الجمهور يحب لصوص البنوك انتقاماً

حكايات عن سرقة الخزائن العامرة

«سرقة 88» (شوتايم نتووركس)
«سرقة 88» (شوتايم نتووركس)
TT

الجمهور يحب لصوص البنوك انتقاماً

«سرقة 88» (شوتايم نتووركس)
«سرقة 88» (شوتايم نتووركس)

عندما سأل القاضي لصاً اعتاد سرقة المصارف «لماذا تسرق البنوك؟»، أجاب اللص ساخراً «لأن المال هناك». وحسب رأي لص آخر قبض عليه في مدينة أوستن (تكساس) قال: «المصارف هي التي تسرقنا، ونحن نحاول استعادة ما تسرقه منا».

مهما كان الوضع فإن الأفلام التي تدور حول سرقة المصارف تتمتع، ضمناً، بتحقيق الحلم المستحيل لدى المشاهد. حين يجلس إلى مقعده لمتابعة خطّة لسرقة مصرف، صغيراً كان أو كبيراً، فإن جزءاً منه يريد السارق (خصوصاً إذا ما كان الدور مسنداً إلى نجم ساطع) أن ينجح. أنت وأنا لن ننجح في هذا العمل، على الأقل، إذن، دَع غيرنا ينجح. بالتالي ما يبدو جريمة يصبح أمراً مبرراً إذا ما توفرت الأسباب لذلك.

تقليد قديم

حالياً هناك فيلمان جديدان عن سرقة البنوك تُضاف إلى العشرات من الأفلام السابقة التي دارت حول الموضوع هذا. الفيلم الأول هو «سرقة 88» (Heist 88) لمنهاج هودا (بنغلاديشي الأصل، بريطاني الهوية، يعيش في لوس أنجليس). هذا الفيلم الذي تعرضه شبكة «شوتايم» مبنيّ على حادثة حقيقية وقعت في مدينة شيكاغو سنة 1988 وبطلها، على الشاشة، كورتني ب فانس، أفرو- أميركي يعيش في دعة، لكنه يريد زيادة نصيبه من الثروة. يجمع أربعة أفرو- أميركيين من الذين يعملون في المصارف ويبث في بعضهم روح الرغبة في إتمام سرقة إلكترونية، يرى أنها سهلة التحقيق. يدمج الفيلم هذا، الخط مع عنصرية يتلقاها الموظفان الأسودان من إدارة المصرف ما يزيد من قناعتهما بأن يرتكبا الجريمة.

«الجانحون» (وانكا سيني)

الفيلم الثاني هو «الجانحون» (The Delinquents) عن موظفين آخرين في بلد آخر (الفيلم هو إنتاج أرجنتيني). أحدهما ينفذ خطة لسرقة المال يخبر بها زميلاً له. الشرطة تلقي القبض على الفاعل، أما الآخر (الذي احتفظ بالغنيمة) فلا تعرف عنه شيئاً كون الفاعل لم يعترف بمكان الغنيمة.

الأول منفّذ باحتراف من يريد تنفيذ فيلم مشوّق (وهو يحقق نصف هذه الغاية فقط)، الثاني، كما أخرجه رودريغو مورينو، يرتاح في أحضان توليفة من المشاهد التي تحاذي الكوميديا من دون أن تعمد إليها فعلياً.

ينتمي كلا الفيلمين إلى تقليد قديم من السينما، التي تسرد الخطط وتتابع النتائج وتحقق رغبات المُشاهدين الدفينة. ففي نهاية الأمر نحن «نتفرّج» على سرقة يسطو فيها اللصوص المحترفون على مال ليس مالنا لكي نشعر بالفداحة. أكثر من ذلك، نتمنّى للصوص النجاح في المهمّة شرط ألا يكون هناك جريمة قتل مقصودة، وأن تكون هناك تبريرات تدفع بالسارق لارتكاب السرقة مثل أن تكون والدته بحاجة لرعاية لا يستطيع تأمينها، أو أن المال المودع هو مال خزّنته المافيا في المصرف، أو للسبب الأكثر شيوعاً: الفقر نال ما ناله من قيم الإنسان في مجتمعه بحيث أن السبيل الوحيد للتغلب عليه هو سرقة المصرف.

حتى في الحالات التي تسرق فيها عصابة كاملة متخصصة المصارف من دون أي من الدوافع المذكورة أعلاه، فإن النتيجة المرتسمة على الشاشة، إذا ما أحسن المخرج التنفيذ، هي تشويق وترفيه.

