طه حسين... مؤسسة ثقافية تمشي على قدميها

خمسون عاماً على رحيل صاحب «الأيام»

طه حسين... مؤسسة ثقافية تمشي على قدميها
TT

طه حسين... مؤسسة ثقافية تمشي على قدميها

طه حسين... مؤسسة ثقافية تمشي على قدميها

بعد رحيله، اعتقدت سوزان رفيقة طه حسين أنه كان ينظر إليها من عليائه، ومثلها اعتقد محبوه من كبار الأدباء؛ لأنهم تصوروه خالداً لا يموت، فماذا لو رآنا اليوم في العام الخمسين بعد رحيله؟

كان من المفترض أن تتواصل الاحتفالات هذا العام في مصر كما تفعل الدول في احتفائها بأعلام ثقافتها، بمشاركة كل المؤسسات بحيث تصدر الكتب وتقام المؤتمرات وتصدر طوابع البريد تحمل صور المحتفى به وغير ذلك، لكن عام طه حسين بدأ بتهديد مقبرته بالهدم ككثير من مقابر الكبار في الثقافة المصرية بسبب إنشاء الجسور التي تخترق جبانات القاهرة. لكن العميد أكثر حظاً من الجبرتي وابن خلدون ويحيى حقي، فقد انتهى الأمر بمرور من فوق مقبرته دون إزالتها!

رحل طه حسين في أكتوبر (تشرين الأول) 1973 فلم يرَ اكتمال الغدر بوصيته الكبرى «التعليم» الذي تآكلت مجانيته ولم يعد حقاً طبيعيّاً للبشر كالماء والهواء. ولو لم يتم الغدر بوصيته فما كان لعظامه أو عظام غيره من الكبار أن تتعرض للخطر. ولكان من الطبيعي أن يُخصص العام للاحتفال بذكراه كما تفعل الأمم المتعلمة.

لكن أبناء وأحفاد طه حسين من الكتاب أقاموا احتفالاتهم الخاصة في شكل وفرة من الكتب يتوالى صدورها في القاهرة وغيرها من العواصم العربية، من بينها كتاب الباحث والروائي الدكتور عمَّار علي حسن، الذي صدر مؤخراً كتابه «بصيرة حاضرة... طه حسين من ست زوايا» عن مركز أبوظبي للغة العربية. الكتاب الذي يقع في 504 صفحات لديه طموح أن يكون مرجعاً شاملاً عن طه حسين، يحجز لنفسه موقعاً وسط وفرة التأليف عن عميد الأدب العربي، حيث يستند عمَّار إلى عدد كبير من المراجع مع نفس سردي يعيد بناء سردية متماسكة عن الرجل.

لا يستطيع باحث أن يقاوم ذكريات نشأته التعليمية الأولى وموقع طه حسين منها. هكذا يحكي عمَّار كيف تلقى سيرة العميد «الأيام» التي كانت مقررة على طلاب المدارس، وكيف كان معلموه يجتهدون في النطق ليكون مكافئاً لبلاغة العميد.

ويعتبر عمَّار علي حسن العميد مؤسسة كاملة كانت تمشي على قدمين، ويعتبر أن البحث في منجزه ليس بحثاً في الماضي، بل في الآني؛ نظراً لأن نصه وأسلوبه وسلوكه الثقافي لا يزال قادراً على إفادتنا فيما يواجهنا اليوم. داعياً إلى إعادة درسه بكل جدية بما في ذلك دراسة إخفاقاته بعيداً عن كتابات المغامرين وهواة السجال الذين وقع تراث العميد ضحية لهم.

وكما اختط طه حسين لنفسه منهجاً في دراسة غيره؛ يضع عمَّار لنفسه خطة لدراسة العميد من ست زوايا: المنهج، النص، الذات، الصورة، الموقف، والأفق.

لماذا وكيف؟

المنهج عصب أي علم، ورغم أن طه حسين بدأ حياته في مسار ينشغل بالرواية قبل الدراية، إلا أنه أدرك منذ وقت مبكر بفضيلة المساءلة، وأبرز سؤالين لديه هما: لماذا وكيف؟ ويرى علي أن انشغال طه حسين بالمنهج فاق كل شيء، وفي الوقت نفسه يبدو المنهج بارزاً إلى جانب عطائه المعرفي في كل كتاب. على سبيل المثال، فالمهم في «الشعر الجاهلي» هو ثورة المنهج، وليس ما جاء بالكتاب حول الشعر بذاته.

