تتعرض المخرجة كاثرين بيغلو، في فيلمها الجديد «بيت من الديناميت» (A House of Dynamite) لاحتمال اشتعال حرب نووية في يومنا هذا بين الولايات المتحدة وجهة مجهولة أطلقت صوب أميركا مقذوفة نووية لا يمكن التصدّي لها.
لا يؤكد الفيلم مصدر الصاروخ الآتي من بعيد، قد يكون روسياً أو صينياً أو كورياً شمالياً. قد تكون جهة أخرى استحوذت على هذا السلاح سرّاً وقررت محو مدينة أميركية أو اثنتين بها.
عدم التحديد يساعد الفيلم على أن يتناول الحدث من دون تحديد المعتدي على طريقة «نحن وهم». الفيلم ليس الأول في نوعه ومضمونه، فهو ينتمي إلى تلك المجموعة التي تداولت احتمال نشوب حرب نووية. لكن ما هو جديد تماماً فيه أن مخرجته تحدد دقيقة وراء دقيقة ما قد يحدث إذا ما واجهت أميركا هذا الخطر.

كارثة محقّة
لا يترك الفيلم مجالاً للتخمين. هذا ما قد يقع فعلاً واحتمالات وقوعه على النحو الذي نراه هي أعلى من أي احتمال آخر. القناعة بأن الحرب النووية لن تقع لا تفيد هنا لأن المخرجة الجسورة ضبطت الفيلم على احتمالات وقوع الهجوم ونجحت في تبرير وجودها: صاروخ نووي يعبر المحيط الهادي متّجهاً إلى ولايات الوسط الأميركي. ليس هناك من مقدّمة تمهّد لما سيقع. الصاروخ في الجو والتفسير الأول لدى وزارة الدفاع بأنه من الممكن أن يكون هناك خطأ ما في الأمر. لاحقاً يتحوّل الاحتمال إلى ريبة والريبة إلى واقع. عندها تكون العاقبة كارثية والصاروخ وصل وفشل اعتراضه.
نمضي مع جهات أميركية مسؤولة كل منها يعيش ظروفاً مختلفة تؤدي إلى قدر واضح من سوء التواصل. حتى وزير الدفاع الأميركي باكر (جارد هاريس) يبدو حائراً في الوصول لقراءة واضحة لما يدور. رئيس الجمهورية نفسه (إدريس ألبا) لم يتعامل سابقاً مع وضع كهذا ولا يبدو أنه يستطيع فعل أي شيء. لا يستطيع شن حرب ضد جهة ربما ليست من بادرت بالاعتداء.
شخصيات الفيلم متعددة لكن كابتن ووكر (ربيكا فرغوسن) هي المحور. تحاول إيضاح الموقف للجميع وبعضهم يتجاوب معها أسرع من بعض آخر. كثرة الشخصيات لا تشكّل عبئاً على الفيلم والمخرجة تكتفي بإشارات دالّة لكن موجزة للوضع الخاص والعائلي لكل شخصية. إشارات كافية لمد الموضوع بهامشه الإنساني. تحقق فيلماً لا ينتمي إلي تلك الأعمال السابقة التي تتحدّث عن أخيار وأشرار أو عن بطولات فردية تتميّز بالمهارة والذكاء. في الحقيقة، ليس هناك من أبطال في هذا الفيلم. البطل الوحيد هو الواقع الذي تدفعنا إليه مخرجة تعرف تماماً ما تريد وكيف تنجزه.

