أعلن مهرجان فينيسيا في دورته الثمانين المُقامة ما بين 30 أغسطس (آب) الماضي و9 سبتمبر (أيلول) الحالي، عن قفزة كبيرة شهدتها عروض الأفلام في النصف الأول من الدورة، بالنسبة إلى عدد المشاهدين من مشتري البطاقات.
للتنويه، ثمة نوعان من الحضور: المدعوّ للمشاهدة بتذاكر مجانية (سينمائيون وصحافيون ونقاد)، وعشاق السينما من الجمهور العادي، الذي عليه شراء التذاكر.
وفق المُعلَن، ارتفع عدد التذاكر المُباعة 9 في المائة عمّا كان عليه في العام الماضي، إذ بلغ عدد مشتريها 35 ألفاً و375 شخصاً. أما بالنسبة إلى إقبال ذوي التذاكر المجانية، فبلغت الزيادة 17 في المائة عمّا كانت عليه في العام الماضي.
بالجمع بين التذاكر المجانية للمحترفين والمُباعة للجمهور العام، فإنّ العدد الإجمالي هو 114 ألفاً و851 شخصاً، بزيادة 18 في المائة عن إجمالي العدد في العام الماضي. هذه الأرقام ليست نهائية، بل تتوقّف عند اليوم السابع من أيام المهرجان الإيطالي العريق.
هذا، باعتراف مسؤولي المهرجان أنفسهم لدى سؤال ثلاثة منهم، لم يكن مُتوقَّعاً. ذلك لأنّ إضراب هوليوود أشاع نوعاً من التحذير للمهرجان قبل انعقاده، مفاده عدم توقُّع اهتمام كبير بدورة هذا العام من مرتاديه الدائمين، وهم النقاد والإعلاميون، ولا من الجمهور الذي اعتاد استغلال المناسبة لمتابعة بانوراما ثرية من الأفلام الجديدة وبعض الكلاسيكيات.
طرف يؤيّد وطرف يتظاهر
النجاح الحالي ألغى تلك المخاوف، لكنه أيضاً مناسبة للفت اهتمام هوليوود إلى أنّ المهرجانات العالمية (خصوصاً الثلاثة الرئيسية؛ برلين وكان وفينيسيا) لا يمكن تجاهل أهميتها على صعيد تشجيع الصناعة ودفع عجلاتها إلى الأمام. فالمهرجان أصدر بياناً قال فيه إنه يأمل في نهاية مُرضية للأطراف جميعاً فيما يتعلّق بإضراب الممثلين والكتّاب. لم يكن البيان حيادياً، بل وخز خاصرة الاستوديوهات المُمتنعة عن الاستجابة لطلب المُضربين زيادة أجورهم وتحصين مستقبلهم ضد الاستنباطات التكنولوجية التي من شأنها الإضرار بالممثلين (عبر الاستنساخ) وبالكتّاب (عبر الاعتماد على سيناريوهات تنتجها تلك التقنيات من دون جهد بشري).
الوخزة جاءت في نهاية البيان، إذ قال: «يمثّل المهرجان فعل الاحترام والتأييد للفنانين والمؤلّفين المُضربين (خصوصاً) الذين حضروا المهرجان منهم».
المخرجون وبعض الممثلين صرّحوا بتأييد الإضراب وبأنهم يريدون للنقابتين (الممثلين والكتّاب) الإصرار على تحقيق الأهداف التي رفعوها إلى الاستوديوهات. في هوليوود، المحادثات مجمّدة الآن بعد الجولة الأخيرة في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي.
إلى ذلك، فإنّ استقبال فيلم وودي ألن «انقلاب حظ» قبل يومين، عندما قُدِّم في الحفل المسائي، شهد ترحيباً كبيراً من رئيس المهرجان ألبرتو باربيرا، في مقابل مظاهرة نسائية ضد المخرج، قادتها نساء أردن إيصال أصواتهن المعارِضة لاستقباله بسبب تهم جنسية برأته المحكمة الأميركية منها.