ورغم ارتباط طه حسين في الذاكرة الثقافية بمنهج الشك الديكارتي، فإن هناك من المصريين والمستشرقين من أثروا فيه أكثر من رينيه ديكارت وبينهم ثلاثة يحملون اسم المرصفي، هم حسين، وسيد علي، ومحمد حسن نائل المرصفي، وهناك حفني ناصف وإسماعيل رأفت مع مستشرقين مثل جويدي ونالينو.

هناك ركائز ومسارات متعددة قادت طه حسين إلى «الشك من أجل التحقق»، أهمها تكوينه التراثي؛ فقد استفاد من دراسته للفقه الإسلامي، وهو العلم الذي يدرس الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، كما ساهمت في شكه ضرورة التثبت التي يشدد عليها القرآن الكريم، بالإضافة إلى علم الجرح والتعديل أو «علم الرجال» الذي تفردت به الأمة الإسلامية وقام عليه عماد رواية الأحاديث النبوية.

اختبار النص

الركيزة الثانية لحضور طه حسين - فيما يرى عمار علي حسن - هي نصه الذي مر باختبار الزمن ولم يزل حيّاً من بعده. وأولى خصائص نصه أنه ابن الإملاء، لا ينشأ إلا في حضور المستمع؛ لهذا فكل ما بين أيدينا هو «حديث طه حسين لا كتابته» وهذه مسألة جوهرية من النظر إلى نصوصه، وقد عبّر طه حسين عن هذه المسألة «أنا لا أكتب وإنما أُملي. وقد لاحظ البعض ذلك وخصوصاً فيما يتعلق بمقالاتي. فإذا أمليت في بيتي، مشيت وأنا أُملي. إذا أمليت في الصحيفة فإنني أجلس إلى مكتبي ساكناً بلا حراك كأنني تمثال... (كتابات من الشاطئ الآخر)، جمع وترجمة عبد الرشيد الصادق المحمودي».

على الأرجح يكون المتكلم أقوى شعوراً بذاته من الكاتب المنفرد بنفسه ولديه فرصة لينساها. يحمل «الأيام» طرفاً من مشافهة طه حسين، ومن ثباته بينما يُملي نصاً لصيقاً بحياته إلى هذا الحد، ويبين في الوقت ذاته مدى قدراته السردية التي تبدت في هذا النص بأكثر مما ظهرت في نصوصه السردية الأخرى. وهناك شهادات من تلاميذه في الجامعة تقول إن أسلوبه في إلقاء محاضراته كان يشبه أسلوبه في إملاء ما يكتب، وينقل عمَّار عن عبد المنعم شميس قوله «كان في محاضراته يشبه الشيخ محمد رفعت في ترتيله للقرآن».

ولأنه لم يكن يعيد التنقيح؛ فنصه بِكر فكر فيه طه حسين طويلاً قبل أن يمليه، لم يكن يطلب من المدون أن يعيد قراءته ولم يكن يعرض نصوصه على أحد من أصدقائه قبل النشر كعادة بعض الكتاب، ويتفق عمار مع المحمودي في اعتبار طه حسين هو سيد النثر العربي الحديث، منزلته كمنزلة الجاحظ من النثر القديم إجادة وتنوعاً. له بصمته التي لا يخطئها قارئ بعد أسطر عدة، بما يتميز به من إيقاعية وحس قصصي واحتفاء بالمألوف من الكلمات وتكرارية للتوكيد وصيغ أفعل التفضيل. لكن لغة طه حسين لم تكن وليدة عن تصور نظري منطقي لبنية اللغة، بل كانت لغة وظيفية تلتزم المعنى بصرامة.

الوعي بالذات

في تناقض مع منهجه في التمحيص رفع البعض طه حسين إلى أعلى مراتب السمو ورماه البعض الآخر بكل ما يهبط به ويذري بمكانته، فماذا عن صورته في مرآة ذاته؟

في «الأيام» لم يشأ أن يعبّر عن ذاته بالضمير الأول، بل أشار إلى نفسه بوصفه «الفتى» ولكنه تحدث بصيغة «الأنا» في مواقف متفرقة في ندوات وحوارات تكشف عن تصوره لنفسه. عد طه حسين الكتابة فعل حرية، وكان في هذا معجباً بسقراط الذي كانت حريته قرينة وجوده. وقد وضع الحرية قبل العدل في سلم القيم لديه، معتبراً أنها الطريق إلى الفضائل، فالشعور بالعدل يقوى ويشتد كلما قويت الحرية واشتدت. هذا الإيمان المطلق بالحرية يضع طه حسين على مسافة من أصحاب نظرية الالتزام الذين يمكنهم التخلي عن الحرية ولو جزئيّاً في سبيل تحقيق أهداف كبرى.

