شاشة الناقد

تمارا دوبسون في «كليوباترا جونز» (وورنر)
تمارا دوبسون في «كليوباترا جونز» (وورنر)
TT

شاشة الناقد

تمارا دوبسون في «كليوباترا جونز» (وورنر)
تمارا دوبسون في «كليوباترا جونز» (وورنر)

يدفعنا رحيل الممثل ريتشارد راوندتري قبل يومين، لاستعراض ثلاثة أفلام من الفترة التي شهدت ازدهار موجة البطولة السوداء

Shaft

خراج: غوردون باركس

الولايات المتحدة 1971

(جيد)

لم يكن الممثل الراحل سيدني بواتييه أول ممثل أسود يظهر على الشاشة الأميركية، لكنه كان النجم الذي جذب المشاهدين من الأعراق الأميركية المختلفة ووجوده ساعد هوليوود لإتاحة المزيد من الفرص للممثلين الأفرو - أميركيين.لكن بواتييه لم يكن فارس أفلام أكشن، بل كان ممثلاً درامياً لعب أدواراً متعددة في إنتاجات من النوع العاطفي والاجتماعي غالباً. أما ريتشارد راوندتري، الذي توفي في الـ25 من الشهر الحالي، فإليه يعود الفضل في جعل الممثل الأسود مطلباً جماهيرياً وتجارياً كبيرين. هو من فتح الباب أمام ممثلين آخرين كثيرين من الجنسين، لينطلقوا في البطولات. هو وسواه اختاروا شخصيات بعيدة عن الواقع لكنها كانت مفرطة في منوال الترفيه. هل تعاملت والعنصرية؟ بالتأكيد لكن ليس من باب الوعظ والإرشاد أو تقديم مشاهد المعاناة، بل من باب القوّة التي لا تنتظر إصابتها بموقف عنصري لترد عليه.

ريتشارد راوندتري في «شافت» (مترو غولدوين ماير)

هذا هو فحوى فيلم «شافت».

إلى حد بعيد، ما كان يقوم به التحري الأبيض (لنقل رالف ميكر في فيلم روبرت ألدريتش «Kiss Me Deadly») أو دِيك باول في فيلم إدوارد دمتريك «Murder‪، ‬My Sweet» هو ما يقوم به التحري الأسود جون شافت (ريتشارد راوندتري) من مهام مواجهة الأشرار لصالح الأخيار. لكن عند هذه النقطة تنطلق الاختلافات: التحري الأبيض ليس ابن شوارع هارلم حيث يعيش شافت الذي توفر له ثقافته نوعاً مختلفاً من السلوك والتصرف.

شافت «سكسي» بالقصد وهذا هو اختلاف آخر، لكن الأهم هو أنه يواجه عنصرية البيض حيال السود، والسود أيضاً، إذا ما حاولوا النيل منه، ولو أن الفيلم لا يتدخل في طرح الجانبين الاجتماعي أو السياسي للعنصرية. هذا أفضل لناحية أنه منح المخرج حرية التعامل مع عناصر الفيلم البوليسي القائم على الحركة وليس على صلب التحريات وحل الألغاز. الفيلم سلسلة متواصلة من الترفيه الناتج عن أن كل عنصر من عناصر أفلام الحركة ينتمي إلى المفهوم الجديد (والمفاجئ) للبطولة السوداء.تنصب حكايته على موضوع قيام إمبراطور الشر في هارلم (موسس غن) باختيار شافت ليستعيد ابنته من خاطفيها. لا يتغاضى الفيلم عن توفير أشرار سود، لكن هناك البيض منهم الذين لا يتمنون الخير لشافت أو لأبناء جلدته.

Cleopatra Jones‬

إخراج: ‪جاك ستارت‬

(جيد)

الولايات المتحدة | 1973جاك ستارت من بين أولئك المخرجين الذين مروا عبر تاريخ السينما من دون توقف أحد عندهم باستثناء بعض الناقدين المتابعين لجميع التيارات. ليس أنه كان يستحق تمثالاً في ولاية تكساس حيث وُلد، أو حتى طبع اسمه على رصيف شارع هوليوود كالأسماء الكبيرة، لكنه كان ذا موهبة وتخصص في صنع أفلام تجارية بعضها أفضل من بعض، و«كليوباترا جونز» من الجيد منها.

