تحذيرات بالخليج من التراخي في ضبط المحتويات المزيّفة

تصاعد الاحتيال يثير دعوات لتشديد مسؤولية «التواصل الاجتماعي» ومحرّكات البحث

الأمير خالد بن الوليد بن طلال (الشرق الأوسط)
الأمير خالد بن الوليد بن طلال (الشرق الأوسط)
TT

تحذيرات بالخليج من التراخي في ضبط المحتويات المزيّفة

الأمير خالد بن الوليد بن طلال (الشرق الأوسط)
الأمير خالد بن الوليد بن طلال (الشرق الأوسط)

مع تنامي استخدام الشبكات الرقمية في دول مجلس التعاون، تشهد دول الخليج تصاعداً واسعاً في مكافحة عمليات الاحتيال عبر القنوات الرقمية، إذ يستغلّ المحتالون منصات التواصل الاجتماعي ومحركات البحث لانتحال شخصيات عامة واستغلال أسماء مؤسسات معروفة؛ بغرض استدراج المستخدمين.

وعلى الرغم من الجهود التنظيمية والتقنية والتوعوية التي تبذلها الحكومات الخليجية، تتعالى تحذيرات من «تراخي» بعض المنصات في ضبط المحتوى المزيّف؛ ما يسهّل انتشار حملات التضليل وانتحال الهوية عبر حسابات مزيفة ونتائج بحث مضلِّلة.

وشدَّد الأمير خالد بن الوليد بن طلال، رئيس الاتحاد السعودي للرياضة للجميع، على ضرورة مشاركة شركات التكنولوجيا الكبرى بشكل أكبر في تلك المكافحة، وعلى أنَّ استمرار نشاط الحسابات والمواقع المزوّرة، رغم كثافة البلاغات، أمر «يبعث على القلق».

ثم قال: «شركات التواصل الاجتماعي تجني مليارات من هذه المنطقة، وعليها واجب واضح في حماية المستخدمين. الاستجابة البطيئة لإدارة المحتوى العربي ونتائج البحث الزائفة تعني ترك الناس عرضةً للاستغلال». قبل أن يشير إلى أنّ استغلال اسم العائلة ومؤسساتها الخيرية زاد من خطورة هذه العمليات «لأن الناس يثقون بالنية الطيبة ويرون جهة خيرية موثوقة، فيغدو بعضاً من فئات المستخدمين هدفاً للاحتيال».

تزايد تدفق المعلومات وانتشار المنصات ساهم ذلك في إيجاد بيئة مثالية لنشر الأخبار (الشرق الأوسط)

ولفت إلى أنّ كثيراً من «الوزراء وأفراد الأسر الحاكمة وكبار الشخصيات في دول مجلس التعاون تعرّضوا لحملات مشابهة».

تكتيكات خداع

يبدأ كثير من هذه العمليات بحسابات على منصات التواصل، أو صفحات إلكترونية مُصمَّمة بإتقان لتماثل المواقع الرسمية، ويُبَثُّ عبرها محتوى مثير يتناول الحياة الخاصة لشخصيات عامة أو يروِّج لأخبار غير صحيحة لزيادة المتابعة والمشاهدة. ومع ازدياد التفاعل، تُحوَّل الدفة سريعاً إلى محادثات عبر تطبيقات مراسلة، لا سيما تطبيقات المحادثة المباشرة، أو إلى روابط خارجية تطلب «رسوم تسجيل» أو مشاركة في «سحب جوائز» أو «منح» مزعومة. وغالباً ما تستدرج المستخدمين لتحويل مبالغ صغيرة في البداية، قبل أن تتطور المطالبات إلى مبالغ أكبر تحت ذرائع «توثيق الهوية» أو «تسريع المعاملة».

وتسجِّل حملات الاحتيال نجاحها الأكبر عندما تقرن الإيحاءات العاطفية بالسلطة الرمزية، من خلال صور وشعارات لمؤسسات خيرية معروفة، أو أسماء شخصيات عامة، أو مقاطع «مؤثرة» مُنتَجة بمهارة.

ولقد روَّجت إحدى الحملات الزائفة أخيراً لادعاء غير صحيح عن «زواج» الأمير خالد بن الوليد بن طلال من مسؤولة تنفيذية، في محاولة لجذب الانتباه، ثم البناء على الزخم لخداع مزيد من المستخدمين مالياً.

وللعلم، هذه القصص المصنوعة تُبنى بعناية من خلال عنوان مثير، أو فيديو قصير عالي الإيقاع، أو وصف موجز يتضمّن وعوداً أو إيحاءات، ثم روابط خارجية تقود إلى عمليات الاحتيال.

الذكاء الاصطناعي يضاعِف حجم الخطر

يشدِّد الأمير خالد بن الوليد بن طلال على أنّ مكافحة هذه الظاهرة «تتطلب جهداً جماعياً من المنصّات ومحرّكات البحث؛ لتعزيز الوعي الرقمي ومواجهة المحتوى المزيف الذي ينتشر بسرعة هائلة بفضل الذكاء الاصطناعي»، لكون التطوّر في أدوات التوليد جعل الصور والفيديوهات والصوتيات قابلة للاستنساخ على نحو يضلّل حتى المستخدمين المتمرّسين.

