السينما السودانية تطفو ومن ثَمّ تغرق

تكبّلها الأزمات والمشاكل الدائمة

«الحديث عن الأشجار» (أغات فيلمز)
«الحديث عن الأشجار» (أغات فيلمز)
TT

السينما السودانية تطفو ومن ثَمّ تغرق

«الحديث عن الأشجار» (أغات فيلمز)
«الحديث عن الأشجار» (أغات فيلمز)

مثل كثيرّ من الدول العربية، ليس للسينما السّودانية وجود فعلي. هناك أفلام من حين لآخر وليس سينما، لذلك فإنّ التعبير هنا مجازيّ، لسهولة التعرّف على وضعها في زمن صعب، وفي فترة تحرق فيها حروب الأخوة كل راية سلام مرفوعة، وكل احتمال بحلٍّ يُعيد للسودان أمنه واستقراره.

استعادة أمنه واستقراره ليست ضمانة لانتقال ما فيه من عناصر ومواهب لتحقيق سينما سودانية فعلية. لا يكفي لعدد محدود من الأفراد تحقيق فيلم ما في بلد يفتقر الصناعة. ربما المخرج موجود والممثلون حاضرون، لكن من يضمن الكتابة والتّصاميم الفنية والتصوير والتوليف؟ ومن ثَمّ ماذا عن التمويل؟ وحتى لو حصل كل ذلك بمواهب محلية مع أخرى عربية مجاورة (أو حتى مشاركة فرنسية أو أوروبية ما)، هل سيكفي ذلك لخلق صناعة أو حتى عدد متتابع من الأفلام؟

ليس في هذه الظروف، لكن ماذا عن الظروف السابقة للحرب الحالية؟ لماذا لم تؤدِ المحاولات التي جرت منذ منتصف الخمسينات إلى مسيرة ناجحة لسينما سودانية صافية؟

طريق سهل

في منتصف الخمسينات، بعدما نال السودان استقلاله، كانت هناك صالات سينما في كلّ مدينة كبيرة من مدنه (ولم يكن مجزءاً بين شمال وجنوب)، العاصمة وحدها كانت تحتوي على نحو 66 صالة عاملة تعرض الأفلام الجديدة الآتية من مصر والولايات المتحدة أساساً.

بطبيعة الحال، كانت صالات السينما المتنفّس الوحيد أمام العائلات والأفراد المختلفين من طلاب الترفيه أو من هواة السينما.

للأسف، لا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار أنّ الطريق السهل لأي نشاط سينمائي هو العرض وليس الإنتاج. حدث هذا قبل عام 1948 في فلسطين، عندما أُسّست 4 شركات إنتاج، لكنها فضّلت توزيع الأفلام المصرية الجاهزة (وذلك على عكس يهود الفترة الذين سارعوا لتأسيس 12 شركة إنتاج، 8 منها أنتجت أفلاماً حسب ستيفن سبيلبرغ في وثيقته Cinema Before Cinema).

يحدث ذلك مع كل دولة مجاورة لدولة أخرى غزيرة الإنتاج، وما زال يحدث إلى اليوم في منطقتنا العربية وسواها من المناطق. لا يمكن لوم الإنتاج المصري في الحدّ من الطموح السوداني وعرقلة قيام صناعة مماثلة (ولو بحجم أصغر)، فالحق هنا ليس على الطليان، بل على شركات الإنتاج والتوزيع السودانية.

سهلة

هذه لم تكن المشكلة الكبيرة الوحيدة، فقد توالت حقبات من الحكم الذي لم يرغب في التعاطي بشؤون التنمية الثقافية أو الفنية، وذلك من أيام جعفر النميري إلى أيام عمر البشير حين أُغلقت صالات السينما وحُرّمت الأفلام على أساس أنها منافية للشريعة والإسلام.

الحال هو أن المخرجين السودانيين الذين حقّقوا أفلامهم في سنوات ما بعد الاستقلال وجدوا أنفسهم بلا عملٍ أو اضطروا للهجرة إلى ألمانيا أو الإمارات العربية المتحدة أو مصر أو السويد. هذا بدوره ليس طريقاً جيداً لتحقيق صناعة محلية على الرغم من الانفتاح الذي حصل قبل 3 أعوام حين استعادت بعض الصّالات نشاطها وصُوّرت أفلام كثيرة بدت مثل واحات وسط الصحاري.