صور العميد

تتسيد صورة قاهر الظلام غيرها من صور طه حسين لدى الغالبية العظمى من الناس، هي نقطة النور المبهر التي تجذب الجميع. وقد حوَّل عميد الأدب العربي إعاقته إلى ميزة؛ إذ مدته بأشياء لا غنى عنها للكاتب الجاد، منها العزلة ومنها انطلاق الخيال لرسم عالم لا يراه، وتعزيز البصيرة والذاكرة اللاقطة، وقد تعرضت ذاكرته القريبة للضعف بعد الثمانين، فسرعان ما كان ينسى زواره بعد انصرافهم.

وهو المثل بالنسبة لكل من عانوا وسوف يعانون من هذه الإعاقة، فانتصار طه حسين انتصار لهم، وها هو الأديب الكويتي عبد الرازق البصير يقول عن تأثير طه حسين عليه: «لم أكد أمضي في قراءة كتاب (الأيام) حتى انفتح لي باب الأمل في الحياة» وها هو الشاعر اليمني عبد الله البردوني يرفض تعلم الكتابة بطريقة «برايل» لأن طه حسين حقق ما حقق دون أن يتعلمها.

غير قاهر الظلام، للعميد صور متعددة؛ فهو التلميذ النجيب الذي يجلّ أساتذته مثل لطفي السيد ومحمد عبده وماسنيون ويجد في نفسه الشجاعة ليختلف معهم ويعبّر عن اختلافه، وهو الأستاذ البارع والأب الذي يقبل اختلافات أبنائه دون أن ينكروه أو ينكرهم، وهو المدافع عن كرامتهم وعن استقلال الجامعة.

لكن ذلك لم يمنع طه حسين من اكتساب صورة الشخص الأسطورة بعد رحيله، فها هو يوسف إدريس يزور مكتبه مع آخرين بعد وفاته، ويقول إننا وقفنا ننتظر أن يطل علينا بقامته المديدة، فقد كان في نظرنا خالداً لا يموت».

الرجل الموقف

قد يشبعنا نص جميل وترضينا فكرة شجاعة، لكن بمجرد أن نكتشف أن الكلمات لم تمسس قلب كاتبها أو أن سلوكه ومواقفه تختلف عما يدعو إليه سرعان ما يفقد الكاتب مكانته. لهذا يجعل عمَّار علي حسن مواقف العميد السياسية والثقافية ميزاناً يزن به رصيده الهائل من الكلمات. الحرية هي القيمة العليا التي دافع عنها في كل شيء، واعتبرها أم الفضائل.

وكان العدل الاجتماعي وتهيئة الفرص المتساوية من أهم أولويات طه حسين، وعمل لتحقيق ذلك من خلال جهوده لإصلاح التعليم الذي عدَّه كالماء والهواء، يجب أن يكون حقاً للجميع مؤمناً بديمقراطية لا رأسمالية التعليم. وخاض في سبيل ذلك معارك في مناصبه المختلفة وفي الصحافة ضد خصوم شرسين بينهم العقاد الذي وقف ضد المجانية؛ إذ كان مهووساً بالعداء للاشتراكيين والثوريين.

وفي غمار السياسة أسفر عن مثقف عضوي منخرط في كل شئون البلاد، تفاعل بوعي مع تطورات الواقع، ملتزماً خط النهضة منفتحاً على كل التيارات، ويتوقف عمَّار ملياً أمام صلة طه حسين بضباط يوليو (تموز)، وهذه صفحة يحلو للبعض أن يزايد فيها على العميد، لكنه كان ثائراً من قبلهم، والتقى معهم في أشياء دون أن يتطابق مع سياساتهم، وهم أكبروه - ولو في البدايات - ولم يتطابق معهم أو يعبثوا برأسه، وإن حاول حماية نفسه بستار من المجاملات الشكلية لم تخف الخلاف. وقد نبّه إلى خطورة غياب الحرية في محاضرة ألقاها في نادي الضباط بعد نحو ستة أشهر من قيام الثورة.

