ما عسى بيروت أن تكون؟ أهي قرية أم بلدة أم مدينة؟ أهي قديمة أم معاصرة أم تقليدية أم حديثة؟ أهي مؤنثة أم مذكرة أم خنثى جامعة بين صفات الذكورة والأنوثة؟ أهي علمانية أم دينية أم طائفية؟ أهي لحم أم حجر أم جثة؟ بل أين تراها تقع؟ في فضاء عام أم فضاء خاص؟ في الشارع أم في الذهن؟ فوق الأرض أم تحتها؟ أهي بصرية أم سمعية أم شمية؟ حقيقية أم متخيلة؟
أسئلة كثيرة يطرحها كتاب عنوانه «كتابة بيروت» Writing Beirut، صدر عام 2015 من تأليف سميرة أغاشي Samira Aghacy، أستاذة الأدب الإنجليزي والمقارن في الجامعة الأميركية في لبنان، ومؤلفة كتاب سابق عنوانه «الهوية الذكرية في قص الشرق العربي منذ 1967» (2009).
وصف الشاعر أدونيس، في مقابلة أُجريت معه، بيروت بأنها مشروع مفتوح لا يكتمل قط، مدينة استكشاف قبل أن تكون مدينة يقين. وكتاب أغاشي يدرس الخرائط المختلفة للمدينة، كما رسمتها روايات عربية حديثة منذ خمسينات القرن الماضي، إنها تدرس ست عشرة رواية، بعضها مترجم إلى لغات أجنبية، وبعضها ليس كذلك، روايات كتبها رجال ونساء من عدة أقطار عربية، وفي الصميم من كثير منها تقع خبرة الحرب الأهلية في لبنان (1975 - 1990): حرب ما زالت عقابيلها - سياسياً واجتماعياً واقتصادياً - ترمى ظلالاً مظلمة على النسيج القومي اللبناني حتى اليوم. وبحق يقول الدكتور رشيد العناني، في كتابه «البحث عن الحرية»، إن هذه الحرب «لا يني شبحها يطارد من شاهدها بعينه، ومن راقبها من المنفى، ومن عاد من المنفى ليسمع حكاياتها ممن اكتوى بنارها يوماً بيوم، وعاماً بعد عام».
ومن المفيد، لأجل المقارنة واستكمال الصورة، أن يجمع المرء بين قراءة كتاب أغاشي هذا، وكتاب آخر باللغة الإنجليزية صدر في العام الماضي (2022) من تأليف ميرلين ريبيز عنوانه «جنوسة الحرب الأهلية» Gendering the Civil War، عنوان غريب بعض الشيء، ولكن معناه يتضح حين ندرك أن كتاب ريبيز يدور حول كتابات نساء لبنانيات فرانكفونيات (يكتبن باللغة الفرنسية) عن الحرب الأهلية اللبنانية منذ سبعينات القرن الماضي حتى يومنا هذا. وكتابها يندرج، في آن، في باب الدراسات النقدية، وفي باب النقد النسوي أو المهتم بقضايا الجنوسة. من هؤلاء الكاتبات فينوس خوري - غاتا، وإيتل عدنان، وإيفيلين عقاد، وأندريه شديد، وجورجيا معلوف، وهيام يارد، وكلهن قد كتبن عن العنف وصدمة الحرب والعلاقة بين الرجل والمرأة في زمن متوتر، ومجتمع متعدد الأعراق تتجاذبه قوى ثقافية وسياسية مختلفة ويعيش عصر ما بعد الكولونيالية.
من الروايات التي تتوقف عندها أغاشى «طواحين بيروت» (1972) لتوفيق يوسف عواد (1911 - 1989). هذه رواية الهجرة من القرية إلى المدينة، فبيروت - كنداهة يوسف إدريس - حلم ذهبي لا يفتأ يداعب خيال الفتاة تميمة، إذ تمثل الحرية والانفتاح، جاهلة بما تنطوي الحياة عليه في المدن الكبرى من عنف واستغلال ودعارة، وغير مُلقية بالاً لتحذيرات أمها. والرواية، كما يقول الدكتور حمدي السكوت، «تصور الفساد السياسي والصراع الطائفي وانحراف المسئولين سلوكياً وغارات الإسرائيليين ومظاهرات الطلاب وخُطبهم الجوفاء، وتتنبأ بالحرب الأهلية اللبنانية التي راح ضحيتها المؤلف فيما بعد».
