المستقبل لحضارة تنويرية كونية تشمل جميع شعوب الأرض

القاموس الفلسفي لأندريه كونت سبونفيل

كومت سبونفيل
كومت سبونفيل
TT

المستقبل لحضارة تنويرية كونية تشمل جميع شعوب الأرض

كومت سبونفيل
كومت سبونفيل

صدرت أخيراً الطبعة الثالثة المزيدة والمنقحة من القاموس الفلسفي الضخم لأندريه كونت سبونفيل. يحتوي هذا القاموس على 2267 مادة، أي بزيادة 613 مادة قياساً إلى الطبعات السابقة. وتبلغ عدد صفحاته 1440 صفحة. وفيه يتحدث المؤلف عن معظم المفاهيم الفلسفية التي تهمنا كمفهوم الحضارة والبربرية والأصولية والعلمانية والحقيقة... إلخ. يعدّ أندريه كونت سبونفيل أحد كبار فلاسفة فرنسا المعاصرين بالإضافة إلى لوك فيري وريمي براغ وآخرين. وهو يتميز بوضوح الفكر على عكس الفلاسفة الغامضين المعقدين الضبابيين. لقد أوهمونا في الجامعات العربية، وبخاصة جامعة دمشق، أن الفلسفة لكي تكون عظيمة وفلسفية حقاً وحقيقة ينبغي أن تكون غامضة عسيرة على الهضم بل مستحيلة على الفهم، الفهم! كلما كانت معقدة ومبهمة وملغزة كانت أفضل! وهذا مفهوم خاطئ عن الفلسفة وينبغي أن يتغير. فالفلاسفة الكبار كلهم يريدون أن يقولوا لنا شيئاً ما بشرط أن نبذل الجهد الكافي لفهمهم. وإذا لم نستطع فهم ديكارت وكانط وهيغل ونيتشه... إلخ مباشرة فلنستشر هذا القاموس الذي يوضح لنا ما استغلق علينا من مفاهيم عويصة لكبار الفلاسفة. سوف أتوقف هنا عند مفهومين فقط استفاض الفيلسوف الفرنسي المعاصر في شرحهما في قاموسه هذا. الأول هو مفهوم صدام الحضارات، والثاني هو مفهوم العلمانية.

نحن نعلم أن كتاب صموئيل هانتنغتون صدر عام 1996 ولكنه لم يلقَ كل هذه الأصداء الواسعة إلا بعد ضربة 11 سبتمبر (أيلول) الإجرامية الكبرى عام 2001. وعندئذ أخذ الكتاب كل أبعاده، بل تبين كأن الضربة جاءت للتصديق الكامل على أطروحته الاستباقية القائلة إن الصدام الأساسي في العصر المقبل سيكون بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية. لكن ماذا تعني أطروحة صدام الحضارات بالضبط؟ إنها تعني ما يلي؛ لم يعد تاريخ كوكبنا الأرضي يتمحور حول علاقات القوة الصراعية بين الدول كما كان يحصل سابقاً حتى نهاية الحرب العالمية الأولى. ولم يعد هذا التاريخ يتمثل بالصراع بين الآيديولوجيات، وبخاصة الآيديولوجيا الشيوعية والآيديولوجيا الليبرالية كما حصل بعد الثورة البلشفية عام 1917 حتى انهيار الكتلة الشيوعية عام 1989. وإنما أصبح صراعاً بين الكتل الحضارية والدينية الكبرى، وبخاصة الحضارة الغربية والحضارة العربية الإسلامية.

