لقاء قصير عند بوابة مكاتب مدير المهرجان ألبرتو باربيرا، أتاح سؤالاً واحداً: «كيف تُقيَّم هذه الدورة في ظلّ المستجدات المتعلقة بالإضراب، الذي قد يمنع نجوم السينما من حضوره».
الجواب قبل أن تتسارع الخُطى لدخول مقرّه: «النجوم سيحضرون. أمر شبه مؤكد. لكن المسألة برمتها لا تهدد الدورة لأننا عملنا ومنذ نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، على تحضير الدورة وإنجازها بنجاح. شاهدنا أكثر من 2400 فيلم منذ ذلك الحين، والتأثير الوحيد حتى الآن هو، استبدال فيلم الافتتاح. كان لدينا البديل المناسب. الوضع جيد على الرغم من كل شيء».
صيد سهل
النجوم سيحضرون، ليس فقط من أوروبا التي لا تمتثل لإضراب أميركا، بل من الولايات المتحدة نفسها، كما تُشير آخر التطوّرات.
لكن هناك تحدّيات أخرى غيرت احتمالات حضور النجوم أو غيابهم. في الواقع حضورهم أو غيابهم ليس مسألة سلبية بالكامل، بل هناك إيجابيات مختلفة، من بينها أن الاهتمام سينصبّ بدرجة أعلى من المعتاد على قيمة الأفلام المختارة بحد ذاتها، وعلى كيفية نجاح المهرجان في جعل الدورة الثمانين منه (بدأت في 30 أغسطس (آب)، وتنتهي في 10 سبتمبر (أيلول)، ناجحة كما كانت الدورات السابقة منذ اعتلاء باربيرا الرئاسة.
بالحكم على حجم الحجوزات الفندقية، لا مشاكل في إلغائها إلا بالنسبة نفسها كالتي كانت تحدث في كلّ عام. الصالات على كبر حجمها وقدرة استيعاب بعضها مليئة بالمشاهدين. حتى لو عمد المرء لحجز مسبق فإنه قد لا يجد المقعد الذي يريده أو قد لا يجد أي مقعد على الإطلاق.
المشكلة في الواقع هي مشكلة الإعلام مع أي مهرجان دولي كبير، القنوات والصحافة الإعلامية في المهرجانات تحضر لتغطي الأخبار وتصطاد الفضائح وترقب تصرّفات النجوم (هذه كسرت كعب حذائها، ذاك شوهد يحتضن امرأة ليست زوجته... إلخ). لتكتب عن قصور هنا وآخر هناك. لتُجري المقابلات التي تسأل المحتفى بهم عن كيف كانت الرحلة إلى المهرجان، أو هل صحيح أنك تأخرت في الوصول إلى مكان التصوير أكثر من مرّة؟ أو كيف تشعرين وأنتِ في رحاب هذا المهرجان للمرّة الأولى؟
هذه المسائل تبيع. وهذا لا ريب فيه. والمهرجانات الكبيرة وجدت نفسها، ومنذ سنوات، في ورطة من يحتاج إلى الدواء لمعالجة الداء.
سوابق لا تغتفر
الموضوع المفضل والتلقائي الذي بات جاهزاً للتداول عبر منصات الإعلام المختلفة هو عمّا إذا كانت هناك مساواة في الأفلام نسائية الإخراج أم لا. مهرجان «فينيسيا» نال نبالاً مُسوّمة من إعلام يلوك الموضوع ليبيع «اللايكات ويرفع من حجم القراءة اليومي، كما لو أن المسألة الحتمية هي عددية: هناك 20 مخرجاً ذكراً، ولا بدّ أن يكون هناك 20 مخرجة أنثى وإلا.... لم يَسبق في التاريخ أن أُقحمت مسائل كهذه في كيان مهرجانات السينما إلا في السنوات القليلة الماضية، علماً بأن العدد الغالب في صناعات عديدة هو ذكوري، نسبة لعوامل اجتماعية متوارثة. هل تستطيع المرأة مثلاً العمل في مناجم الفحم؟ ولماذا الصّمت حيال أنّ معظم الرحلات الجوية يقودها رجال؟ هل يرتاح الركّاب بمن فيهم النساء إذا ما أُعلن أن قائد الطائرة المتجهة من لوس أنجليس إلى باريس أو لندن أو سواهما هو امرأة؟ لماذا لا نرى عدداً مساوياً من النساء في المسالخ مثلاً؟
تجدّد خلال العام الحالي الحديث كذلك عن اختيار المهرجان ثلاثة أفلام لمخرجين كانوا عرضة لتحقيقات في تصرّفات جنسية. الثلاثة هم، وودي ألن، ورومان بولانسكي، ولوك بيسون. يعرض الأول فيلمه الجديد «انقلاب حظ»، ويندفع الثاني لعرض آخر أفلامه «القصر». أما لوك بيسون فيعرض هنا «دوغمان» (Dogman).