ومن توفيق عواد اللبناني ننتقل إلى صنع الله إبراهيم (1937 - ) المصري في روايته «بيروت، بيروت» (1984). إن المدينة لا تبدو هنا ضحية للغزو الإسرائيلي، وإنما تبدو في صورة متدنية ملوثة. راوي القصة كاتب مسافر في طائرة إلى بيروت، بحثاً عن ناشر لرواية وضعها. وفي الطائرة يقرأ الصحف التي تتحدث عن احتراب الميليشيات، واقتتال الطوائف اللبنانية على نحو يذكِّر بعصابات شيكاغو في ثلاثينات القرن العشرين، ومعارك المافيا الدامية. وعقب وصوله إلى المطار يستقل سيارة أجرة، ويدهش إذ يرى من نافذة السيارة مباني مهدَّمة جزئياً ودكاكين مغلقة على كلا جانبي الشارع، وما من مشاة. لكأنما هي منطقة مهجورة كانت ساحة قتال، أو شهدت معركة لم ينجلِ غبارها إلا منذ وقت قريب. ويكتشف الراوي تدريجياً قسوة الحياة في بيروت، وكيف أصبحت سوقاً حرة للفساد السياسي والرشوة واختطاف الرهائن والقتل. والشخصيات التي يلتقي بها الراوي تضم صديقاً له هاجر الآن إلى بيروت، ومُخرجة سينمائية تُدعى أنطوانيت، وزوجة فاتنة للناشر الذي يريد الراوي أن يعهد إليه بكتابه. ويتولى الراوي كتابة تعليق على شريط فيلم سينمائي عن الحرب الأهلية مما يزيده انخراطاً في جو المدينة الموّار. وبعد سلسلة لقاءات محبطة، مهنياً وشخصياً، يحزم حقائبه استعداداً للعودة إلى القاهرة، دون أن يتمكن من نشر روايته.
وجدير بالذكر أن «بيروت، بيروت» موضوع فصل من كتاب لبول ستاركي (باللغة الإنجليزية)، عنوانه «صنع الله إبراهيم: متمرد يحمل قلماً» (2016)، وهو دراسة ممتازة لهذا الروائي، الذي يعد من أهم كُتاب «جيل الستينات» (ستينات القرن الماضي) في مصر. يحلل ستاركي الرواية من حيث البناء والخيوط والتقنية، مقرراً أنها، في رأي غالبية النقاد، أقل أهمية من سائر روايات مؤلفها: «تلك الرائحة»، و«اللجنة»، و«ذات»، ولكنها، رغم ذلك - في رأي ستاركي - علامة مهمة من علامات مسيرة إبراهيم الروائية.
وإن من الملامح المميزة لكثير من أعمال صنع الله إبراهيم لجؤوه إلى التوثيق بإيراد مقتطفات من صحف ومجلات تصور اللحظة الراهنة. وتشرح نادية بدران هذه التقنية بقولها: «تعتمد تركيبة البنية السردية في بعض أعماله على مادتين متلازمتين: الوصف الدقيق للواقع الروائي بمختلف علاقاته المتشابكة من أحداث وشخصيات، والمادة التسجيلية الخالصة التي تعرض مقتطفات إخبارية وثائقية شتى مستمدة من الواقع الفعلي لزمن كتابة الرواية، بحيث تكون هناك علاقة تبادلية مشتركة بين شقي النص».
وفي الفصل الخامس من كتابها، تتحدث أغاشي عن رواية «حارث المياه» (1998) للكاتبة اللبنانية هدى بركات (1952- ). إن بيروت هنا مكان تروده أشباح الدمار والخراب وذكريات الماضي. والراوي مسيحي من طائفة الروم الأرثوذوكس يُدعى نيكولا لامتري، كان يعيش مع أبويه في حي وادي أبو جميل في الجانب الغربي من بيروت حتى العام الثالث من أعوام الحرب الأهلية.
ويعود إلى البيت بعد يوم من وفاة والديه، فيجده منهوباً محتلاً من أغراب. ويقول له أحد جيرانه إنه كان يجمل به - والزمن زمن حرب - ألا يترك البيت دون أحد يحرسه. وتستخدم الرواية، كما يقول الدكتور محمد بدوي، تقنية استحضار الماضي «ماضي الأسرة في بيروت والإسكندرية، حيث لم تكن هناك حروب أهلية، فتنتقل من الواقعي والتاريخي إلى الشطح والفانتازيا».
ونعود إلى السؤال الذي بدأنا به هذا المقال: ما عسى بيروت أن تكون؟ لقد كانت بيروت موضوعاً لعشرات الروايات والأقاصيص والقصائد والمقالات عبر السنين. والإجابة، كما تقول أغاشي، بإيجاز مُحكم مُصيب: «بيروت نص أدبي منفتح على تفسيرات مختلفة عديدة، وذلك اعتماداً على الناظر إليها».