آشور... أول نموذج للإمبراطورية شهده العالم

أغلب ما تم تداوله بشأنها ظل حتى قبل قرنين حبيس النصوص الكلاسيكية واليهودية القديمة

نمرود... عاصمة الإمبراطورية الآشورية في القرنين التاسع والثامن قبل الميلاد
نمرود... عاصمة الإمبراطورية الآشورية في القرنين التاسع والثامن قبل الميلاد
TT

آشور... أول نموذج للإمبراطورية شهده العالم

نمرود... عاصمة الإمبراطورية الآشورية في القرنين التاسع والثامن قبل الميلاد
نمرود... عاصمة الإمبراطورية الآشورية في القرنين التاسع والثامن قبل الميلاد

في أوج صعودها، نحو عام 660 قبل الميلاد، امتدت مملكة آشور عبر الشرق من البحر الأبيض المتوسط إلى الخليج العربي، ومن النيل إلى القوقاز، وأخضعت تحت سلطتها عدة أمم وأقوام لتكون، وفق خبراء العلوم السياسية، أول نموذج للإمبراطورية، شهده العالم على الإطلاق.

وعلى الرغم من أن آشور المهيبة التي حكمت الشرق بين نحو 2000 قبل الميلاد وحتى عام 609 قبل الميلاد، ما لبثت أن أصبحت أثراً بعد عين، فإن ذكر فتوحاتها لم يخمد يوماً، أقله في الثقافة الغربية، لتخيب في ذلك توقعات اللورد بايرون في مسرحيته الشهيرة (ساردانابالوس – 1821) على لسان بطلها - الذي يبدو مستلهماً من شخصية الإمبراطور آشور بانيبال، أحد آخر حكام آشور القديمة - بأن مجد إمبراطوريته سيتلاشى يوماً ما في غياهب النسيان؛ إذ «لا بد وسيطفئ الزمان ذكر الناس، وأفعال الأبطال، وستكتسح مملكة جديدة التي قبلها، وستؤول هذي بدورها إلى حال الإمبراطورية الأولى: إلى اللا شيء «لقد عمل كتبة العهد القديم (التوراة اليهودية)، كما العديد من المؤرخين الإغريق القدماء في نصوصهم على تعداد ووصف انتصارات الآشوريين ونفوذ دولتهم العظيمة على نحو ضَمِنَ تخليد ذكرها بعد أن أصبحت تلك الكتابات من بين المرجعيات المؤسسة للثقافة الغربية المعاصرة - يرد ذكر آشور في العهد القديم نحو 150 مرة كمصدر للشرور والبطش، ويظهر اسم نينوى، آخر عاصمة لآشور، 17 مرة، إلى جانب ذكر العديد من الحكام الآشوريين من تغلث بيلسر الثالث إلى سرجون الثاني، ومن سنحاريب إلى إشارهادون.

على أن غالب ما تداوله العالم بشأن تاريخ آشور حتى قبل مائتي عام تقريباً ظل طوال معظم العصور التاريخية حبيس تلك النصوص الكلاسيكية واليهودية القديمة، ولم تتوفر قبل رحلات الاستكشاف التي شرع غربيون في القيام بها بشكل مكثف إلى الشرق بداية من منتصف القرن التاسع عشر - ولدوافع متفاوتة - أي دلائل موثقة ذات قيمة عن التراث الآشوري. وقد اعتمدت التقاليد التاريخية العربية والفارسية بدورها على النصوص القديمة ذاتها فيما أوردته عن حضارات بلاد ما بين النهرين، بما فيها آشور وبابل.

صعود البرجوازيات في أوروبا إبان القرن التاسع عشر خلق مزاجاً عاماً شغوفاً بدراسة الآثار واللقى التي تركتها الحضارات السابقة بأكثر من مجرد قراءة النصوص، ترجم بداية اهتماماً ظاهراً بالآثار المعروفة التي تركها الرومان في غير ما بلد أوروبي من بريطانيا إلى اليونان، سرعان ما تحول إلى ما يشبه الهوس بالبقايا المادية للمدن القديمة في الشرق الأوسط. وقد أدى توسع المصالح السياسية للإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية في المنطقة التي كان أغلبها خاضعاً وقتها إلى حكم العثمانيين إلى وجود دبلوماسيين ومبعوثين وجواسيس كان لكثير منهم اهتمامات شخصية بما يتعلق بحضارات العالم القديم، إلى جانب اعتبار الكثيرين منهم اكتشاف الآثار (وسرقة اللافت منها) جزءاً من دورهم كوكلاء أوروبيين في المنطقة.