واحد من تلك الأفلام المبنية على خطط عصابة ستسرق أحد بنوك مدينة بوسطن هو «البلدة» (The Town)، الذي أخرجه بن أفلك ببراعة، وأدّى فيه دور عضو العصابة الذي بدأ يتحوّل من القيام بالمهمّة إلى الرغبة في ممارسة حياة طبيعية مع من يحب. هذا ما يخلق التقدير لبطل لم يتخلَ بعد عن أخلاقياته. في الوقت نفسه هو فيلم تشويقي على النحو الذي جعله بداية رائعة لممثل يستطيع ممارسة الدورين، أمام الكاميرا ووراءها، بإتقان.

المهمّة المستحيلة في هذا الصدد هي تبرير جريمة السرقة، التي تتم بالعنف والقتل أيضاً، لكن المخرج آرثر بن، حقق هذا المستحيل في «بوني وكلايد» سنة 1967 عندما سرد القصّة الحقيقية للثناني كلايد (وورن بيتي) وبوني (فاي داناواي) اللذين انطلقا في ثلاثينات القرن المنصرم يسرقان من المصارف (وحيدان أولاً ومن ثَمّ بانضمام شلة صغيرة لاحقاً) في ولايات الوسط الأميركي. ضع الحق هنا على سنوات اليأس الاقتصادية التي أدت إلى انتشار الفقر بين مواطني الولايات الوسطى، وإلى قيام المصارف بالاستيلاء على العقارات التي لم يستطع أصحابها الإيفاء بدفع ديونها. ولزيادة الجرعة في عملية تقريب بوني وكلايد إلى الجمهور، عُمّقت العلاقة العاطفية والشخصية: كلايد قد يكون عاجزاً جنسياً، لكنه شاعر وبوني لن تتخلى عنه.

سيارات الهروب

الشرطة في خدمة القانون... غالباً كون بعض الأفلام تداولت أن حاميها قد يكون حراميها أيضاً أو مشتركاً في الصفقة على الأقل، كما ورد في فيلم سام بكنباه «الفرار» (The Getaway) سنة 1972. هنا سجين اسمه دوك ماكوي (ستيف ماكوين) بارع في سرقة المصارف سيُخلي مدير السجن (بن جونسون) سبيله بشرط القيام بسرقة مصرف وتقاسم الغنيمة معه. يكتشف دوك أن مدير السجن قبض بعض الثمن مقدّماً عندما أجبر زوجته (آلي مكغرو) على ممارسة الحب معه شرطاً للإفراج عنه. العلاقة بينهما تسوء، ودوك حائر في أمره حيالها، ثم ها هم رجال مدير السجن يتدافعون لقتله وسرقة الغنيمة بأسرها. في نهاية الفيلم، وبعد القضاء على الأشرار، يتجه الزوجان بالغنيمة كاملة إلى المكسيك. إزاء ذلك كلّه كيف لا يمكن الاصطفاف وراء مجرمي هذا الفيلم؟

رايان أونيل في «السائق» (إي أم آي)

وورن بيتي لعب في سنة 1971 فيلماً آخر مبنياً على سرقة مصارف هو «$» (يكتفي العنوان بالعلامة الشهيرة). كتبه وأخرجه ريتشارد بروكس عن لص محترف يخطط لسرقة ثلاثة حسابات بنكية لثلاثة مجرمين (المبرر موجود من البداية)، لكن تبعات ذلك خطيرة، ولو أن محترف السرقة هو من سينتصر على محترفي القتل.

أحياناً ما يكون المجرم فرداً واحداً كما الحال في فيلم دون سيغل «تشارلي فارِك» سنة 1973. في ذلك الفيلم ينفّذ وولتر ماثاو شيئين: يترك الكوميديا خلفه لكي يؤم بطولة هذا الفيلم الجاد، ويسرق مصرفاً يودع فيه المافيا ماله. شريكه الوحيد هو شاب ساذج (أندرو روبنسن الذي كان أدّى دور السفّاح في فيلم كلينت إيستوود «ديرتي هاري» قبل عامين من هذا الفيلم) يلقى حتفه سريعاً بعدما وصل مندوب العصابة القاتل المحترف مولي (جو دون بايكر) بحثاً عن تشارلي والمال معاً.

