطالية، وله كتب باللغات الثلاث.

ألبرتو مانغويل الذي يهجس بالكلمات، وعاش بين اللغات، وعرف بحبه للبلاغة، حين تعرض لجلطة دماغية عام 2013 عاش تجربة يصفها بـ«المذهلة»، ليس فقط لأن الجسر الذي يربط الكلمات في دماغه قد انهار، وأنه فقد العديد من قدراته قبل أن يستعيدها، وإنما الممتع في الأمر هو أن هذه التجربة الاستثنائية أتاحت له تأمل حركة دماغه في حالة لم يعهدها، وأن يفهم ويعاين قدرته على التعامل مع اللغة، في شروط لم تتح له من قبل. أما عن الكتابة «فباستثناء اللجوء المتزايد للصور اللغوية، لم ألحظ أي تغير، فربما كانت عملية الإصلاح التي حدثت في دماغي فعّالة بشكل كبير. فأنا أجد متعة كبيرة في قدرة المرء على الوقوف خارج ذاته ومراقبة نفسه وهو يفكر».


مقالات ذات صلة

روايات رومانسية سريعة الاحتراق

ثقافة وفنون روايات رومانسية سريعة الاحتراق

روايات رومانسية سريعة الاحتراق

تميل الرومانسية إلى بناء نتائج إيجابية من قرارات فظيعة. وتدور رواية «الحقيقة وفقاً لأمبر» التي كتبتها دانيكا نافا حول بطلة تتخذ المزيد من القرارات السيئة

أوليفيا وايت
ثقافة وفنون سيرة أول امرأة سعودية تتخصص في عِلم الأنثروبولوجيا

سيرة أول امرأة سعودية تتخصص في عِلم الأنثروبولوجيا

في كتابها «حياتي كما عشتها: ذكريات امرأة سعودية من عنيزة إلى كاليفورنيا»، تطرح الدكتورة ثريا التركي سؤال الهُوية والثقافة

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون «حكايا لبنانية في الأزمة»... وباء وأوجاع وفواجع لكن أيضاً قوارب نجاة

«حكايا لبنانية في الأزمة»... وباء وأوجاع وفواجع لكن أيضاً قوارب نجاة

بدأت الحكاية في أبريل (نيسان) 2020. كان زمن الحَجْر وغلبة العزلة، حين لمحت الصحافية اللبنانية جودي الأسمر تجّاراً في منطقتها يدّعون الالتزام بالإغلاق العام

فاطمة عبد الله (بيروت)
الولايات المتحدة​ وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون على خشبة المسرح في قمة المرأة في العالم بحي مانهاتن في نيويورك 6 أبريل 2017 (رويترز)

هيلاري كلينتون تنتقد نتنياهو وطلاب جامعة كولومبيا في كتاب جديد

في كتابها الجديد، انتقدت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لتَحَمُّله «صفر مسؤولية» عن هجوم 7 أكتوبر.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
كتب مايا ويند

كيف تنخرط الجامعات الإسرائيلية في حرب إلغاء الفلسطينيين؟

ساهمت التظاهرات الطلابيّة التي شهدتها جامعات ومؤسسات تعليمية في دول الغرب احتجاجاً على العدوان المستمر على قطاع غزّة في إلقاء الضوء على نكبة الفلسطينيين