هذا الموقف كان مُتوقَّعاً، ولن يغيّر في مسيرة المهرجان شيئاً. سيمضي وودي ألن معظم العام المقبل باحثاً عن مموّل مستقلّ، وهو شرطه للاستمرار. في مقابلة لمجلة «فارايتي» قبل أيام، قال: «هذا الفيلم (انقلاب حظ) هو فيلمي الخمسون وبعده لا أدري. قد أتوقّف عند هذا الحد من الأفلام لأنّ البحث عن التمويل بات أصعب من قبل. يتطلّب جهداً استثنائياً وكبيراً في مثل هذه الظروف. إذا وجدت المموّل المستقلّ، فكرتُ بالاستمرار؛ لكن ليس قبل ذلك».
بالنسبة إلى رومان بولانسكي، فإنّ الرجل لن يقدر على العودة إلى مهرجان فينيسيا قبل عامين أو ثلاثة إذا ما أراد بدوره الاستمرار - قال إنّ فيلمه الجديد، «القصر»، هو آخر أفلامه - هذا يضع المخرج الفرنسي لوك بيسون، الذي عرض «دوغمان» ضمن مسابقة الدورة الحالية، في الواجهة. هو قادر على العمل بوتيرة سريعة، لكن عليها أن تكون أسرع من المعتاد، إذا ما أراد الاشتراك في الدورة المقبلة، وهذا مُستبعد.
بين الأفلام الثلاثة، نال «دوغمان» الحظ الأوفر من الترحيب النقدي. «انقلاب حظ» جاء ثانياً، وحلَّ «القصر» أخيراً. لكن عجلة العروض لا تتوقف عند آراء الجمهور أو المحترفين، وسط أفلام تجاوزت الأعمال الثلاثة المذكورة.
حكاية رون الذي هو غاري
أحد الأفلام البديعة التي شوهدت هنا خلال اليومين السابقين، هو «ضارب» للمخرج ريتشارد لينكليتر، الذي عادة ما ينجز أفلامه كمؤلف مستقلّ وينال على غالبيتها مديح النقاد والجمهور المتخصّص.
هذه المرة، يحيد عن درب الاستقلالية، ولو في المبدأ. فيلمه مثل معزوفة جاز تتنوّع مفاتيحها وتتنقّل أنغامها من الكوميدي إلى البوليسي، من دون أن تخفف من درجة حضورها الساخر. في جانب آخر، هو مثال لفيلم «نوار» حديث، إذا لم يكن بسبب أجوائه (وبعض اللقطات السريعة لأفلام «نوار» سابقة)، فبسبب أنّ التيمة تتبع تيمة معظم ذلك الصنف من الأفلام والدراميات البوليسية.
نتعرّف إلى غاري (غلين باول)، يلقي محاضراته في الجامعة حول الفرد والمجتمع من منظور فلسفي. هو ماهر ويعرف عما يتحدّث وكيف يجعل محاضراته مسلّية ومفيدة. سنلحظ أنّ عدد طلابه ارتفع في نهاية الفيلم، فإذا بكل المقاعد ممتلئة ومهتمة بما يقوله.
لدى غاري عمل آخر، فهو يساعد في التنصّت ورسْم صور لشخصيات كل منها ينوي تنفيذ جريمة. لا نزال في مطلع الفيلم عندما يُرشَّح غاري لدور «الهِت مان»، الذي سيقابل (باسم آخر وشخصية مختلفة) أي شخص يتصل به لتنفيذ جريمة قتل. سيستمع إليه. سيعده بتلبية طلبه مقابل المبلغ المُتفق عليه وسينجز المهمّة في أقرب فرصة. كل هذا مسموع لفريق من المساعدين، وبمجرّد خروج غاري (بات اسمه رون)، يقتحم الفريق المكان للقبض على ذاك الذي اعتقد أنه استأجر قاتلاً لتنفيذ جريمته.
بين هؤلاء امرأة متزوّجة تدعى ماديسون (أدريا أرخونا التي تشبه سلمى حايك في شبابها)، تريد من رون قتل زوجها لأنه عنيف. عوض أن يوافقها، بعدها يراها مُكبّلة بالأصفاد وهي تُساق إلى مركز الشرطة، من ثَم إلى المحكمة؛ يقنعها بعدم التفكير بهذه الخطّة وطلب الطلاق والتمتع بحياة خاصة بعيداً عن زوجها. بينما يثير ذلك غضب مسؤولي غاري/ رون، تشعر المرأة بالانجذاب إلى شخصيته ويبادلها سريعاً الإعجاب، فينطلقان في علاقة عاطفية بعد طلاقها من زوجها.