لا يكترث الإعلام كثيراً لحقيقة أن بيسون وألن خرجا بريئين من التهم، ولا يكترث أن رومان بولانسكي عُوقب بضراوة وأن المعتدى عليها سامحته. سبب عدم هذا الاكتراث بسيط: لو اكترث الإعلام الشعبي لهذه الحقائق لما كان هناك ما يمكن إثارته.
هذا يذكّر بحقيقة موازية وهي أن اهتمام محطات التلفزيون الأميركية (أساساً لكن غيرها أيضاً) بمتابعة خبر عن قتل شرطي أبيض مواطن أسود، لا يعود إلى موقف منتقد للعنصرية بقدر ما هو ناتج عن اهتمام شركات الإعلان بمثل هذه التقارير إدراكاً منها أن جموع الأميركيين يتابعون الحدث على المحطات التلفزيونية. وعليه فإن الفرصة مناسبة لإمطار الشاشة بالإعلانات، مما يرفع من إيرادات المحطات. ومن ثَمّ متى كانت آخر مرّة بدأت نشرة الأخبار بخبر إيجابي يحمل تفاؤلاً أو سروراً للناس؟ اسأل العملية الهندسية بين التلفزيون وشركات الإعلان.
حياد الناقد
بالنسبة لبولانسكي وألن وبيسون (من حسن الحظ أن جوني ديب ليس لديه فيلم هنا، وإلا لكانوا ضمّوه إلى المجموعة)، فإن الخط الفاصل بين الحياة الشخصية والعمل الفني هو ما يستند إليه مهرجان «فينيسيا» في ردّه على المنتقدين. باربيرا كرّر القول بأنه ليس قاضياً بل رئيس مهرجان ويحكم على الأفلام وليس على البشر.
من ناحية أخرى، من الخطر جمع اثنين من هؤلاء المخرجين، اللذين تمت تبرئتهما من الذنب مع مخرج حكمت عليه المحكمة ولم تبرئه. خطرٌ من حيث أن الحالتين مختلفتان. الخطر الثاني أن المزيد من القيود غير المنظورة تجعل أيّاً من هؤلاء الثلاثة ضحية رأي عام حتى بعد براءته.
الحال هو أنه بدءاً من هذا اليوم ستتابع عروض أفلام هؤلاء المخرجين، وفي بال العديد من المشاهدين أنهم يشاهدون أفلاماً لمخرجين جرى تأليف الرأي العام عليهم على نطاق واسع.
موقف الناقد في هذه الحالة هو الحياد، إذا ما كان محترفاً. الحياد بالنسبة للنقد هو أحد أهم عناصر عمله. حيادٌ في الموضوع السياسي، وحياد في البلد الذي ينتسب إليه الفيلم، وحياد في حياة المخرج الشخصية التي قد لا تثير عطفه أو إعجابه لكنه يعمل في حقل نقد الأفلام وليس في نقد الأشخاص.
ما سبق لم يترك تأثيره على حجم الراغبين في عرض أفلامهم في هذه الدورة، ولا في نوعية المخرجين الذين يعرضون أفلامهم فيها. عدد كبير منهم، أي من تلك الأسماء الكبيرة في عالم اليوم، لم يحتجّ أيٌّ منهم على وجود مخرج آخر في المسابقة أو خارجها.
من بين هؤلاء نجد التشيلي بابلو لاران، في فيلم «El Conde» الذي حققه بالأبيض والأسود، عن الرئيس التشيلي أوغستو بينوشت، والأميركي برادلي كوبر «مايسترو»، والبولندية أنييشكا هولاند «الحدود الخضراء»، والإيطالي ستيفانو سوليما «أداجيون»، والأميركية صوفيا كوبولا «برسيليا»، واليوناني يورغوس لاتيموس «أشياء فقيرة» (Poor Things) والعديدين سواهم.