في العراق كانت أطلال المدن القديمة مرئية في كثير من الأحيان على شكل تلال في مناطق خارج المدن، احتفظ بعضها في ذاكرة السكان المحليين باسمه أو على الأقل ببعض الأخبار عن تاريخها القديم. لكن العالم كان بانتظار كلاوديوس ريتش (1787 - 1820)، المقيم البريطاني المعتمد لشركة الهند الشرقية في بغداد من 1808 -1820، كي يجمع ملاحظاته على المواقع التي زارها، مع محاولة ربطها بمحتويات المصادر الكلاسيكية بالتشاور مع عراقيين، لا سيما في بحثه حول أصول الأسماء الحديثة لبعض تلك المواقع. وقد نشر ريتش لاحقاً أوصافاً مفصلة لمواقع كل من نينوى وبابل، كما جمع عدداً من الآثار العراقية القديمة التي انتهت لاحقاً ضمن مقتنيات المتحف البريطاني بلندن. على أن أول حفريات الآثار للبحث عن تركة آشور قد جرت بداية من عام 1842 من قبل القنصل الفرنسي في الموصل، بول إميل بوتا (1802 - 1870)، الذي انطلق في التنقيب من نينوى، قبل تحويل انتباهه لاحقاً إلى موقع خورسباد، حيث اكتشف قصر الملك الآشوري سرجون الثاني (حكم من 721 إلى 705 قبل الميلاد)، والذي بني نحو عام 710 قبل الميلاد.

لقد كان ما وجده بوتا مذهلاً بحق، لقد زينت جدران القصر بألواح من المرمر الجبسي نحتت عليها بحرفية عالية نقوش بارزة تصور الملك وأنشطة حاشيته وتعدد الانتصارات الآشورية، فيما كانت تحرس بوابات القصر تماثيل أسود مجنحة عملاقة تثير الرهبة. وشحن بوتا العديد من هذه الآثار إلى فرنسا، فأشعلت حماساً منقطع النظير في أوروبا. تالياً لحق به الإنجليزي أوستن هنري لأيارد (1817 - 1894) الذي بدأ بالحفر هذه المرة في موقع نمرود بداية من عام 1845، حيث اكتشف بدوره عدة قصور فارهة بناها الملوك على مدار 150 عاماً عندما كانت مدينة نمرود عاصمة للإمبراطورية الآشورية في القرنين التاسع والثامن قبل الميلاد، لتستمر أعمال التنقيب بعدها على يد عدة بعثات بريطانية وفرنسية. لكن حجم وسرعة هذه الاكتشافات كانا بالضرورة نتاج عمل لصوص آثار متسرع أكثر منه عملاً علمياً محترفاً، كما حصل هؤلاء المنقبون الأوائل بفضل علاقاتهم الدبلوماسية - والرشاوى أحياناً - على أذونات وتسهيلات من السلطات العثمانية لتصدير قطع أثرية لا تقدر اليوم بثمن إلى باريس ولندن وعواصم أخرى، فيما بيعت لقى أخرى لمبشرين أميركيين نقلوها إلى الولايات المتحدة. ولا شك أن العثور على موقع بهذه الأهمية اليوم واستكشافه وتوثيقه بالطرق الحديثة سيستغرق ما لا يقل عن 10 أضعاف الوقت الذي صرفه مغامرو القرن التاسع عشر في خورسباد ونمرود. لا بل يعمد علماء الآثار المعاصرون أحياناً لإغلاق تلك المواقع أمام العامة للحفاظ على محتوياتها الثمينة من العبث.