هنا تدخل تيمة الفيلم «نوار»، فالمرأة في هذه الأفلام أداة هدم للبطل الرجل. قد تخونه، قد تدفعه إلى إفلاس أخلاقي أو مادي، أو قد تحاول قتله. في فيلم «نفس مقطوع» (أول أفلام الفرنسي جان - لوك غودار)، عبارة يقولها جان - بول بلموندو مفادها أنّ المرأة التي يقع في غرامها الرجل هي المرأة التي تدمّره. هذا ما يحدث هنا مع فارق أنّ القصّة ستُصوّر الاثنين وقد احتالا على القانون (بعدما قتلت زوجها السابق بالفعل)، وها هما يتزوّجان ويُرزقان بطفل.
مهاجرون بين جحيمين
على بُعد 180 درجة، ثمة فيلم جادّ ومؤلم توفره المخرجة البولندية أغنيشكا هولاند يحاكي معاناة المهاجرين غير الشرعيين في الغرب. تكاثرت الأفلام التي تناولت هذا الموضوع في السنوات العشر الأخيرة تبعاً للهجرة المتواصلة عبر شمال أفريقيا، التي تلت بداية الحرب في سوريا. لكن «الحدود الخضراء» المموَّل من 5 شركات أوروبية خاصة (بولندا، وألمانيا، وفرنسا، والتشيك وبلجكيا) يتجاوز معظمها بحجم حضور الواقع فيه، وبإمعانه تصوير قسوة الشرطة تجاه الهاربين من جحيم الحرب إلى جحيم آخر لم يكن في حسبانهم.
يبدأ الفيلم (المقسّم إلى 5 أجزاء) بفصل عنوانه «العائلة»، عن عائلة سورية مؤلّفة من الجد وابنه وزوجة الابن وأولاده الثلاثة. يتواصلون مع أحد أقاربهم في السويد الذي توقّع مرورهم من أراضي بيلاروسيا إلى تلك البولندية، ومنها إلى السويد. لكن لا شيء من ذلك تم وفق المُتوقَّع.
تزامن وصول العائلة (بينها امرأة مسلمة، لكنها غير عربية) إلى الحدود بين بيلاروسيا وبولندا، مع بدء الضرب الوحشي من شرطة الجانبين. العائلة وسواها من المظلومين يجدون أنفسهم حيناً في بيلاروسيا وحيناً في بولندا. الطرف الأول ينفيها بعد الضرب إلى الثاني، والثاني ينفيها بعد الضرب إلى الأول.
في الأثناء، تقع مآسٍ عدّة: العائلة تفقد طفلاً غرق في مستنقع، الجدّ ينفصل عن العائلة (لا نراه بعد ذلك). الزوجة تفقد طفلها خلال الإنجاب.
تنتقل المخرجة المخضرمة هولاند، بالتناوب، ما يحدث للعائلة وسعي نساء في الريف المجاور إلى مساعدتها قدر الإمكان. ينجحن حيناً ويفشلن حيناً آخر، لكنهن مصرّات على مساعدة من تبقى منهم للجوء إلى السويد بعد كل هذا الشقاء.
الفيلم بالأبيض والأسود، يكاد يفلت من يدي مخرجته في منطقة الوسط، حيث بعض التكرار، لكن ما ينقذه هو صدقه وواقعيته والرغبة المخلصة في عرض الحال كما هي، رغم أنه فيلم مؤلّف، غير مقتبس عن واقعة حقيقية، ولو أن ما يُسرد مُستنتج من حقائق.
ممثلون عرب غير معروفين يتوّجون هذا الجهد: بهية عطية، وجلال الطويل، ونديم سليمان وداليا نعوس. يمكن للمرء أن يتصوّر صعوبة انتقال هؤلاء من حالاتهم إلى تجسيد المرارة التي تعيشها شخصياتهم.