صدرت الطبعة الأولى من كتاب «الحكاية وما فيها - السرد مبادئ وأسرار وتمارين» عام 2016، وفي الطبعة الجديدة المزيدة والمنقحة التي صدرت مؤخراً عن دار «الكرمة» بالقاهرة، يتحدث المؤلف محمد عبد النبي عن آليات وتقنيات الكتابة مستفيداً من تجربته في عقد الكثير من الورش في هذا الاتجاه كقاصّ وروائي، لكنه يتوقف بشكل خاص حول ما سماه «أوهام شائعة حول حرفة الكتابة».
يورد المؤلف نصائح الكاتبة البريطانية «زادي سميث» للكاتب المبتدئ بعدم إضافة طابع رومانسي على مهنته ككاتب، فالفكرة هنا هي أنه يستطيع كتابة جمل جيدة أو لا يستطيع ذلك؛ إذ لا يوجد ما يسمى «أسلوب حياة الكاتب»، فكل ما يهم حقاً هو ما يتركه على الصفحة. ولعلها تقصد تلك الصورة الشائعة عن الكتّاب كمخلوقات معذبة وحائرة تعيش مهددة بأشباح الإدمان والجنون، مهملين في ثيابهم وصحتهم، وهائمين على وجوههم هنا وهناك.
كلما أمعنت في رحلتك مع القراءة والكتابة اكتشفت أن هذه الصورة الشائعة لا أساس لها من الصحة، وأن المئات من كبار الكتّاب قد اتسموا بالتنظيم اليومي الصارم، والحرص على تفاصيل حياتهم، وعلى عيش حياة هادئة وممتعة.
ويلاحظ «عبد النبي» أنه كثيراً ما كانت العادات اليومية لهذا الكاتب أو ذاك تمثل فتنة وجاذبية خاصة، أو ما يطلق عليه «طقوس الكتابة»، فنادراً ما يجري أحد الصحافيين مقابلة مع كاتب من غير أن يطرح عليه سؤالاً واحداً على الأقل عن تلك العادات والطقوس الخاصة به عند الكتابة، من قبيل هل تكتب نهاراً أم ليلاً، هل تجلس لإنجاز العمل يومياً؟ هل ما زلت تستخدم الورق والأقلام أم الآلة الكاتبة أم الكمبيوتر؟ إلى آخر كل تلك الأسئلة التي لا تخص صميم العملية الإبداعية نفسها، بل تحيط بها كنشاط إنساني شأنه شأن تناول الطعام والشرب والمشي والتسلية، ما يعكس اهتماماً مبالغاً فيه بالآلية الغامضة التي يعمل بها الكاتب، وكأن معرفتنا بتلك الطقوس والأحوال قادرة على أن تضيء لنا ذلك الدرب المعتم للتفرد والعبقرية أو أن تكتشف السر المختبئ وراء عظمة التجربة الإبداعية.
ومن ناحية أخرى، يوضح المؤلف أنه قد يكمن وراء ذلك النوع من الأسئلة التماس لطلب العون من قبل المبدعين الشباب والمبتدئين رغبة منهم في الاسترشاد بهدي أحد أعلام الكتابة، فكأنها بمعنى آخر صيغة محوّرة لسؤال آخر لا يطرح وهو: ما حيلك السحرية التي تحوّل بها رماد الواقع إلى ذهب الفن الخالص؟ المفاجأة، وربما السر الحقيقي، هي أنه لا وجود لمثل تلك العصا السحرية، ولا التعويذة الغامضة التي يمتلكها كبار الكتّاب مهما زعموا العكس أو أحب معجبوهم أن يصدقوا غير ذلك، فالكتابة هي الطقس الوحيد الذي يجمع كل هؤلاء الكبار في رحابه باختلاف أحوالهم وعاداتهم. ويلفت إلى أن ما يؤكد عدم وجود هذا السحر الغامض هو مقدار ما قد تجده من تنوع شديد وتباينات عميقة في أجوبة الكتّاب المختلفين عن مثل تلك الأسئلة فبعضهم يقول إنه يقضي عدداً محدوداً من الساعات كل يوم جالساً إلى مكتبه يعمل، ولو لم يكن قد حدد بعد وجهته الإبداعية المقبلة، ويجلس على سيل التفكير في الكتابة واستحضارها. وبعضهم الآخر لا يقترب من الكتابة إلا بعد مرواغته فكرة ما، وهروبه منها أياماً أو أسابيع وشهوراً. بعضهم يتواثب بين مشروعات كتابة مختلفة، وبعضهم لا يمكنه البدء في العمل على فكرة جديدة إلا بعد إتمام الانتهاء من النص الذي بين يديه.