بناء على نتائج تلك الحفريات المبكرة، نشر المؤرخ الأميركي ألبرت أولمستيد أول كتاب متكامل في العصر الحديث حول «تاريخ آشور» (بالإنجليزية) في عام 1923 أي قبل قرن كامل بالضبط. وقد بقي هذا العمل أساساً اعتمدت عليه معظم محاولات التأريخ للحضارة الآشورية بشكل أو آخر. لكن دراسة هذه الحضارة العظيمة التي تعد بحق أم الحضارات «يجب أن تبقى مجالاً دائم التحديث» كما يقول ييل إيكهارت فراهم، بروفسور علم الآشوريات بجامعة ييل (بالولايات المتحدة) في كتابه الجديد «آشور: صعود وسقوط الإمبراطورية الأولى»؛ إذ إن الاكتشافات الأثرية الجديدة كما التحليلات الحديثة للقى القديمة بالاستفادة من أحدث معطيات التكنولوجيا «تتطلب بلا شك منا إعادة تقييم شاملة دورية للتاريخ الآشوري».

وبالفعل، فإن أعمال التنقيب الميدانية في العراق بحثاً عن بقايا العالم الآشوري القديم استؤنفت بزخم متصاعد بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها. وشارك علماء عراقيون باحثين غربيين في حملات تنقيب محترفة عديدة عثرت على كم كبير من القطع الفنية الساحرة والأثاث الفاخر والمجوهرات من مقتنيات قصور ومقابر ملكية منحت الباحثين فكرة أوسع عن طبيعة ثقافة وآداب وفنون وبيروقراطية الدولة الآشورية وعلاقاتها التجارية ومبادلات الشعوب في إطار فضائها الإمبراطوري. كما أن سرعة قراءة النقوش والنصوص القديمة بفضل الذكاء الاصطناعي مكنتهم من استقراء كمية ضخمة من المعلومات التي حملتها قطع كانت متروكة للتخزين في متاحف العالم بوقت قياسي.

يطمح فراهم إلى أن يحل كتابه مكان مجلد أولمستيد العتيد كمرجع محدث شامل لتاريخ الحضارة الآشورية، وتأثيرها المديد في مجمل تاريخ العالم القديم من بعدها، وهو مستفيد من أحدث المعطيات المتوفرة لدى علماء الآثار لينجح بالفعل في تقديم صورة متعددة الأبعاد تتجاوز بكثير سير الحرب والفتوحات والانتصارات للحكام الآشوريين لتستعرض كذلك، وضمن نص قريب وممتع حتى للقارئ العادي، جوانب القوة الناعمة التي تمتعت بها تلك الحضارة: كالنظام البيروقراطي للسلطة، والمكتبات العامة، وشبكة الطرق الملكية التي ربطت أنحاء الإمبراطورية بكفاءة لعدة قرون، والسجلات الحكومية، والأدوار الجندرية، والآداب، والفنون، والعمارة، والمهارات الصناعية والحرفية، والتي أصبح جلها مصادر إلهام استمدت منه لاحقاً الإمبراطوريات البابلية، والفارسية واليونانية والرومانية والإسلامية الكثير.

ويتضمن الكتاب أيضاً تغطية شاملة للتهديدات التي يواجها التراث الحضاري العالمي في بلد مثل العراق، حيث كل ضربة معول تخرج قطعة أثرية، بما في ذلك الغزو الأميركي، مثل تفشي ظاهرة الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط، وبالنتيجة أيضاً ضعف قدرة الحكومات المحلية على حماية الآثار من السرقة أو التخريب، الأمر الذي قد يفقدنا، وإلى الأبد، فرصاً ثمينة لتعلم المزيد عن بدايات رحلة البشر عبر تاريخ العالم، الذي يجزم البروفسور فراهم بأنه «لا يبدأ بالإغريق أو الرومان - بل بآشور».


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية
TT

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

يقدم الكاتب والباحث الراحل صلاح عيسى في كتابه المهم «عبد الرحمن الجبرتي - الإنتلجنسيا المصرية في عصر القومية» رصداً لافتاً لحقبة ملتبسة من التاريخ المصري تتعلق بفترة الحملة الفرنسية على مصر وما قبلها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.

ويعد الكتاب الصادر أخيراً عن دار «الكرمة» بالقاهرة بمثابة قراءة نقدية لسيرة واحد من أشهر المؤرخين المصريين في العصر الحديث عموماً والحملة الفرنسية التي عاصرها بشكل خاص وهو عبد الرحمن الجبرتي (1756 - 1825) صاحب الكتابين الشهيرين «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» و«مظاهر التقديس في زوال دولة الفرنسيس».