رأي سبونفيل بصدام الحضارات

يقول لنا في هذا القاموس العتيد ما معناه؛ تبدو الأطروحة ظاهرياً صحيحة ولكنها خاطئة في العمق أو قل إنها تمر على هامش ما هو أساسي. فالشيء الأساسي في نظره ليس الصراع بين الحضارات المختلفة من صينية كونفشيوسية، وروسية سلافية أرثوذكسية، وغربية أوروبية أميركية، وعربية إسلامية... إلخ. وإنما الشيء الأساسي هو الانبثاق البطيء والطويل والصعب، ولكن الحتمي، لما يدعوه بالحضارة الإنسانية التنويرية الكونية. وهي التي ستدخل في صدام مع كل الحضارات الخصوصية المنغلقة على ذاتها. هنا يكمن الصدام الحقيقي بالفعل. إنه بين الحضارة الكونية والأصولية الانغلاقية التكفيرية. وهو يقصد بالحضارة الكونية حضارة العولمة الاقتصادية والتكنولوجية والمعلوماتية التي ستفرض نفسها على جميع شعوب الأرض عاجلاً أو آجلاً. كما يقصد حضارة حقوق الإنسان والمواطن ونبذ الطائفية والعنصرية. ما هي طبيعة هذه الحضارة على المستوى الثقافي؟ يقول المؤلف ما معناه؛ يصعب علينا تحديدها بدقة، ولكن يمكن أن نأخذ فكرة عنها من خلال الرموز الكبرى التي تجسدها. وهذه الرموز المثالية العليا في نظره هي غاندي، ومارتن لوثر كنغ، ونيلسون مانديلا، وفاكلاف هافيل، وآخرون كثيرون. هذه الشخصيات مثلت القيم العليا للتسامح الواسع الذي يتجاوز العصبيات العرقية والطائفية والمذهبية. وهنا تكمن سمة الحضارة الإنسانية التي ستهيمن علينا في عصر العولمة الكونية. والشيء الهام الذي سيحصل هو التالي؛ الصدام لن يكون بين الحضارات ككتلة واحدة صماء بكماء عمياء، وإنما سيكون داخل كل حضارة على حدة. بهذا المعنى يقول الفيلسوف أندريه كونت سبونفيل إنه يشعر بالقرابة مع المثقفين العرب والمسلمين المستنيرين أكثر مما يشعر بالقرابة مع الفاشيين الأوروبيين أو الغربيين عموماً. بل إنه لا يشعر بأي قرابة مع هؤلاء الأخيرين على الإطلاق. وهنا يكمن النقص الكبير لأطروحة صموئيل هانتنغتون. فهي لم تأخذ بعين الاعتبار ذلك الصراع المندلع داخل كل حضارة بين التيار التقدمي والتيار الرجعي، بين التيار التنويري والتيار الأصولي الظلامي. فمثلاً نلاحظ أن الصراع داخل العالم العربي الإسلامي مندلع بين تيارين أساسيين. هما التيار الإنساني النهضوي والتيار «الإخواني الداعشي» الرجعي. الأول يفهم الإسلام بطريقة تنويرية، والثانية يفهمه بطريقة ظلامية. وقل الأمر ذاته عن بقية الحضارات البشرية. إنها منقسمة على نفسها ومتصارعة مع ذاتها أكثر مما نظن وأكثر مما هي متصارعة مع الكتل الحضارية الأخرى.

ثم يطرح المؤلف التساؤلات المتلاحقة التالية؛ كم هو عدد الأوروبيين المستنيرين الذين يضعون الكتاب المقدس للهنود (الفيدا) على مستوى الكتاب المقدس المسيحي؟ كم هو عدد المثقفين الذين يضعون بوذا على نفس مستوى السيد المسيح؟ كم هو عدد الذين يضعون كونفشيوس عالياً مثل سقراط أو ديوجين؟ كم هو عدد الذين يضعون المسلم العبقري المتسامح ابن عربي عالياً مثل المعلم المسيحي إيكهارت؟ كم هو عدد الذين يضعون الدلاي لاما عالياً مثل البابا بنوا السادس عشر، بل فوقه؟

إذن هناك حضارة بشرية كونية آخذة في التشكل والانبثاق. والدليل على ذلك أن المثقفين المشارقة والأفارقة أصبحوا مهتمين بكبار رموز الفلسفة الغربية من أمثال ديكارت، وكانط، وهيغل... إلخ. صحيح أنه توجد ثقافات متعددة في العالم، وكل واحدة ذات نكهة خاصة ولغة خاصة ومرجعيات تراثية خاصة. وهذا شيء جيد، فالتنوع أفضل من الأحادية النمطية. ولكن نلاحظ أن هذه الثقافات المتنوعة والمختلفة أخذت يتقارب بعضها مع بعض أكثر فأكثر. وما عدا الأصوليين المتعصبين المنغلقين على أنفسهم وقوقعتهم الدوغمائية المتحجرة، فإن جميع شعوب العالم أصبحت تتقارب وتتعايش وتتفاهم، بعضها مع بعض، من خلال ثقافة العولمة وقيمها الإنسانية الكونية.