ثلاثة من هذه الأفلام تستحق الذكر هنا، أولها «الحديث عن الأشجار» لصهيب قسم الباري (2019)؛ فيلم تسجيلي يتداول سعي مخرجين سودانيين لاستعادة المبادرة وإحياء دار عرض لهواة السينما. مثل هذه الدار، يعلمنا الفيلم، كانت موجودة في الخمسينات والستينات، لكنها اضمحلت لاحقاً بسبب طغيان التديّن من ناحية والرقابة الصارمة من ناحية أخرى. يوضح الفيلم أن الرقابة الصارمة ما زالت حاضرة نراها عندما يلتمس المخرجون المتعاونون على تحقيق هذه المحاولة (منار الحلو، وإبراهيم شدّاد، والطيب المهدي، وسليمان إبراهمي)، الإذن بعرض فيلم مختلف، فينبري المسؤولون لوضع شروط حول ماهية الفيلم ومصدره وما يسرده للتحقّق ممّا إذا كان مسموحاً به لدواعٍ أمنية. كل ذلك في سبيل عرضٍ واحدٍ. هنا يتركنا الفيلم أمام ما الذي يمكن لهؤلاء مجابهته من تحديات فيما لو كانت طموحاتهم تأسيس جمعية سينمائية فاعلة أو أن يحقّق كلٌ منهم (أو أحدهم على الأقل) فيلماً جديداً قبل فوات أوان العمر.

هذا الفيلم التسجيلي - الوثائقي وحده يلخّص حال السينما السودانية في مراحل شتّى وصولاً إلى اليوم.

إليه سينضمّ في السنوات الثلاث الأخيرة فيلمان روائيان: «ستموت في العشرين» للمخرج والمنتج أمجد أبو العلا، الذي كتب السيناريو كذلك نقلاً عن رواية لحمور زيادة حول الشاب مزمل (مصطفى شحاتة)، الذي يتنبأ أحد الشيوخ بموته حين يبلغ العشرين. يمرّ الفيلم على بضعة مراحل من حياة مزمل ويتوقف مليّاً عند السنوات القليلة السابقة لليوم الذي من المتوقع أن يموت فيه. يكتفي بقبول نبوءة موته. لا مغامرات. لا علاقة عاطفية. لا سباحة في النهر ولا رحيل عن القرية حتى ولو في سفر قريب. فقط عند عودة والده يدرك مزمل أنه يحتاج لكي يموت أن يعيش أولاً. ينجز المخرج فيلمه هذا بعناية فائقة. كل لقطة تساوي الجهد المبذول لإتمامها على النحو الذي تظهر فيه وأكثر. التمثيل متكاملُ الصّفات. حوارٌ يطرح الأسئلة مباشرة، وكتابة يُجاب عنها إيحاءً. وإخراجٌ يضع السينما اختياره الأول مبدّياً لغتها على لغة الموضوع نفسه.

«ستموت في العشرين» (أندولفي برودكشنز)

الفيلم الثالث هو «وداعاً جوليا» لمحمد كردفاني وإنتاج أمجد أبو العلا.

هذا فيلم مهمٌ على أكثر من صعيد. دراما موقوتة ومحسوبة لتدلي بدلوها في التاريخ الحديث للسودان، ولتنتقد وجهاً اجتماعياً لم تتطرّق إليه سينمات عربية أخرى كثيراً داخل أوطانها. حكاية زوج ملتزم وزوجته التي اعتزلت الغناء، وتحاول التخفيف من شعورها بالذنب للتسبب في وفاة رجل جنوبي من خلال توظيف زوجته جوليا خادمة في منزلها ومساعدتها. أحداث كثيرة تتوالى وصولاً إلى خاتمة تواكب إعلان جنوب السودان استقلاله.

«وداعاً جوليا» (ستايشن فيلمز)

كل فيلمٍ من هذه الأفلام نال عروضاً وجوائز عالمية، لكن وسط ما يمرّ به السودان اليوم، فإن المسيرة لن تتواصل قريباً لأي من مخرجيها.


مقالات ذات صلة

عندما يُطبخ موت الأب على نار صراعات بناته

يوميات الشرق His Three Daughters فيلم درامي عائلي تميّزه بطلاته الثلاث (نتفليكس)

عندما يُطبخ موت الأب على نار صراعات بناته

يخرج فيلم «His Three Daughters» عن المألوف على مستوى المعالجة الدرامية، وبساطة التصوير، والسرد العالي الواقعية. أما أبرز نفاط قوته فنجماته الثلاث.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون «المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

«المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

رغم وفاته في سن السادسة والثلاثين، فإن الكاتب المسرحي والمخرج السينمائي والممثل الألماني راينر فيرنر فاسبندر (1945 - 1982) ترك وراءه كنزاً من الإبداع

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق أسماء المدير أمام بوستر المهرجان في مدينتها سلا (إدارة مهرجان سلا)

أسماء المدير: «كذب أبيض» فتح أمامي أبواب السينما العالمية

قالت المخرجة المغربية أسماء المدير، إن رحلتها من أجل الحصول على تمويل لفيلمها «كذب أبيض» لم تكن سهلة.