«ذَ درايفر» لوالتر هيل، هو فيلم آخر عن السرقة لكن من زاوية أخرى. التحري (بلا اسم لشخصيّته)، بروس ديرن يلاحق السائق (رايان أونيل)، الذي يشترك في السرقات كسائق لما يُسمى بـ«سيارة الهروب». يدرك التحري أنّ هناك خطة عمل لسرقة جديدة، ويحاول إجبار السائق على الاعتراف بها. لجانب أن القصّة جيدة وشخصياتها وممثليها على مستوى واحد من التعبير، هناك ذلك الإخراج المتين الذي يؤمّنه والتر هِيل بلا هفوات.

أول أفلام كونتِن تارنتينو التي وضعته على سدّة الشهرة كان «كلاب المخزن» (Reservoir Dogs) (1992) حيث تنفّذ العصابة بأسماء مستعارة مثل وايت (هارفي كايتل)، ومستر أورانج (تيم روث)، وبلوند (مايكل مادسن)، سرقة ضخمة وتنتقل مع رهينة إلى ذلك المخبأ، حيث تتدرّج المواقف سريعة صوب عنف زائد عن الحاجة. هذا فيلم من تلك التي تستبعد احتمال اصطفاف الجمهور مع العصابة بسبب العنف التي تمارسه. ليس من بينها (وكلهم ممثلون جيدون) ما يستدعي التعاطف معه ولو أن الدافع هنا ليس أخلاقياً على الإطلاق.

من الأفلام الأخرى التي راجت، لكنها لم تُثر التعاطف، «بعد ظهر يوم وضيع» (Dog Day Afternoon) لسيدني لومِت الذي ركب موجة التعاطف النقدي وليس الجماهيري. الفيلم عبارة عن سرقة مصرف ينفّذها آل باتشينو والدافع؟ استخدام المال لدفع فاتورة المستشفى لصديقه لإجراء عملية تغيير الجنس.

دينيرو/ باتشينو

كل هؤلاء المخرجين الذين وردت أسماؤهم أعلاه من صفوة سينمائيي هوليوود، كذلك الحال بالنسبة لسبايك لي، الذي أنجز سنة 2006 فيلماً من هذا النوع عنوانه «الداخل» (Inside Man)، وفيه لص محترف (كلايف أووَن) تزداد مهمّته صعوبة بوجود التحري، دينزل واشنطن الذي يكتشف أن المسألة برمّتها ليست بشخص لص واحد، بل تكشف عن فساد في بعض السلطات أيضاً.

هذا الفساد لا يرد ذكره في فيلم «حرارة» (Heat)، الذي أنجزه مايكل مان سنة 1995 وجمع له ممثلان من وزن ثقيل واحد هما، آل باتشينو وروبرت دينيرو. الأول يرأس جهاز البوليس الذي يرقب كل حركة من حركات العصابة التي يديرها دينيرو. المعركة العنيفة التي تدور بين الفريقين أمام المصرف المنهوب من جودة التنفيذ، مما يجعل المُشاهد في حالة توثّب دائم. كون المعركة في منتصف الفيلم وقبل حلّ الإشكالات العالقة فإن قيامه باتخاذ موقف لتأييد أحد الفريقين ليس متاحاً.

بالطبع هناك تلك الأفلام التي يسودها الضحك من الفشل، كذلك الذي تحتوي على الجهد الكبير لحفر نفق من موقع ما إلى ما تحت المصرف لدخوله ليكتشف اللصوص أن الفتحة التي أحدثوها تنتمي إلى دكان خضراوات مثلاً. إنما معظم الأفلام المنتمية إلى هذا النوع إما تثير الإعجاب كما حال فيلم «الحجر الساخن» لبراعة تنفيذها كما تقدم، أو الحزن لفشلها.

في فيلم ستانلي كوبريك «القتل» (The Killing) سنة 1956، المؤسسة المنوى سرقتها ليست المصرف، بل ميدان سباق الخيل. سترلينغ هايدن يريدها السرقة الأخيرة في حياته تؤازره في هذا القرار صديقته فاي (كولين غراي)، ويجلب كوكبة من المحتاجين للمال بينهم رجل بوليس (تد د كورسيا الشاكي من عمل لا يعفيه من الحاجة) وموظّف الميدان (إليشا كوك الذي يحاول إسعاد زوجته، ماري وندسور) والموظّف الآخر (جو سوير الذي لا يستطيع دفع فاتورة الطبابة لإنقاذ والدته). هنا المبررات موجودة وتعاطف المُشاهد مؤكد، وهو يتابع نجاح الخطّة كما رُسمت ومن ثمّ ثغرات ما بعد نجاحها، التي تنقلب في النهاية إلى خسارة فاجعة.