«القطن جاء لهارلم» (يونايتد أرتستس)

التحري هنا هو امرأة اسمها كليوباترا جونز (تمارا دوبسون)، نتعرّف عليها تشرف على حرق الشرطة التركية لحقل من براعم المخدرات البيضاء. حين تعود إلى الولايات المتحدة، كونها تعمل لجانب الحكومة، لترعى مصالح أبناء هارلم، تجد نفسها وسط صراع عصابتين، واحدة بيضاء تقودها شيرلي ونترز التي تريد الانفراد بتجارة المخدرات، وغريمها الأسود أنطونيو فارغاس (أطرف شخصيات الفيلم). من ناحية أخرى تواجه كليوباترا شرطة المدينة العنصرية (باستثناء رئيسها).

بِيل ماكيني، الذي لم يلعب دوراً في صف الأخيار في حياته، هو رجل شرطة عنصري وفاسد، وهو من زرع المخدرات ليتّهم أسود بريئاً بها. على كليوباترا وضع حد له ويتم ذلك في منازلة بديعة، لكن رئيسة العصابة البيضاء هي مقصدها الأهم ومعركتها معها.

في مثل هذه الأفلام ليس المطلوب من المشاهد أن يبحث عن المعقول والجاد والقابل للتصديق، إلا إذا كان الفيلم رديئاً لدرجة فقدانه كل المقوّمات الترفيهية التي هدف إليها. وهذا الفيلم لا يفقد شيئاً منها. غير قابل للتصديق. لا يكترث لطرح مواضيع تدعو للتفكير، لكنه يحمل تنفيذاً سهلاً وحكاية مثيرة بالتواءاتها وممثليها.

يختلف عمل جاك ستارت عن آخرين أموا هذا الاستعراض الكبير من الأفلام (أمثال آرثر ماركس، وآل أدامسون، وجاك هِيل) فهو بالفعل كان مهتماً عاطفياً بشخصياته. يلهو معها. للتذكير هو نفسه الذي مثّل دور مساعد الشريف السادي الذي يسقط من الطائرة المروحية في فيلم «دم أول» (First Blood). أفضل عبارة في الفيلم وردت على لسانه عندما كان مساعده يرش الماء بخرطوم اندفاعه قوي، على سيلفستر ستالون فيضحك ستارت ويقول لمساعده: «لا تنس خلف الأذنين».مثل أفلام النوع الأخرى، سمح الفيلم لعدد كبير من الممثلين السود فرص شهرة وعمل.

‬Cotton Comes to Harlem

خراج: أوسي ديفيز

الولايات المتحدة 1970

(ممتاز)

يعتمد المؤرخون على اعتبار أن «شافت» هو أول فيلم استهلاكي أسود (ما عُرف بموجة الـBlack Exploitation) لكن الواقع هو أن «القطن يذهب إلى هارلم» لأوسي ديفيز سبقه بسنة. ديفيز يشترك مع مخرج «شافت»، غوردون باركس، في أنه أفرو - أميركي أيضاً، لكن موضوع الفيلم يذهب أعمق اجتماعياً وبدلالاته. بالتالي هو ليس فيلم ترفيه فقط بل كوميديا إلى حد ودراما إلى حد وبوليسي إلى حد أيضاً.

تحريان من شرطة نيويورك واحد اسمه كوفي إد جونسن (رايموند سانت جورج) والثاني غرافديغر جونز (غودفري كامبريدج). أول ما نلاحظه هو اسم كل منهما: Coffin ومعناها تابوت، وGravedigger ومعناها حفار قبول. هما أسودا البشرة انتُدبا للتحقيق في جريمتي سرقة وقتل. يجدان نفسيهما وسط مشاكل متعددة وتيارات فوضوية وانتفاضات شعبية غاضبة. هناك أيضاً تجار مخدرات وتجار أجساد وتجار قضايا ومبشر أسود (كالفن لوكهارت) لا يمانع سرقة المال من متبرعين للكنيسة يوهمهم بأنه سيسهل عليهم العودة إلى أفريقيا. هذا ما يدفع كوفين لتحذيره في عبارة لا تُنسى: «إذا سرقت من البيض فهذا شأنك، أما أن تسرق من السود فهذا شأني». عصابة من البيض تسرق منه الغنيمة، لكن الاعتقاد الذي سيسود هو أنه دبّر سرقة المال لحسابه. فوق هذا كله شحنة كبيرة من القطن لا يعلم أحدها لماذا وصلت إلى هارلم ولماذا باتت محط اهتمام آخرين.