انتصار دردير (سلا (المغرب))
يوميات الشرق ماغي سميث في لقطة من عام 2016 (أ.ف.ب)

ماغي سميث سيدة الأداء الساخر

بأداء عملاق وخفة ظل وسخرية حادة تربعت الممثلة البريطانية ماغي سميث على قلوب معجبيها، كما جمعت بين الجوائز وبين حب الجمهور.

عبير مشخص (لندن)
يوميات الشرق داليا تشدّد على أنها لن تطلب العمل من أحد (الشرق الأوسط)

داليا البحيري لـ«الشرق الأوسط»: لن أطرق باب أحد من أجل العمل

قالت الفنانة المصرية داليا البحيري إن التكريم الذي يحظى به الفنان يكون له وقع رائع على معنوياته إذ يُشعره بأنه يسير في الطريق الصحيح.

انتصار دردير (سلا (المغرب))

ثلاثة أفلام تتحدّث عن إسرائيل من زوايا مختلفة

«عطلة سعيدة» (مهرجان ڤينيسيا)
«عطلة سعيدة» (مهرجان ڤينيسيا)
TT

ثلاثة أفلام تتحدّث عن إسرائيل من زوايا مختلفة

«عطلة سعيدة» (مهرجان ڤينيسيا)
«عطلة سعيدة» (مهرجان ڤينيسيا)

يسبح المتابع لأفلام مهرجان «ڤينيسيا» الذي يقترب حثيثاً من انتهاء دورته الـ81 يوم السبت، بين أفلام تتماوج في اتجاهات متعددة. يأخذنا كل فيلم صوب موضوع مختلف. رؤية خاصة، أسلوب عمل منفرد، مفادات متعددة. حتى عندما لا يكون أيّ من هذه الأفلام منفرداً في أسلوبه أو في موضوعه، بل حتى وإن لم يُنجِز المتوقع منه، فإن توالي التجارب مجتمعة هو ثراء ومتعة وأعمال زاخرة بالمعرفة.

لكن لا بد من القول إن أفلاماً كثيرة، ومن بينها ما هو جيد، باتت ترتاح لما يمكن وصفه بـ«مشاهد الصدمة». تلك التي تعمد لتأكيد ما تريد لفت النظر إليه باختلاق لقطات كان يمكن للرسالة المطلوبة الوصول لما تريد تحقيقه وقوله، لو نهجت أسلوباً يعتمد على تشكيل أبسط وأثرى وأكثر أصالة.

ليس أن المعنيّ هنا هو عدم الابتكار والتحديث، لكن لا بدّ أن يكون لهما (الابتكار والتحديث) رؤية فنية وقواعد سليمة تدفع حيال نجاح المعالجة وليس تكبيلها.

عائلة فلسطينية في يافا

واحد من الأفلام التي استعاضت عن السّهل الممتنع بالممتنع وحده، «عطلة سعيدة» للفلسطيني إسكندر قبطي (من عرب 1948) الذي عرض في مسابقة «آفاق»، فيلم خالٍ من مشاهد مفتعلة، لكن معالجته السّردية ليست مبرّرة.

دراما من 5 فصول كل منها يروي جانباً من قصّة واحدة. الطريقة ليست بالطبع جديدة (أكيرا كوراساوا عمد إليها في فيلمه الرائع «راشامون» سنة 1950)، لكنها في إطار ما يوفره الفيلم من أحداث لا تطرح الحل الأفضل لما هو معروض: المكان حيفا. الزمن الحاضر. رامي رجل فلسطيني عاشر امرأة يهودية اسمها شَلي والآن هي حبلى. يروي قبطي قصّته، ثم ينتقل إلى قصّة والدته ذات الشخصية المهيمنة التي لا تعرف شيئاً عن هذا الموضوع ومشغولة بعرس ابنتها التي تصرّ على أن يأتي حافلاً بالبهجة مهما كلّف مادياً. زوجها في ورطة مالية ويريد بيع البيت وهي تعارض. القصّة الثالثة تنقلنا إلى شَلي ووالدتها (ذات الشخصية القوية بدورها) التي تعارض أن تحبل ابنتها من عربي. ثم نحط مرّة أخرى في دار العائلة الفلسطينية لأن هناك بوادر حب مع طبيب فلسطيني وصديق لرامي. الفصل الخامس هو ما سيحصده المؤلف - المخرج من مفادات عن هذه الحكاية.