خذ المال واهرب... أفلام جيدة أخرى عن الموضوع

The Friends of Eddie Coyle

إخراج: بيتر ياتس (1973): روبرت ميتشوم واقع في الفخ بين طرفين: مجرمون يهددونه بالقتل إذا لم يشترك، ورجل قانون يهدده بإعادته إلى السجن إن لم يبلّغ عنهم

Take the Money and Run

إخراج: وودي ألين (1969) أحد أفلام الكوميدي الشهير الأولى، لص فاشل حتى عندما تتم السرقة حسبما يريد.

The Ladykillers

إخراج: ألكسندر ماكندريك (1955): أليك غينس وعصابته (بينهم بيتر سيلرز وهربرت لوم) يستأجرون شقة للتمويه بينما يخططون سرقة مصرف قريب في هذه الكوميديا ذات المفاجآت.

The Italian Job

إخراج: بيتر كولنسن (1969): في إيطاليا فريق ينوي سرقة شحنة ذهب قبل إيداعها المصرف. ينجح الفيلم كفيلم سرقة وكفيلم مطاردات بسيارات ميني كوبر.

The Old Man and the Gun

إخراج: روبرت ردفورد (2018): روبرت ردفورد عاد لصاً مسالماً وظريفاً ومتقدماً في العمر تساعده خبرته على السرقة والهرب من السجن أيضاً.

Dellinger

إخراج: جون ميليوس (1973): رجل الـ«إف بي آي» (بن جونسون) يُطارد لص المصارف المحترف (وورن أوتَس) في هذا الفيلم المتعاطف مع القانون بجدارة.


مقالات ذات صلة

ثلاثة أفلام تسجيلية تمر على أحداث متباعدة

يوميات الشرق من «واحد لواحد: جون ويوكو» (مركوري ستديوز)

ثلاثة أفلام تسجيلية تمر على أحداث متباعدة

«رايفنشتال» للألماني أندريس فايَل فيلم مفعم بالتوثيق مستعيناً بصور نادرة ومشاهد من أفلام عدّة للمخرجة التي دار حولها كثير من النقاشات الفنية  والسياسية.

محمد رُضا (ڤينيسيا)
يوميات الشرق السيناريست المصري عاطف بشاي (صفحته على «فيسبوك»)

الوسط الفني بمصر يودّع السيناريست عاطف بشاي

ودّع الوسط الفني بمصر المؤلف والسيناريست المصري عاطف بشاي، الذي رحل عن عالمنا، الجمعة، إثر تعرضه لأزمة صحية ألمت به قبل أيام.  

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق أنجلينا جولي في مهرجان ڤنيسيا (إ.ب.أ)

«الشرق الأوسط» بمهرجان «ڤنيسيا-4»... ماريا كالاس تعود في فيلم جديد عن آخر أيام حياتها

إذا ما كانت هناك ملاحظة أولى بالنسبة للأيام الثلاثة الأولى التي مرّت على أيام مهرجان ڤنيسيا فهي أن القدر الأكبر من التقدير والاحتفاء ذهب لممثلتين أميركيّتين.

محمد رُضا (فينيسيا)
يوميات الشرق جمانا الراشد رئيسة مجلس أمناء «مؤسسة البحر الأحمر السينمائي» خلال مشاركتها في افتتاح مهرجان البندقية (الشرق الأوسط)

«البحر الأحمر السينمائي» تشارك في مهرجان البندقية بـ4 أفلام

تواصل «مؤسسة البحر الأحمر السينمائي» حضورها بالمهرجانات الدولية من خلال مشاركتها في الدورة الـ81 من مهرجان البندقية السينمائي بين 28 أغسطس و7 سبتمبر.