خرج الفيلم في الوقت المناسب بالنسبة لأحداثه. الكاتب تشيستر هايمز (أفرو - أميركي بدوره) وصف الحياة في هارلم التي كانت آنذاك تعجّ بكل أنواع الجريمة. والمخرج دفيز نقل ذلك بواقعية الأجواء مع إضافة ما يلزم من مشاهد أكشن وتحريات من بينها واحدة من أفضل مشاهد المطاردة.

يحمل الفيلم بعض الفوضى التي يعرضها. ليس سلساً ومستقيماً في سرده كما قد يتمنى البعض، لكن الفوضى التي يرصدها الفيلم في الشارع تلتقي مع الفوضى التي تسكن الفيلم نفسه، سواء كان ذلك مقصوداً أم لا. القصة مستوحاة من رواية بوليسية جيدة كتبها تشيستر هايمز وتنص على شخصيّتين وُلدتا وفي دمهما الرغبة في خدمة القانون، ولو بطريقتهما الخاصّة. لكن المخرج، وعن حسن قرار، لا يحوّلهما إلى ثنائي كوميدي ولا يساند أحدهما الآخر، بل كانا متساويين ولو أن خصال كل منهما مختلفة كذلك الطريقة التي يؤديان فيها دوريهما.



ألفرد هيتشكوك... سيد التشويق وسينما الألغاز

ألفرد هيتشكوك (يونيڤرسال بيكتشرز)
ألفرد هيتشكوك (يونيڤرسال بيكتشرز)
TT

ألفرد هيتشكوك... سيد التشويق وسينما الألغاز

ألفرد هيتشكوك (يونيڤرسال بيكتشرز)
ألفرد هيتشكوك (يونيڤرسال بيكتشرز)

تعرِض منصة «نتفليكس» الأسبوع الحالي فيلمين متميّزين من أفلام المخرج ألفرد هيتشكوك الذي لم يوازِه أحد بعد في مجال الرّعب والتشويق واللعب على الغموض.

الفيلمان هما «سايكو» (1960)، و«الطيور» (1963)، وهما من خيرة أفلام المخرج في السنوات الـ20 الأخيرة من حياته لجانب «دوخان» (Vertigo) (1958)، و«جنون» (Frenzy) الذي كان فيلمه ما قبل الأخير سنة 1972.

لم ينل «فرنزي» حقّه كاملاً من قِبل نقاد جيل السبعينات رغم أنه نضح بكل العناصر التي جعلت من أفلام هذا المخرج أعمالاً مشهودة ورائعة. لعب على حكاية المتهم البريء والقاتل الذي لا يرتاب به أحد إنما بتجديد بديع. بعد مرور نحو 50 سنة عليه، ارتقى الفيلم بين النّقاد (أو هل نقول ارتقوا هم إليه؟) وعدّوه بدوره أحد أفضل أفلامه الأخيرة.

من «الطيور» (يونيڤرسال بيكتشرز)

قيمة فنية

الواقع هو أنه، بعد مرور 90 سنة على أول فيلم نقل ألفرد هيتشكوك إلى الاهتمام العالمي، وهو «The 39 Steps» سنة 1935، لا تزال القيمة الفنية لأعماله كافّة تتحدّث عن نفسها بوضوح. هيتشكوك كان بالفعل سيد من أتقن التشويق، لكن التشويق نفسه، وإتقانه، ليسا فعل سري يدركه سينمائي واحد ويمتنع عن آخرين. ما أضافه المخرج هو الوسيلة التي تجعل من المُشاهد شريكاً فيما يدور. يشعر بالخطر ويتلصّص على شخصيات الأفلام كما لو أنه يراقبها في الحياة العادية.

ما جعل هيتشكوك منفرداً ومميّزاً، هو الكيفية الخالصة التي عالج بها المخرج ذلك التشويق وما احتوته أفلامه من مفادات ومضامين لم يوفّرها آخرون على نحو عميق ومتواصل خلال سنوات عمله الممتدة ما بين 1922 (عندما كان في الـ23 من العمر)، و1976 (قبل 4 سنوات من وفاته).

لم تكن تلك القيمة ظاهرة لكثيرين، إلى أن تدخل نقاد فرنسيون اكتشفوا في أفلام هيتشكوك ميزات لا يمكن نكرانها.

انتبه إلى هذه الميزات في البداية، المنظّر أندريه بازان في عام 1951 عندما بدأ يُعاين أعمال هيتشكوك من وجهة نظره. ليس أن بازان كان معجباً بكل ما شاهده من أفلامه حتى ذلك الحين، لكنه من أوائل الذين انتبهوا إلى فاعلية أسلوبه التشويقي ومنحاه في استخراج ما هو أكثر من المشهد الماثل.