يشير عيسى في البداية إلى أن الصعوبات في اكتشاف منهج الجبرتي كمؤرخ تتحدد من خلال عدد من الحقائق، منها أن بعض الباحثين يصنفون الرجل في خانة «الإخباريين» ويرون أن كتابيه مجرد «يوميات» كُتبت في أوانها أو هي «إضمامة» تضم جهد مخبر صحافي غير نشيط.

والجبرتي عند هؤلاء صحافي تلك الأيام التي أرخ لها، وبينما يتحفظ بعضهم فيكتفون بإطلاق الحكم مع بعض قيود على كتاب «مظهر التقديس» فيقولون إن الجبرتي كان فيه كاتب مذكرات أكثر منه مؤرخاً، فإن هذا الحكم يشمل عند آخرين «عجائب الآثار» وبلا تحفظات فهو عندهم كتاب ليس من التاريخ في شيء إنما هو مذكرات وروايات قيد المؤلف شواردها بغير ترتيب ولا تنسيق، تصلح أن تكون مادة للمؤرخ مع شيء غير قليل من الصعوبة والعناء. ولأن «الإخباريين» في رأي البعض ليسوا أصحاب منهج أو موقف، فإن البحث في ذلك عند الجبرتي أمر غير وارد.

ويتفرع عن هذه الصعوبة أن الجبرتي كان معاصراً لمرحلة تزيد على خمسة وأربعين عاماً، كما تشكل أكثر من ثلث الزمن الذي أرخ له، فبعض من ترجم لهم كانت تربطه بهم وشائج وصلات بين صديق له وشيخ تلقى عنه العلم، فضلاً عن تلامذة أبيه وأنداده، حتى أن بعض الحوادث التي أرخها كان طرفاً فيها. وهو ما يجعل جهده كمؤرخ معيباً بالمعاصرة، وهي حجاب يحول دون الرؤية الموضوعية وينقله إلى حيث يصبح مجرد «شهادة معاصر» وليس تأريخاً، وبالتالي فلا محل لاكتشاف منهج أو رؤية، إضافة إلى أن الموقف يتعقد لأن الجبرتي نفسه قليل التعليقات ومعظم أخباره صماء لا يتجاوزها إلى مقارنتها أو تحقيقها أو تفسيرها، وهو يصوغ أحكامه غالباً في كلمات مبتسرة تنطوي تحت مظلة الأحكام الأخلاقية، من مثل: هذا التصرف «ظلم» أو «سخافة» أو «خزعبلات»، وهذا الأمر «شنيع جداً». وهذا الشخص «لعين» أو «كافر»، وبعضها عبارات لا تعكس رأياً في الحدث ولكن استكمالاً للخبر.

لكن صلاح عيسى الذي كتب هذا الكتاب في السبعينيات، وينشر لأول مرة بعد وفاته يعود بحسه كمؤرخ ويؤكد أن تصنيف الجبرتي في خانة «الإخباريين» بشكل مطلق هو خطأ بلا جدال، ولكننا مع افتراض صحته لا نرى أن الإخباريين ليسوا أصحاب منهج أو موقف. والواقع أن اختيار أخبار معينة وإهمال غيرها والحرص على الترجمة لأفراد معينين وترك الآخرين، لهو سلوك يعكس بحد ذاته وجهة نظر ضمنية. وعلى سبيل المثال، فإن الجبرتي في «مظهر التقديس» أغفل من حوادث شهر ربيع الأول 1216. وفق التقويم الهجري، وشهر ربيع الثاني من العام نفسه أكثر من نصف حوادثهما. وعاد في كتابه الثاني «عجائب الآثار» فأورد حوادث الشهرين متكاملة بحسب جهده في التجميع.

ويفسر حجب هذه الأخبار ثم إيرادها موقفاً له، فقد كانت كلها تسجيلاً لقبائح وجرائم ارتكبها العثمانيون عندما دخلوا القاهرة مرة أخرى. وبصرف النظر عن دلالة هذا فيما يتعلق بموقفه من العثمانيين، فهو أيضاً يعكس دلالة على أن الخبر ليس دائماً عرضاً لواقع أصم، ولكنه اختيار من هذا الواقع وما يتحكم فيه هو وجهة النظر أو المنهج، بل إن ترتيب بعض مباحث الكتاب نفسها يمكن أن يكون ذا دلالة.