«الشرق الأوسط» (البندقية)
سينما جيمس ستيوارت في «انعطاف نهر» (يونيڤرسال)

كلاسيكيات السينما على شاشة «ڤينيسيا»

داوم مهرجان «ڤينيسيا» منذ سنوات بعيدة على الاحتفاء بالأفلام التي حفرت لنفسها مكانات تاريخية وفنية راسخة. ومنذ بضعة أعوام نظّمها في إطار برنامج مستقل

محمد رُضا‬ (ڤينيسيا)

سينما «السوبر هيروز» وأزماتها غير المحسوبة

من اليمين: كريس إيفانز وروبرت داوني جونيور وكريس همسوورث: نجومية عابرة (مارڤل ستديوز)
من اليمين: كريس إيفانز وروبرت داوني جونيور وكريس همسوورث: نجومية عابرة (مارڤل ستديوز)
TT

سينما «السوبر هيروز» وأزماتها غير المحسوبة

من اليمين: كريس إيفانز وروبرت داوني جونيور وكريس همسوورث: نجومية عابرة (مارڤل ستديوز)
من اليمين: كريس إيفانز وروبرت داوني جونيور وكريس همسوورث: نجومية عابرة (مارڤل ستديوز)

فيلم فرنسيس فورد كوبولا الجديد «ميغالوبوليس»، الذي سيعرض خلال مهرجان تورنتو الحالي من 5 سبتمبر (أيلول) إلى 15 منه، ليس فيلماً سياسياً، بيد أنه يتضمن فكرة سياسية الجوهر، وهي أن أمام الولايات المتحدة مأزق مجتمعي خطر. الحبكة ذات العناصر الفانتازية من وجود حالم يريد إعادة بناء نيويورك فيواجه في ذلك مصاعب ومشكلات جمّة ليشهد انهيار حلمه، تنطلي على أميركا كحالة عامّة. ليس أن المخرج ابتكر معطيات فكرته، بل صاغ لها الجانب الخيالي الذي يمكن ترجمته بسهولة إلى واقع.

الجمهور لا يشتكي

فنياً هو فيلم العام حتى الآن بصرف النظر عن كيف استقبله نصف النقاد، وكيف سيستقبله المشاهدون حين يُباشر بعرضه تجارياً في الشهر المقبل. يقترح الواقع ولا يتبنّاه، بذلك لا يجب أن نحاكم الفيلم حتى على واقعية (أو عدم واقعية) نظرته. لكن «ميغالوبوليس»، في الوقت نفسه، ليس الفيلم الخيالي الجانح الوحيد. السينما الأميركية منذ أكثر من 20 سنة غيّرت اتجاهها المتنوّع وحصرت نفسها في مجموعات من المسلسلات الخيالية. حتى تلك التي تُنتج لجمهور أصغر حجماً، باتت في الكثير من الحالات، منفصمة عمّا يمكن أن نُسميه واقعاً. تحوم حول مواضيع صغيرة تترجمها إلى صور سهلة عوض التعمق في دلالاتها المختلفة. في الوقت نفسه، سقطت أفلام الرسوم بدورها في منهج المسلسلات وباتت جزءاً من الآلة غير الساعية للابتكار أو الاختلاف.

في 20 يوماً من العرض عالمياً، تخطّى فيلم الكوميكس «دَدبول ووولفرين» (Deadpool ‪&‬ Wolfverine) مليار دولار حول العالم. بحسبة تقريبية على أساس متوسط سعر التذكرة هذه الأيام، فإن عدد مشاهدي هذا الفيلم الخالي من أي قيمة تُذكر، لجانب تلبية هواة الترفيه بما يلزم من مشاهد تجنح للكوميديا، يتراوح ما بين 50 مليون و65 مليون شخص.

من «دَدبول وولڤرين» (مارڤل ستديوز)

ما يعنيه ذلك أن هناك هذا العدد من الأشخاص الذين اندفعوا لمشاهدة شخصيّتين من شخصيات «السوبر هيروز» ماثلتين أمامهم ليتعرّفوا على كيف سيتواجهان وكيف سيعملان معاً ضد أعدائهما. في سبيل ذلك عاش هؤلاء ساعتين من اللامعقول المحبّب. على عكس، «ميغالوبوليس»، الذي لن يجمع أكثر من 33 مليون مشاهد حول العالم إلا بأعجوبة، لا يحتوي «دَدبول ووولڤرين» على مفادات اجتماعية أو رموز تعكس رغبته في إثارة ما هو مهم حتى ولو من بعيد.

ليس أن الجمهور السائد يشتكي. في حوار مع عدد من المعجبين مؤخراً على صفحات الميديا الاجتماعية دافع غالبية المتحاورين عن هذا الفيلم وأمثاله بأنه يلبّي الرغبة في الترفيه وأن «الكوميكس» هو أدب من الخيال والخيال- العلمي الذي من قصر البصيرة انتقاده.