التبنّي النقدي الكامل لسينما هيتشكوك تم عندما أعلن كلٌ من فرنسوا تروفو، وكلود شابرو، وإريك رومير إعجابهم غير المنقوص بأفلام المخرج، في منتصف الخمسينات وبذلك ضمّوا هيتشكوك إلى سينما المؤلّفين قبل سواهم.

البريء والمجرم في «جنون» (يونيڤرسال بيكتشرز)

نبرة ساخرة

اختيار «سايكو»، و«الطيور» لعروض «نتفليكس» سيهضم حق فيلمه الثالث بين أعماله الأهم وهو «ڤرتيغو». لكن من سينتهز الفرصة للتعرّف، من جديد أو للمرّة الأولى، على إبداعات مخرج قلّ نظيره من حيث إنه صاغ من كل فيلم له حالة دامجة من الرعب والتشويق والملاحظات الإنسانية. «سايكو» بحد ذاته يحمل في طيّاته العميقة سخرية يدركها البعض منا كوننا واجهنا هذه النبرة الساخرة في الكثير من أفلامه.

«سايكو» في الوقت ذاته فيلم رعب نفسي داكن. هذا أكثر أفلام المخرج عنفاً، ونُشر كثير عن مشهد القتل في الحمّام. كيف صُوّر ووُلّف بحيث لا ظهور للعري كاملاً، ولا للطعنات تدخل الجسد، ولا دماء تنزف منه. بعض المحلّلين كتبوا أن هذا المشهد لم يكن من إخراج هيتشكوك بل من إخراج سواه (وفي فيلم Hitchcock لساشا جرڤازي، 2012)، ادعاءُ آخر بأن زوجة هيتشكوك، ألما رَڤيل، هي التي أخرجت هذا المشهد فعلاً. إنه كما لو أن هيتشكوك وقف محتاراً كيف سيُنجزه، واعتمد على آخرين ليدلوه أو يحقّقوه عوضاً عنه.

لكن المهم هنا هو التدرّج صوب المفاجأة. مادلين تبتسم لنفسها وقد قررت أن تعود صباح يوم غد وتعيد الثروة المسروقة. تخلع ثيابها وتدخل الحمّام. فجأة شبح امرأة عجوز تقتحم الشقة (وكان نورمَن اقترحها على مادلين لأنه يستطيع التلصّص عليها من ثقب في الجدار) وفي يدها سكين وتبدأ بطعن مادلين.

طيور الجريمة

أما «الطيور» فهو نوع مختلف من أفلام الرعب، ومختلف بالنسبة لما سبق أن حققه هيتشكوك قبل ذلك. مثل «سايكو» استمد هيتشكوك هذا الفيلم من حادثة حقيقية وقعت عام 1961 عندما هاجمت طيور النورس أهالي بلدة سانتا كروز في كاليفورنيا. لا يزال سبب الهجوم هذا غامض، لكن هيتشكوك قرأ الحادثة في رواية للكاتبة البوليسية دافني دو مورييه، التي كانت وضعتها قبل حادثة سانتا كروز ببضع سنوات وأعجب بها.

شاشة الفيلم هذا، تترجم لحظات الهجوم بقوّة غير منظورة. لا شكّ أن هناك مؤثرات بصرية، لكنها لا تُقاس بما وصلت إليه حالياً. على ذلك، مشاهد هجوم الطيور على تيبي هيدرن، ورود تايلور، وعدد كبير من الأولاد والبنات الصغار لا يُفوّت، كذلك مشهد هجوم أكبر التقطه هيتشكوك من الجو للطيور البيضاء والسوداء وهي تُغير على المدينة متسببة بحريق هائل.

لكن لا «سايكو»، ولا «الطيور» كانا فيلمَي رعب فقط. في عمق كلٍّ منهما ناحية حرِص المخرج على توفيرها أكثر من مرّة وهي الجانب العائلي وتحديداً العلاقة بين الرجل والأم.

في «سايكو» المجرم قتل والدته التي كانت تسيطر عليه، لكنه احتفظ بجثتها محنّطة ووجد نفسه، بلا وعي، يقوم بدورها كونها كانت تمنعه من التعرّف على أنثى سواها.

في «الطيور» نجد الأم (جيسيكا تاندي) تحرص على إفساد علاقة ابنها (رود تايلور) في أي مناسبة غرامية متوقعة بسبب خوفها من خروج ابنها من حياتها وبقائها وحيدة.