هل تصلح القراءة أن تكون مهنة؟

مكافأتها متعة وخبرة وترميم ما انكسر من أرواحنا

هل تصلح القراءة أن تكون مهنة؟
TT

هل تصلح القراءة أن تكون مهنة؟

هل تصلح القراءة أن تكون مهنة؟

تفكّرتُ كثيراً في غلاف الكتاب الماثل أمامي. مثّل عنوانه «مهنة القراءة» صدمة قوية لي لم أختبر مثيلاتها من قبلُ. نحنُ نقرأ منذ سنوات بعيدة، لكننا أغفلنا التساؤل؛ هل نقرأ من أجل أن تكون القراءة مهنة لنا؟ هل القراءة مهنة حقيقية؟ حتى لو كان ممكناً من الناحية الواقعية أن تكون القراءة مهنة؛ فهل يجب أن نجعلها مهنة؟لا أحسبُ أنّ مؤلف الكتاب (برنار بيفو، وهو كاتبٌ فرنسي ومقدم برامج ثقافية شهير)، أو مترجم الكتاب، وهو الناقد المغربي سعيد بوكرامي، قصدا بمهنة القراءة أي توصيف يفهم منه القارئ أنّ القراءة مهنة بالمعنى المتداول؛ عملٌ يتقاضى معه القارئ أجراً يعتاشُ منه. صحيحٌ أنّ بعض المهن في هذا العالم تقتضي قراءات مسهبة في ميادين محدّدة؛ لكن القراءة فيها فعلٌ ملحقٌ بوظيفة أكبر من فعل القراءة ذاته. مهنة القراءة التي أرادها المؤلف وأوحى بها بطريقة مضمرة هي توصيف رمزي لمن عشق القراءة منذ أطواره الأولى في الحياة حتى بدت كأنها مهنة له، وما هي كذلك.أذكر في هذا المقام واقعة كتب عنها الفيزيائي ذو الصيت العالمي بول ديفيز قائلاً إنه شعر منذ بواكير حياته الأولى أنه خُلِقَ ليكون فيزيائياً نظرياً، وعندما أخبر والديه برغبته بعد إكماله الدراسة الثانوية في الالتحاق بقسم الفيزياء في الجامعة، قال له أبوه: «بُنَي، هل تتصورُ أنّ أحداً ما في هذا العالم سيدفعُ لك مالاً لكي تجلس وتتأملَ في هذا الكون وقوانينه الأساسية؟ لا أحد سيدفعُ لك مالاً إلا إذا قمتَ بعمل حقيقي!!». كان الأب على خطأ بالطبع؛ فقد صار ابنه لاحقاً اسماً كبيراً في عالم الفيزياء والكوسمولوجيا والكتابة، واجتنى مالاً وفيراً من عمله أستاذاً جامعياً وكاتباً حققت كتبه مبيعات كبيرة.يمكنُ أن تصحّ مشابهة رأي والد بول ديفيز مع فعل القراءة؛ لا أحد سيدفعُ لك مالاً إذا ما قرأت معظم كلاسيكيات أدب العالم أو أدبه الحديث والمعاصر، أو إذا تابعت قراءة ما يُتاحُ لك من الإصدارات العلمية الحديثة بلغاتها الأصلية أو مترجمة. القراءة فعالية تكافئ نفسها بنفسها تسامياً وانتشاء، ومتعة روحية عميقة، ونقلاً للروح البشرية إلى مرتقيات جديدة، وتحصيلاً لخبرات أكبر من أن يحوزها فرد واحد في حياة واحدة.لكن، في سياق تجربة فكرية، دعونا نتصور إمكانية أن تكون القراءة مهنة؛ بمعنى أن يأتيك جني المصباح السحري ليعرض عليك عرضاً واضحاً؛ اقرأ 10 كتب في الشهر، مثلاً (لا بأس أن يختارها الجني) وسأتكفلُ أنا بتكاليف معيشتك عيشة رفيعة المستوى. قد يبدو العرض مغرياً؛ بل أفضل من المقايضة الفاوستية المعروفة، لأنك لن تبيع روحك للشيطان ولن يُطلَبَ منك شيءٌ في مقابل القراءة. أن تقرأ وحسب، هذا هو كل ما مطلوب منك أن تفعله. ماذا يعني أن تحصل على مال لقاء فعل قراءة خالص، ولا شيء سواه؟ هل فكّرت بجدية في هذا الأمر؟ ستذوي رغبتك في القراءة مع الأيام، وستتحوّلُ ماكينة للقراءة لا تشعرُ بما تفعل بسبب غياب الفعل المحفز على الحياة، الذي يشعرُ معه الفرد بأنه كائن يعيش ويتنفس. أن تنهض صباحاً وتذهب للعمل خيرٌ ألف مرة من أن تتعفن في فراشك متراخياً كسولاً، ولعلّ جان بول سارتر كشف عن هذه الحقيقة عندما كتب أنّ أجمل سنوات حياته عاشها وقتما كان عضواً فاعلاً في المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال الألماني. كان سارتر حينها عرضة للموت كلّ لحظة، ومع مجابهة الموت تتعاظم قيمة الإحساس بالحياة.كلّ مهنة فيها جانب استلابي لا نرتاح إليه؛ لذا قيل في الأمثولات المتداولة: «سعيدٌ من كانت هوايته هي مهنته». قد تصلحُ هواية ما أن تكون مهنة تأتي بمال يكفي متطلبات عيشة مستورة؛ لكنّ هذا لا يصحُّ مع القراءة، ولا يجب أن يصح.كل الناس في العالم يقرأون، أينما كانوا وفي كل الأوقات، تراهم على الدوام يمسكون كتباً ورقية أو إلكترونية أو صوتية متاحة في الوسائل الإلكترونية الحديثة. هل انتبهتَ أنهم يقرأون خارج نطاق وقت الوظيفة؟ القراءة ليست وظيفة إذن بقدر ما هي فعلٌ يمثل واحة استرخاء خارج الوظيفة؛ لذا لا أحد منهم يهتمُّ بنشر قوائم طويلة عن كتب قرأها في الشهر الفلاني أو السنة الفلانية. اقرأ 100 كتب أو ألفاً. لن يعني الأمر شيئاً للآخرين، وليس في هذا الأمر مأثرة لك. الأساس هو أن تقرأ وتتلذذ بما تقرأ وتجعله خبرة مضافة لك؛ أما أن تجعل من نفسك إعلاناً استعراضياً لماكينة قراءة بشرية فليس بالأمر الذي سيلقى هوى لدى آخرين. اقرأ وتلذذ بما تقرأ، هذا هو منتهى الأمر وخلاصة الحكمة في القراءة.القراءة فعلٌ نرتاحُ إليه ونحن في خلوة محببة، ونفعله إرضاءً لنا، لا لغيرنا، ولسنا نطلبُ منه مكافأة سوى مكافأة المتعة والخبرة وترميم ما انكسر من أرواحنا في هذه الحياة، ومواصلة العيش بقلب ثابت يقوى على المشقات.القراءة فعلٌ منقاد بقرار شخصي، دافعه الأساس هو الرغبة في قراءة هذا الكتاب أو ذاك. ثمة ملايين الكتب المتاحة للقراءة في يومنا هذا، وبخاصة في عصر القراءة الإلكترونية الذي جعل من التحسّر على قراءة كتاب ما ذكرى مطوية في غياهب النسيان. نحنُ نختارُ الكتاب الذي نريد قراءته بحسب إعداداتنا المسبقة، من يشأ قراءة الروايات والاكتفاء بها فله ذلك، ومن يشأ قراءة كتب التقنية أو الفلسفة أو الاقتصاد أو السياسة أو الاجتماع فله ذلك أيضاً. أنت في النهاية تختارُ الكتب التي تسعدك لأنها تتوافق مع إعداداتك المسبقة، ولا أظنُّ أنّ أمراً ما في هذا العالم يمكن أن يُرغِمَ أحدنا على قراءة ما لا يرغبه إلا في حدود ضيقة للغاية يمكن تجاوزها فيما بعد. في القراءة أنت الفاعل الأكبر. أنت من تحدّدُ الكتب التي تختارها اختياراً يتوافق مع ذائقتك ويحقق انتشاءك العقلي والنفسي. لا كتابَ عصياً على القراءة أمامك متى ما امتلكت الإعدادات اللازمة لقراءته.