هذا صحيح. هو شكل أدبي من الخيال والخيال - العلمي، لكن بالمقارنة مع ما طُرح حتى في إطار سينما «الكوميكس» و«السوبر هيرو»، سابقاً، في أفلام مثل «سوبرمان» و«آيرون مان» و«باتمان»، يفتقر هذا الفيلم إلى الحد الأدنى من القيمة والذكاء.

فن وترفيه

السينما الأميركية، وفي كل بلد مكتظ بسكانه (مثل مصر والهند وفرنسا)، شهدت تقليداً متواصلاً من الأفلام التي لم تدّعِ أنها ذات مضامين فكرية أو تتناول الواقع على نحو أو آخر. لكن الفارق الأكبر بين سينما اليوم (في مجملها) وسينما الأمس، أن تلك كانت تتّسع لكل أنواع الأفلام بينها تلك الفانتازية عن «كابتن أميركا»، و«الشبح»، و«الظل»، و«كابتن مارڤل». روّاد الأمس، حتى مطلع الثمانينات من القرن الماضي كانوا يستطيعون مشاهدة إنتاجات رئيسية لعدة أنواع من الدراما إلى الكوميديا ومن البوليسي إلى الوسترن مروراً بأفلام الخيال-العلمي (الفعلية، أي تلك الخيالية المبنية على بعض العلم) والرعب والرومانسي والموسيقي والتاريخي والأعمال المقتبسة من الروايات الأدبية.

من «المحادثة» بعد 50 سنة (باراماونت بيكتشرز)

ليكون النموذج واضحاً، يمكن لنا أن نعود إلى عام 1974 (قبل 50 سنة من الآن) لنتعرّف على بعض ما أُنتج أميركياً آنذاك: «العراب 2» لفرنسيس فورد كوبولا، «غانغسترز» و«المحادثة» (لكوبولا أيضاً الذي يُطرح مجدداً حالياً بمناسبة مرور 50 سنة على إنتاجه)، و«تشايناتاون» لرومان بولانسكي (بوليسي)، و«مذبحة منشار تكساس» لتوب هوربي (رعب)، و«بارالاكس ڤيو» لألان ج. باكولا (تشويق سياسي)، و«احضر لي رأس ألفريدو غارسيا» لسام بكنباه (وسترن)، «ليني» (Lenny) لبوب فوسي (موسيقي). كل واحد من هذه النماذج استحق المكانة الفنية ولم يبخل على الجمهور السائد بالترفيه المعتاد.

القائمة تطول (تحتوي عشرات العناوين)، لكنها جميعها تشي بالرغبة في توفير التّنوع الذي كان ينجز نجاحات متعددة الرؤوس. كثير منها لم يهمل الترفيه، بيد أنه ربط ذلك بالمفادات المجتمعية.

قائمة أنجح 10 أفلام في تلك السنة ضمّت فيلم الكوارث «الجحيم البرجي» (The Towering Inferno) و«زلزال» (Earthquake)، وكلاهما من نوع سينما الكوارث المفقودة هذه الأيام والدراما الرياضية «الملعب الأطول» (The Longest Yard)، والدراما المضادة للعنصرية «محاكمة بيلي جاك»، والفيلم الساخر «فرانكنستين الشاب»، هذا بجانب «العرّاب 2» طبعاً.

نجوم ليوم وليلة

‫يشمل الوضع حقيقة أن الممثلين كانوا يجدون كثيراً من الأدوار المختلفة عوض اضطرارهم للالتصاق بنوع واحد تأميناً لنجاحهم كما حال كريس هيمسوورث (The Avengers)، وبول رود (Ant Man)، وسكارليت جوهانسون (The Avengers وBlack Widow)، وبيندكت كامبرباتش (Doctor Strange)، وتوم هولاند (Spider-Man)، وكريس إيڤانز (Captain America)، وروبرت داوني جونيور («آيرون مان» و«ذَ أفنجرز») حتى لا ننسى رايان رينولدز لاعباً شخصية دَدبول، لجانب عدد كبير من الممثلين الآخرين.‬

المؤسف هو أن هؤلاء غير قادرين على تغيير النوع صوب فيلم واقعي أو دراما فعلية لأن المحتم، غالباً، سقوط الممثل بسقوط فيلمه، وهذا يؤكد أن نجوم اليوم محكوم عليهم بسينما المؤثرات في حين أن الجمهور نفسه لا يكترث لهم إن حاولوا التغيير.