ندى حطيط

وجوه حول هتلر: محاولة مغايرة لفهم التجربة النازية

وجوه حول هتلر: محاولة مغايرة لفهم التجربة النازية
TT

وجوه حول هتلر: محاولة مغايرة لفهم التجربة النازية

وجوه حول هتلر: محاولة مغايرة لفهم التجربة النازية

ثمة بحر من الكتب المرجعيّة عن تاريخ النّازية والنّازيين ودورهم في الحرب العالمية الثانية، كما دراسات كثيرة عن أدولف هتلر، وسير ذاتية لمعظم قادة ألمانيا النازية الكبار. على أن المؤرخ البريطاني والبروفيسور ريتشارد جيه إيفانز مؤلف الثلاثية الشهيرة «تاريخ الرايخ الثالث – 2003» اختار في كتابه الأحدث «شعب هتلر: وجوه من الرايخ الثالث – 2024*» صيغة مغايرة لمنهجه الأثير في تجنّب شخصنة التاريخ، وذلك المزاج المعتاد لدى مؤرخين آخرين في إلقاء اللوم في مجمل التجربة النازية على عاتق الفوهرر وبعض رجاله المقربين مع إعفاء غالب الألمان من المسؤولية؛ إذ استفاد إيفانز من توافر مواد توثيقيّة جديدة ليعيد قراءة المرحلة برمتها عبر استكشاف الأدوار الفرديّة لأربع وعشرين شخصية من مستويات قيادية وتنفيذية مختلفة دون إغفال النظر في أي لحظة عن الإطار الكليّ الأكبر.

ينقسم «شعب هتلر» إلى أربعة أجزاء تغطي سيرة 24 شخصاً من مختلف مستويات تراتب القيادة في المجتمع الألماني اختيروا لوضعهم بكل خصوصياتهم وخصائصهم وتوفر المواد عنهم في السياق الأعم للتاريخ الألماني خلال النصف الأوّل من القرن العشرين. أول تلك الأجزاء قسم طويل في مائة صفحة عن هتلر نفسه، وثانيها عن عدد من أفراد دائرته المباشرة هاينريش هيملر – قائد القوات الخاصة الألمانية والرجل الثاني في النظام -، وهيرمان غورينغ – رئيس الغستابو (جهاز الاستخبارات) -، ورودلف هس – نائب الفوهرر وممثله الشخصي -، ويوهانس إرفين رومل – قائد الجيوش الألمانية والإيطالية في شمال أفريقيا -، وبول جوزيف غوبلز - وزير الدّعاية النازية -، لكن الإضافة النوعية للكتاب تبدأ في ثالث أجزائه مع سير مجموعة من الممكنين الذي قادوا التنفيذ، وكذلك آخرها الرابع، عن المستوى الأدنى من (الأدوات) الذين خدموا النّظام ونفّذوا أوامره.

هتلر

وللحقيقة، فإن سيرة هتلر كما قطّرها إيفانز في الكتاب تبدو الأقل إثارة للدهشة مقارنة بالشخصيات الأخرى، فالقائد الألمانيّ وإن كان شخصاً آيديولوجياً صرفاً، إلا أنّه كان انتهازياً أيضاً ويعرف كيف يخفف من غلوائه عندما لا يكون أمام الجمهور؛ ولذلك كانت خطاباته شكلاً من أشكال الأداء المسرحيّ المدروس، لكن بقية الشخصيات في الكتاب فقد كانت من النّوع الشديد الإيمان بالقائد لدرجة الإصابة بالإغماء عند الاستماع لخطاباته المدويّة.

يجزم إيفانز بأن هتلر على تفرده لم يكن عبقري سياسة أو حرب، لكنّه كان يمثل تقاطعاً عجيباً في الزّمان والمكان بين تبلور ظاهرة الخطابات العامّة أمام الحشود، وذلك الإحساس الوطني العام بالإذلال بسبب الهزيمة في الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) ومعاهدة فرساي (1919) - التي أقرَّت فيها ألمانيا بذنبها في اندلاع الحرب، ومسؤوليتها الوحيدة عن الخسائر والأضرار التي نجمت عنها، إضافة إلى قبولها التخلي عن أراضٍ واسعة يسكنها ناطقون بالألمانية – وما تبع ذلك من دمار اقتصادي وكساد مديد. لقد نجح هتلر بديماغوجيته في أن يصبح للألمان تجسيداً لآمالهم بترميم النظام الاجتماعي المتهتك واستعادة الكرامة الوطنيّة المهدورة، وذلك بعد التجربة الفاشلة لجمهورية فايمار التي قامت على أنقاض الإمبراطورية المهزومة.