كارثة لابد منها
تُبقي المخرجة بيغلو («دترويت»، «زيرو دارك ثيرتي»، «خزانة الألم») التشويق متواصلاً والعلاقات بين الشخصيات تتماوج بين التفهم والتوتر. شخصياتها أدركت أن كل ما يحدث الآن وفي الساعات القليلة (ثم الدقائق الأقل) القادمة بات من المحال تفاديه. يتم إطلاق صاروخ مضاد لكنه لا يُصيب الهدف. بين شخصيات الفيلم هناك رغبة في شن حرب ما وأخرى في معرفة من أطلق الصاروخ قبل الرد المحتمل. هناك حيرة وتخبّط ومواقف متناقضة، وكذلك هناك نواحٍ إنسانية لمدنيين يجهلون ما يقع وقلّة يتم تحذيرها. الجميع تحت ضغط لا يُحتمل، وهذا الضغط النفسي ينتقل، من دون خيار، إلى المشاهد كونه يدرك على الفور أن الفيلم لا يدور حول «ماذا لو...»، بل حول مدى استعداد الجهة التي تتعرّض للاعتداء لتفاديه، وعندما يصل الجواب بأنه ليس هناك من شيء يمكن فعله فإن العقل يبدأ في العمل مدركاً الفخ الذي نحن فيه.
بذا تبدو أفلام النكبة النووية السابقة دراميات يخرج منها المُشاهد بأسئلة ينساها في اليوم التالي. هنا يختلف الوقع. بيغلو وفيلمها لا يمضيان في منهج الدراما التي تريد أن تثير التشويق لأنه الخيار المناسب. المفاد الأخير هو أنه لا احتمالات نجاة إذا ما وقعت الحرب النووية. الفيلم في الوقت ذاته ليس مستقبلياً ولا يصوّر ما بعد الكارثة بل يبقى في أتون وقوعها.
نبوءة
هذا فيلم بيغلو الروائي الطويل الحادي عشر. قبله تناولت موضوعات شاقّة من حرب العراق في The Hurt Locker («خزانة الألم»، 2008) إلى تعذيب المشتبه بهم للوصول إلى موقع بن لادن لاغتياله (Zero Dark Thirty) «زيرو دارك ثيرتي» ومعناه العسكري «الثانية عشر والنصف ليلاً»، 2012) والوضع العنصري في الولايات المتحدة في Detroit («دترويت»، 2017). هذا الأخير كان آخر عمل حققته بيغلو قبل هذه العودة. مثل أفلامها السابقة كلها «بيت الديناميت» محكم كعمل ومتميّز فنياً وسياسياً.
قبل هذه المجموعة سارت بيغلو في درب الأعمال التي عادة ما تُسند إلى مخرجين ذكور مثل «قرب الظلام» (Near Dark) سنة 1987 ثم فيلمها البوليسي الرائع «بلو ستيل» (Blue Steel) سنة 1990 قبل أن تسبق ستيفن سبيلبرغ في الحديث عن مستقبل ميكانيكي قادم في «أيام غريبة» (Strange Days) سنة 1995.
كل هذه الأفلام معالجة بانحياز كامل للجدية في الطرح والتناول ومميّزة بحسن تنفيذها مشهداً مشهداً.
«بيت الديناميت» يتبلور منفرداً كعمل ينتهي بنا للتساؤل عما إذا كان يتنبأ بنهاية نووية كارثية لم يعد من الممكن تلافيها أو يدعو إلى الحذر من العدو الذي قد يُباغت أميركا (أو ربما أي عدو لأن بلد آخر).
الغالب هو أنه يقرأ في ردّ فعل متأخر حيال خطر ويدعو للحذر معاً. بما أن العدو ليس محدداً بهوية، فإن مفاده أكبر من أن يتقوقع بين تلك الأفلام الكثيرة التي خرجت في زمن الحرب الباردة بين الاتحاد السوڤياتي والولايات المتحدة وما بعده.
يتحدث الفيلم عمّا قد يحدث وعمّن قد لا يكون في الموقع الصحيح حين حدوثه. يدعو للتفكير جدّياً في مسائل لا يزال هناك من يعتبرها غير واردة. الأفدح هو أن من يعتقد أنه في مأمن منها لا يدرك أن تبعاتها الاقتصادية والمعيشية والبيئية سوف تشمل العالم بأسره.