وأخيرا، يتساءل عمار علي حسن عن أسباب بقاء طه حسين حيّاً إلى اليوم، هل هو جمال نصه؟ لقد جايله آخرون بنصوص جميلة، وتجاوزت المدارس الفكرية الكثير من أفكاره، فهل يعيش لأننا لم نزل نتعثر في أسئلة زمنه؟ ويخلص إلى أن سره في تحوله إلى أمثولة ومثلاً أعلى لتحرر الفرد بسبب المسافة بين ما كان ينتظره كأعمى ريفي وبين ما حققه من مكانة فكرية عالية.


مقالات ذات صلة

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون أفلاطون

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية تختلف عما نراه في أفلام السينما

خالد الغنامي
ثقافة وفنون عبد الزهرة زكي

عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر

«غريزة الطير» رواية للشاعر العراقي عبد الزهرة زكي، صدرت أخيراً في بغداد، ولاقت احتفاءً نقدياً ملحوظاً، وهي الرواية الأولى له بعد صدور مجموعته الشعرية الكاملة

علاء المفرجي (بغداد)
ثقافة وفنون عادل خزام

«مانسيرة» تجمع شعراء العالم في قصيدة واحدة

تُغذّى جذور القيم الثقافية كلما تعمقت صلتها بتراث الأمكنة والناس. لكن ماذا لو اكتشفنا أن العالم، بقاراته الخمس، قادرٌ على أن يكون مهداً لقصيدة واحدة؟

شاكر نوري (دبي)

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
TT

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة بأنّك حصلت لتوّك على سِفر ثمين من الحكمة السياسيّة وخبرة الإدارة في المنصب التنفيذي الأهم في إحدى دول العالم العظمى، لا سيما أن الرجل جاء إلى فضاء السلطة من الصحافة كاتباً ورئيس تحرير لمجلّة سبيكتاتور الأسبوعيّة العريقة، ومؤرخاً نشر عدّة كتب مهمة - بما فيها سيرة لملهمه وينستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية - قبل أن يُنتخب عمدة للعاصمة لندن ثم رئيساً للوزراء وزعيماً لحزب المحافظين. ولعل مما يرفع وتيرة التوقعات أيضاً أنّه كان في موقع التأثير واتخاذ القرار في مراحل مفصليّة في تاريخ بلاده المعاصر، سواء الأشهر الأخيرة من عصر الملكة الراحلة إليزابيث الثانية، أو خروج المملكة المتحدة من عضويّة الاتحاد الأوروبي، أو وباء «كوفيد 19». أو الحرب في أوكرانيا، ناهيك عن شهرته عبر العالم كنسخة من دونالد ترمب على الجهة الأخرى من المحيط الأطلسي، حتى أنّه ربما يكون السياسي البريطاني الوحيد الذي يعرفه سكان هذا العالم باسمه الأول (بوريس). لكن الحقيقة أن المذكرات ورغم تضمنها مقاطع مهمة هنا وهناك ولحظات صاعقة من الصراحة، فإنها في المحصلة أقرب إلى موجة جارفة من التبرير المقعّر، والإعجاب النرجسي بالذات، وتصفية الحسابات السياسيّة ولوم للجميع لأنهم أضاعوه، ويا ويلهم أي فتى أضاعوا؟

ومع ذلك، فإن «مطلق العنان» قراءة سهلة، يتم سردها بلغة قريبة من لغة الحوار اليومي أكثر منها لغة متعجرفة كما يتوقع من خريجي المدرسة النخبوية في إيتون وجامعة أكسفورد، مع كثير من علامات التعجب، والأصوات الشارعيّة المكتوبة بحروف كبيرة، والصفات المرصوفة كجمل طويلة، والإهانات الشخصيّة لمنافسيه، والأسئلة البلاغيّة عديمة الفائدة، فيما غلب عليها مزاج من السخريّة والهزل حتى في التعاطي مع القضايا التي يفترض أنّه جاد بشأنها.

هذا النّفس الذي اختاره جونسون لسرد مذكراته (والتي قد تدر عليه دخلاً سيتجاوز الثلاثة ملايين جنيه إسترليني وفق تقديرات صناعة النشر) أفقد الكتاب كثيراً من قيمته المتوقعة كوثيقة تاريخيّة، وبدت أجزاء كبيرة منه روايات ربما يتمنى كاتبها لو كانت الحقيقة، أو ربما أعتقد بالفعل أنها كانت الحقيقة كجزء مما يسميه جونسون نفسه التنافر المعرفي الذي يصيب الساسة المغمسين في وظيفتهم القياديّة لدرجة أنهم يصابون بالعمى عن المشاكل السياسية الهائلة التي تتراكم خارج مكاتبهم. هذا سوى بعض الأخطاء التفصيليّة في تسجيل الأحداث أيضاً والتي لا يفترض أن تمرّ على مؤرخ معتّق أو على ناشره المرموق (يقول مثلاً إن حكومة حزب العمال في أسكوتلندا أطلقت سراح الليبي المتهم بتفجيرات لوكربي، فيما الواقع أنها كانت حكومة الحزب القومي الأسكوتلندي).