هذا فيلم جيد بمضمونه ينضح بالملاحظات التي تطرحها الحكاية أولاً، ثم الكاميرا بعد ذلك، مثل العلاقات المتشابكة بين الشخصيات الفلسطينية في الداخل والشخصيات اليهودية المرتبطة بالأولى بحكم العمل أو بحكم العلاقة الشخصية. المشكلة تقع في جانبين، تكرار دخول شريط الصوت التابع للمشهد اللاحق قبل انتقال الكاميرا ونحن إليه (هذا مُحتمل بضع مرّات، لكن أكثر من ذلك هو تكرار لا يضيف شيئاً)، وحقيقة أن الفيلم المليء برطل من الحوارات يريد التماثل بالأسلوب التسجيلي رغم أنه دراما ممتلئة بالاحتمالات الحاضرة أو الغائبة. هذا كله يجعل الاهتمام بما يدور يتفاوت من مشاهد لآخر.

المهندس المختلف

هناك معالجة متشابكة في فيلم آخر هو «الوحشي» (The Brutalist). لكن هذا التشابك بين ما هو معروض وبين ما كان يمكن أن يُعرض بنجاح أعلى، هو اللقاء النظري الوحيد بين الفيلمين.

من «الوحشي» (مهرجان ڤينيسيا)

«الوحشي» فيلم جيد بلا ريب، لكنه يبني ويهدم، ومن ثَمّ يبني من جديد مواقفه، وخلال ذلك يُكرّر ما كان يكفي ذكره في المرّة الأولى. يدور حول لازلو (أدريان برودي)، مهندس معماري من يهود المجر الذين هربوا من النازية إلى الولايات المتحدة. عند وصوله يستقبله قريب له (أليساندرو نيڤولا) الذي يملك شركة تعهدات معمارية. هذا التعاون يدلي بلازلو إلى التعرف على لي ڤان بورين (غاي بيرس) أحد كبار أثرياء ولاية بنسلفانيا الذي، يطلب منه بناء مجمع فوق أرضه يضمّ فيما يضم، كنيسة ومدرسة وجمنيزيوم ومكاتب. نمضي أكثر من ساعتين في متابعة قيام لازلو بالمشروع متمتعاً بمباركة ڤان بورين ومساندته رغم خلافات لازلو مع محيطين ببورين وبينهم ابنه. محامي بورين يساعده في جلب زوجته وإحدى قريباته.

تكاد التفاصيل أن تقتل فيلماً يقوم على مواجهة لازلو (ثم عائلته) لحياة يصعب له العيش فيها من دون التنازل والتأقلم معها. يقف الفيلم معه في هذه المواجهة فإذا به الشخص الوحيد الذي يمكن للمُشاهد القبول به. هذا على الرغم من أنه اعتاد سريعاً على الهيرويين، أمر يحدث غالباً بعيداً عن الكاميرا، لكنه في النهاية ينضح بقفزة صوب مشهد اغتصاب بورين له في بعض أنحاء إيطاليا خلال زيارة. يسأله بورين قبل ذلك «كيف تناهض ما تعرضت له من اضطهاد وتقبل إهانة نفسك؟». سؤال مهم كان يمكن أن يقع قبل ذلك المشهد أو بعده. هناك أيضاً تلك المؤثرات الصوتية التي تهدر وتستخدم مطارق وضرب على أنابيب فارغة (أو ما هو قريب منها) وأدوات أخرى مختلفة لخلق تأثير صادم. الناتج فيلم ضخم ببصرياته، مضج في صوتياته ودراما متكلّفة في السرد.

أين الحرب؟

لا يضع المخرج الإسرائيلي عاموس جيتاي علامة استفهام على عنوان فيلمه الجديد «لماذا الحرب» (Why War)، بذلك ينتقل بعنوانه إلى طموح لا ينجزه الفيلم وهو تفسير أسباب الحرب.

بدايته تنطلق بلقطة بكاميرا «ستدي كام» لمدّة 7 دقائق، واحدة تبدأ في شارع وتنتهي داخل تجمّع، لكنها لا تفضي إلى شيء. الفيلم مأخوذ جزئياً عن رسائل متبادلة بين سيغموند فرويد وألبرت أينشتاين وهذه بدورها لا تفضي إلى شيء.

إيرين جاكوب بطلة «لمَاذا الحرب» (شوتايم)

تظهر الممثلة الفرنسية إيرين جاكوب وهي تكتب رسالة (نسمعها تقرأها في الوقت نفسه) موجهة إلى المخرج، تتساءل فيها عن معنى الحرب. لا تصل إلى جوابٍ وينتقل الفيلم إلى لقاءٍ بين الفرنسي ماثيو أمالريك في دور فرويد، والإسرائيلي ميشا ليسكوت في دور أينشتاين. الأول بغليونه والثاني بباروكة شعر مضحكة. كذلك حال النظريات المتبادلة حول الحرب والثقافة والإنسان. تأتي وتذهب دون أن تترك أي أثر.