ويرى صلاح عيسى أنه برغم أن معاصرة المؤلف للحقبة التي يرويها عنصر له تأثيره، فإن هذا التأثير يقل كثيراً هنا، لأننا نعلم أن الجبرتي لم يسجل أخباره هكذا في حينها تاركاً إياها مادة خام دون تنسيق أو تعديل. لافتاً إلى أن الدافع للجبرتي على كتابة تاريخه معروف فقد كلفه أستاذه الزبيدي في عام 1779 حين كان الجبرتي في الخامسة والعشرين من عمره بمساعدته في الترجمة لأعلام المائة المنصرمة من مصريين وحجازيين، والمراحل التي مر بها تاريخ القرن الثالث عشر الهجري، ثم دوّن بعد ذلك يوميات للمراحل التي عاصرها. المهم في هذا كله ّأن النص الذي تركه لنا الجبرتي ليس هو نص تدويناته اليومية التي كان يسجلها، ولكنه عمل تفرغ له فيما بعد لإعادة تنسيق ما كتب وتبويبه وكان وقتها قد جاوز الخمسين من عمره.

كما أن بعض الظواهر التاريخية كانت قد استكملت ملامحها، وهو بالقطع ما أتاح للجبرتي فرصة للتخلص من تأثير المعاصرة في حدودها الضيقة ومكنه من استخلاص نتائج ربما لم تكن واضحة أمامه وهو يسجل الأحداث اليومية وقت حدوثها ونقل عمله بدرجة محدودة من إطار الأخبار الأصم إلى أفق أكثر رحابة.

ولأن التاريخ عند الجبرتي هو تحقيق لإرادة عليا لا يملك الإنسان الفكاك منها وكل ما حدث له من مظالم هو «انتقام سماوي» لخروجه عن الناموس، فقد كان طبيعياً أن ينظر إلى التكوين الاجتماعي باعتباره خاضعاً لتركيب طبقي حديدي يخضع فيه الصغير للكبير والدنيء للشريف والأدنى للأعلى. في هذا الصدد يبدو الجبرتي أكثر تزمتاً من أي شيء آخر، فكل شيء لا يداني عنده الإخلال بالتصميم الاجتماعي المستقر، فعلى المماليك وهم القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية المتنامية والقادمة من خلفية العبودية والرق أن يتبعوا التقاليد تجاه أمرائهم، فإذا ما خرجوا عنها أثاروا غضبهم. ومن ثم يرى الجبرتي أن من الأحداث التي تستحق الرواية أن المماليك قد تزوجوا وصار لهم بيوت وخدم ويركبون ويغدون ويروحون ويشربون وفي أيديهم شبكات الدخان من غير إنكار وهم في الرق ولا يخطر ببالهم خروجهم عن الأدب لعدم إنكار أسيادهم وترخيصهم لهم في الأمور.

لم يكن غريباً أن يكون من أعمال «هيئة الديوان»، التي كان الجبرتي من أعضائها على عهد قيادة الجنرال مينو للحملة الفرنسية، أن يحذر القائد الفرنسي الذي خلف نابليون بونابرت من الثورة الشعبية، وأن يصوغ تحذيره في أن الثورة يقوم بها الدهماء فلا يخسرون شيئاً، وإنما يخسر الذين يملكون المال أو النفوذ، فقد ذكر أن أعضاء الديوان المذكور دعوا مشايخ الحارات والأخطاط وحذروهم مما يترتب على قيام المفسدين وجهل الجاهلين، وأن مشايخ الحارات هم المأخوذون بذلك كما أن من فوقهم مأخوذ عنهم، فالعاقل يشتغل بما يعنيه.

ومع ذلك، لا يبدو الجبرتي في تأريخه لثورة 1805 التي قام بها المصريون ضد الاحتلال الفرنسي للبلاد، معارضاً لها، بل إننا نستشعر روحاً من التعاطف في روايته لأحداثها، فقد خلت عباراته من أوصاف «الأشرار» و«أوباش الناس» في وصف الجماهير. وفي كل المناقشات التي دارت بين قادة الثورة والوالي العثماني والتي كان الثوار فيها يستندون إلى أن من حقهم بمقتضى الشريعة أن يعزلوا ولي الأمر إذا سار فيهم بالظلم، بدا الجبرتي موافقاً على هذا الرأي ووصف رفض الوالي له بأنه «خلاف وعناد».