أخيراً، يرى المؤلف أن الصدام بين الحضارات إذا ما حصل سيقود البشرية إلى هلاكها وحتفها. وحدها الحضارة العالمية الكونية الواحدة يمكن أن تنقذ البشرية. لكن ما سمات هذه الحضارة؟ في نهاية المطاف يقول لنا الفيلسوف الفرنسي المعاصر ما يلي؛ إنها حضارة تنويرية، علمانية، ديمقراطية، تتقيد بحقوق الإنسان وتحترمها. هذه هي الحضارة العالمية التي ستنقذنا من براثن التعصب الأعمى والانغلاق الأصولي والإرهاب. ينبغي أن يعلم الجميع ما يلي؛ الكرة الأرضية واحدة مشتركة لنا جميعاً. والبشرية واحدة رغم تنوع الأجناس واللغات والأديان والقوميات. والاقتصاد العالمي أصبح واحداً مترابطاً أكثر فأكثر. وبالتالي فلم يبق علينا إلا أن نخترع الحضارة الإنسانية الكونية التي تتماشى مع كل ذلك.

 

 

 

 

 

 

العلمانية حسب القاموس

بالنسبة له فإن جوهر الحضارة الكونية الإنسانية المقبلة يتمثل في العلمانية. لا حضارة ولا حداثة ولا نزعة إنسانية من دون دولة مدنية علمانية. ولكن ماذا تعني العلمانية؟ على عكس ما يشاع وبخاصة في العالم العربي الإسلامي فإن العلمانية لا تعني الإلحاد على الإطلاق. ولا تعني معاداة الأديان على الإطلاق، بل احترامها كلها، لكن مع وضعها على قدم المساواة، وعدم التمييز بين المواطنين على أساس طائفي أو مذهبي. الجميع متساوون أمام مؤسسات الدولة بغض النظر عن أصولهم الطائفية أو المذهبية. هذه هي العلمانية. من المعلوم أن التيارات «الإخوانية» الأصولية تخوف الناس منها وتحذرهم قائلة؛ هذا كفر، هذا إلحاد، هذا خروج على الدين... إلخ. كل هذا غير صحيح على الإطلاق. العلمانية بحسب رأي المؤلف هي تنظيم معين للمجتمع يتيح التعايش السلمي بين مختلف مكونات هذا المجتمع من دينية ومذهبية وطائفية. من دونها لا تعايش ولا سلام أهلي وإنما صراع وحروب ومجازر طائفية كما كان يحصل في فرنسا قبل انتصار العلمانية التنويرية وكما يحصل حالياً في العالم العربي والإسلامي الذي لم ينتصر فيه التنوير بعد. باختصار شديد الدولة العلمانية تطبق المبدأ الأساسي التالي الذي طالما نص عليه فلاسفة النهضة العربية؛ الدين لله والوطن للجميع. ولكن مشروع «الإخوان المسلمين» الذي ظهر على يد حسن البنا عام 1928 أجهض مشروع النهضة التنويرية العربية الذي كان صاعداً بشكل رائع منذ بدايات القرن التاسع عشر. ثم فرخ المشروع «الإخواني» البغيض كل حركات الظلام والقتل والإرهاب من «القاعدة» إلى «داعش» إلى «النصرة» إلى «بوكو حرام» إلى «الطالبان»... إلخ. وأصبحت النهضة العربية حلماً بعيد المنال. ولكنها ستعود حتماً، بل إنها عادت بعد سقوط «ربيع الإخوان المسلمين» وتجاوز الموجة الأصولية الظلامية كلها. ما بعد حلكة الظلام المطبقة إلا انبلاج الفجر!

أخيراً، فإن العلمانية تعني حرية الضمير والمعتقد، أي حرية أن تتدين أو لا تتدين ومع ذلك تظل مواطناً لك كافة الحقوق وعليك كافة الواجبات. كل متدين مواطن بالضرورة ولكن ليس كل مواطن متديناً بالضرورة. هذه مسألة شخصية بينك وبين ربك. الدولة لا تحاسبك إذا لم تذهب إلى الكنيسة يوم الأحد لحضور القداس والصلاة. هذه مسألة شخصية تخصك وحدك. ولكنها تحاسبك إذا ما قصرت في عملك كمدرس أو طبيب أو مهندس أو وزير أو زبال حتى رئيس جمهورية!



«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.