في القراءة ومن خلالها يمكنُ أن نُسعد بمعاينة «القمم» الفكرية التي بلغها بعضُ بني البشر. سنتوقفُ كثيراً عند قراءة عبارة حتى مفردة. سنعيدُ قراءة بعض الفصول مرات ومرات، وقد نضيفُ الكتاب إلى قائمة الكتب التي ساهمت في تشكيل عقولنا وأرواحنا ثمّ نعيدُ قراءتها بين حين وآخر مثلما نفعلُ مع المسرحيات الشكسبيرية أو بعض أعاظم مؤلفات عصر النهضة أو كتابات أكابر ناثرينا العرب. القراءة في النهاية سعي وراء الكمال الذي نلمحه في الآخرين وليس فينا.القراءة فعلٌ بشري قصدي ينطوي على تَوْق وطهرانية، التوقُ إلى استكشاف عوالم جديدة لم نختبرها على المستوى العياني لأنه لا سبيل مادياً لنا إليها؛ لذا يكون البديل المعقول هو الاستكشاف الرمزي لها عبر فعل القراءة. أما طهرانية القراءة فتنبعُ من أنك لا تسعى من ورائها إلى نيل مكافأة فورية. القراءة تكافئنا بالتأكيد؛ لكنّ مكافآتها تتجلى في لذّات عقلية يستعصي فهمها وتقدير أهميتها من جانب كلّ من لم يختبر سحر القراءة في حياته.كلُّ من استطاب القراءة وعدّها شرطاً لازماً لمعيشه اليومي يدرك تماماً الحقيقتيْن التاليتيْن...1. القراءة استكشاف لا نهائي لعوالم متوازية. يعيش الكائن الحي حياته خاضعاً لسلسلة من المحدوديات. هذا أحد قوانين العيش التي لا نستطيع التفلّت منها. واحدة من أهمّ وظائف القراءة مدُّ نطاقات قدراتنا العقلية والحسية عبر تمثّل خبرات أناسٍ آخرين. وبهذا الفهم تكون القراءة بمثابة عيش حيوات إضافية.2. القراءة ترويض للكائن الضوضائي الذي يكمن فيك. العالم مكان ينتجُ الضوضاء ويعيش فيها. ثمّة من يستطيب هذه الضوضاء ويجعلها إطاراً لازماً لحياته؛ لكن في الوقت ذاته هناك من يُعلي قيمة أن تخمد هذه الضوضاء الدنيوية حتى يُتيح لعقله حرية التفكّر الهادئ في أفكار شتى. يجب أن تبتعد عن العالم لتتسنى لك مراقبته ومحاكمته وعدم الوقوع أسيراً للمعتقدات الجمعية الحاكمة له. القراءة هي التي تمنحك هذه الرفاهية النفسية والأخلاقية.لا تفارق ذهني صورة متخيلة أراها كثيراً، كم كانت حيرة كلكامش ستبدو عظيمة لو عرف بوجود مخلوقات في الكون اسمُها «الكتب». أظنّهُ كان سيُبطِلُ رحلة بحثه الملحمي عن الخلود. ما لَهُ والخلود لو كان سيخلدُ بين دفتي كتاب؟ الخلود هو خلود الأفكار في نهاية المطاف. ليس ما يخلدُ في هذا العالم سوى شيئين اثنين؛ الكتب (لتكن الأفكار، لا فرق!)، والأفعال النبيلة. كل ما سوى ذلك قبضُ ريحٍ مآلُهُ إلى عدم مستديم.القراءة أعظم من أن تكون وظيفة. تاق بورخس، أحد «أعظم الرائين» في عالمنا، لأن تكون الجنة مكتبة. هل ثمة من يجرؤ على مناكفة بورخس في توقه هذا؟


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.