من الناحية الإيجابيّة فإن جونسون يضمِّن كتابه تعليقات ذكيّة حول مسائل استراتيجيّة تبدو في ميزان اليوم أفضل من أدائه الفعلي رئيساً للوزراء كما مثلاً في رؤيته لأسباب اللامساواة الاقتصاديّة بين الأجيال، وتفسيره للانقسام الاقتصادي العميق بين العاصمة لندن الكبرى وبقيّة المملكة المتحدة، وتصوّراته حول رفع سويّة الأجزاء الأقل حظاً منها من خلال برامج تحديث البنية التحتية وتكنولوجيا الاتصال والاستفادة من أموال الخزينة العامّة لجذب استثمارات القطاع الخاص، وكذلك تحوّله من منكر لتحولات المناخ إلى منذر من مخاطرها ومفسّر للحجج الأخلاقيّة والاقتصاديّة الدّاعية إلى التصدي لجذورها من أجل مصلحة الأجيال المقبلة.

أثناء زيارة لمكتبه في عام 2017 طلب منه نتنياهو استخدام المرحاض بعد ذلك، وجدت أجهزة الأمن جهاز تنصت تم زرعه هناك

يفشل بوريس في تقديم مرافعة كانت متوقعة منه بشأن دوره فيما يعرف بـ«بريكست»، أو القرار بتخلي بريطانيا عن عضوية الاتحاد الأوروبيّ. وهو يعترف بأنّه كان مشتتاً وقتها بين اعتقاده بضرورة أن تتخلص بلاده من سلطة بروكسل عليها (مقر الاتحاد الأوروبي) من ناحية، وتفهمه لمشاعر كثيرين من عائلته وأصدقائه الذين أرادوا منه دعم حملة البقاء في النادي الأوروبيّ، ويقرّ بأنه في المساء الذي أعلن فيه قراره بدعم التوجه إلى الخروج من الاتحاد، كتب نسختين من المقال نفسه، واحدة (مع) وواحدة (ضد) كي يمكنه اختبار حنكة حججه، ليجد في النهاية أن حملة تأييد البقاء افتقدت إلى الحماس، ولم تمتلك أي رسالة إيجابيّة واضحة لتقولها. في المقابل، فإن جونسون يبدو في هذه المذكرات ليس مفتقراً فحسب لأي شعور بالمسؤولية عن الفوضى التي أعقبت التصويت على المغادرة، والإدارة السيئة للمفاوضات التي قادتها حكومات المحافظين وهو فيها مع الاتحاد الأوروبي، بل يبدو غاضباً حتى على مجرد اقتراح مساءلته من حيث المبدأ متسائلاً: «وماذا بحق الجحيم كان من المفترض علينا أن نفعل؟»، بينما يقفز للعب دور البطولة منفرداً فيما يتعلق برد حكومة المملكة المتحدة على حالات التسمم النووي التي نسبت لروسيا في سالزبوري عام 2018. في وقت صار فيه من المعلوم أن تيريزا ماي، رئيسة الوزراء حينها، هي من كانت وراء ذلك الموقف الحازم. ويخلص جونسون للقول إن حزب المحافظين كان سيفوز في انتخابات هذا العام لو بقي على رأس السلطة ولم يتعرّض للخيانة من رفاقه، وهي مسألة يكاد معظم المراقبين يتفقون على استحالتها بالنظر إلى تراكم سلسلة الفضائح وسوء الإدارة وهزالة الطرح الآيديولوجي لحكومات حزب المحافظين خلال الخمسة عشر عاماً الماضية على نحو تسبب للحزب النخبوي بأقسى هزيمة له في مجمل تاريخه العريق. في المذكرات يكتب جونسون عن زيارة قام بها بنيامين نتنياهو إلى مكتبه في عام 2017، طلب خلالها رئيس الوزراء الإسرائيلي استخدام المرحاض. بعد ذلك، وجدت أجهزة الأمن جهاز تنصت قد تم زرعه هناك. وقال جونسون إنه على وفاق مع نتنياهو وإن القراء يجب ألا يستخلصوا استنتاجات أوسع حول الزعيم الإسرائيلي من تلك الحكاية!