وبحسب إيفانز، فإن الوجوه التي اجتمعت حول هتلر لم تكن جميعها بالسمات ذاتها، فبينما كان يوليوس شترايشر – رئيس تحرير جريدة الحزب – معادياً لليهود بشدة، كان هيلمر مثلاً أقل اهتماماً بتأثير سلبيّ مزعوم لليهود على المجتمع الألماني، لكنه حقد بالمقابل على المثليين الشواذ، واستمر في الضغط على هتلر لتوسيع دائرة الفئات المستهدفة في مشروع (الحل النهائي) لتشمل إلى اليهود، الشواذ المثليين والشيوعيين والغجر والمرضى. على أنّ القاسم المشترك بين كل هذه الوجوه كان بالدّرجة الأولى تلك الصدمة الجمعية للشعب الألماني بعد الهزيمة التامّة المذلة في الحرب العالميّة الأولى وما أعقبها من حراك اجتماعي هابط، فكان أن قدّم لها الفوهرر نظريّة مؤامرة عن أسطورة «الطعنة في الظهر» من قِبل اليهود واليسار لتفسير الانكسار ومخرجاً للدونية، بدلاً من تقبل الحقيقة الموضوعية بثانوية ألمانيا أمام الهيمنة الصاعدة للتحالف الأنجلوساكسوني على جانبي الأطلسي.

لكن إيفانز يؤكد أن هتلر لم يكن ليصل إلى أي مكان لولا دعم النخب اليمينية المحافظة التي دعته إلى تولي السلطة مستشاراً للرايخ في عام 1933. لم يكن وقتها لدى الأرستقراطيين والبرجوازيين وكبار قادة الجيش الألمان قناعة خاصة بالأفكار والتكتيكات النازية العنيفة، لكنهم تلاقوا على كراهية ديمقراطية فايمار الفاسدة، وأرادوا إطاحتها، ومن بينهم لمعت لاحقاً الشخصيات القيادية في النظام النازي. سير الشخصيات المختارة للكتاب من هؤلاء تشير بمجموعها إلى مجموعة من أنماط السلوك التي ارتبطت بالتجربة المشتركة لها، ومنها تلك القدرة على التوحش التي أنتجتها السلطة المطلقة على البشر الآخرين المختلفين والمحتقرين آيديولوجياً، وكذلك الحماسة الظاهرة للسحر والتنجيم والباطنيات. لكن كان هناك أيضاً «صيادو الفرص»، أي أولئك الأشخاص الطموحين المفتقرين إلى الأخلاق ممن رأوا في المشروع النازيّ منصة للصعود والتقدم والظهور على نحو لم يكن متاحاً لهم في ظل النظام السابق. أما فيما يتعلّق بـ«الأدوات» - وفق تسمية إيفانز دائماً – فباستثناء شخصية واحدة من الطبقة العاملة في كل الكتاب – ابن أحد الخبازين –، فإن كتلة اللحم الأساسية للنظام النازي جاءت كما يبدو وبأغلبية ساحقة من خلفية الطبقة الوسطى المسكونة بأحلام التّرقي الاجتماعي، ولو على حساب الآخرين الأقل حظاً.

يأتي كتاب إيفانز في توقيت مثاليّ إذ يغرق الغرب في لجّة من صعود يمين متشدد يستمد مادته من ديماغوجيّة العداء للآخر المختلف

يأتي كتاب إيفانز في توقيت مثاليّ ربّما؛ إذ يغرق الغرب في لجّة من صعود يمين متشدد يقف على أقصى نهاية طرف الطيف السياسيّ ويستمد مادته من ديماغوجيّة العداء للآخر المختلف، وهذه المرّة للمهاجرين الأجانب، لا سيمّا المسلمين منهم. ولا شكّ أن إعادة تفكيك التجربة النازية – وشقيقتها الفاشيّة في جنوب القارة – سيضيء على دروس قد تساعد البشرية على تجنب كارثة كونية أخرى قد تكون نتائجها أكثر فداحة من الحرب العالمية الأخيرة، كما أن مغامرة المحافظين اليمينيين بتصعيد النازيين الجدد اليوم قد تمنح المؤرخ عدسة أخرى ليقرأ بها تاريخ النازية متسلحاً بفهم أعمق للحراك الاجتماعي المعاصر.

شعب هتلر: وجوه الرايخ الثالث

Hitler's People: The Faces of the Third Reich

المؤلف: ريتشارد إيفانز

الناشر:

Allen Lane – 2024