ويضيف: «على المستخدمين تعلم التحقق ممّا يشاهدونه، لأن التكنولوجيا جعلت خلق واقع غير حقيقي أمراً سهلاً، ومن الطبيعي أن يكون نشر ثقافة التحقق جزءاً أساسياً من مسؤوليات المنصات نفسها، فهي تبني هذه البيئات وتستفيد منها مالياً».

وهنا تبرز فجوة ملحوظة تتمثل في أن الخليج من أكبر أسواق استخدام المنصات الاجتماعية عالمياً، غير أنّ قدرات الإشراف على المحتوى العربي في شركات التواصل الاجتماعي ما زالت محدودة قياساً بالحجم والنمو. ووفق الأمير: «نبلغ باستمرار عن الحسابات والمواقع المزيفة، لكن الردود بطيئة جداً. وكل ساعة من التأخير تسمح للمحتالين بإيقاع مزيد من الضحايا. وهكذا، على الشركات توظيف فرق محلية تعرف اللغة والسياق الثقافي، وتفهم كيف يُستغل الناس في هذه المنطقة».

تحدٍ تقني متجدّد

من زاوية تقنية، يرى مات سوش، المؤسِّس والرئيس التنفيذي لشركة «إنيدون» والمتخصص في الأمن السيبراني والتحقيقات الرقمية، أنّ المنصات «تواجه تحدياً معقّداً، لأنّ المحتالين لا يستغلون قنوات التواصل فحسب، بل يوظفون أيضاً المكالمات الهاتفية والبريد الإلكتروني وتطبيقات المراسلة. وأنَّ أنظمة الكشف، رغم تطوّرها، لا تستطيع رصد جميع الحالات».

ويضيف: «المهاجمون يطوِّرون أساليبهم باستمرار لتجاوز الدفاعات. ومع انتشار المحتوى المُنتَج بالذكاء الاصطناعي وتقنيات التزييف العميق، باتت طرائق الهجوم أعقد وتتحدّى قدرات الكشف التقليدية».

ثم يشير سوش إلى حجم السوق الهائل للحلول التقنية المضادّة، لافتاً إلى أنَّ أمن البريد الإلكتروني وحده يقدَّر بمليارات الدولارات، وأنَّ تقارير رسمية سجَّلت خسائر بمليارات جرَّاء «الاحتيال في البريد الإلكتروني التجاري»، لتأتي في مرتبة متقدمة بين الجرائم الإلكترونية من حيث التكلفة. ويفيد بأنَّ منع العائدين بحسابات جديدة بعد تعطيل القديمة «لا يزال تحدّياً قائماً»؛ بسبب الإفراط في مشاركة المستخدمين لبياناتهم الشخصية، والطبيعة المجزّأة للمنصات التي تُصعِّب التنسيق. ويتابع: «عندما تُحظر جهة على منصة، تنتقل ببساطة إلى أخرى - على حد وصفه – الأمر الذي يستدعي تعاوناً وتنسيقاً أوسع بين جميع أطراف النظام البيئي الرقمي».

«إرادة فعلية»... وقوانين رادعة

من جهة ثانية، يقول أشرف زيتون، الرئيس السابق للسياسات العامة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في «ميتا»، إنَّ المنصات «تملك الموارد المادية والبشرية والتقنية الكافية للتعامل مع الأخبار المُضلِّلة، سواء عبر أدوات متاحة أو قابلة للتطوير... لكن ما ينقص هو عنصر الإرادة الفعلية». ويردف: «لا يبدو أنَّ إدارات المنصات معنيّة بما يكفي؛ فالنموذج الربحي يستفيد من سرعة انتشار الأخبار الزائفة ومدى التفاعل معها، وهو ما يُترجَم إلى إيرادات إعلانية».

ولذا، يقترح زيتون «سنّ قوانين صارمة بعقوبات مالية كبيرة على المنصّات التي لا تتعامل بفاعلية وسرعة مع الأخبار المضللة وانتحال الشخصية»، عادّاً أنّ هذه المقاربة «ستؤثر مباشرة في نموذج الأعمال، وتخلق حوافز داخلية للاستثمار في فرق الإشراف المحلية، وتطوير أدوات كشف أدقّ للغة العربية ولهجاتها، وتسريع الاستجابة لبلاغات المستخدمين».

بين التوعية والمسؤولية

يشار إلى أن التحذيرات تزامنت مع مسار تشريعي وتنظيمي خليجي آخذ في التشدد حيال المحتوى الرقمي والمعلومات المُضلِّلة. وبالتوازي، باتت التوعية بالحصول على المعلومات من الحسابات الموثّقة والمصادر الرسمية محوراً ثابتاً في الحملات التثقيفية. غير أنَّ غياب هذه القضية عن أولويات شركات التواصل ومحركات البحث - وفق تأكيدات المتابعين - يجعل الحدَّ من الظاهرة أكثر صعوبة.

ويرى خبراء أنَّ المعادلة الفعَّالة تقوم على بضع ركائز متكاملة، تتمثّل في: تعزيز الإشراف المحلي على المحتوى العربي، وتطوير الأدوات التقنية لرصد السلوك الاحتيالي، وتحسين الربط بين المنصات لتتبع الجهات نفسها عبر قنوات متعددة، بالإضافة إلى رفع كفاءة مسارات البلاغات، وإتاحة قنوات خاصة للحالات التي تتضمَّن انتحال شخصيات عامة أو مؤسسات خيرية، وبرامج توعية مستمرة.

اختبار الصدقية

وبالنسبة للمنصّات، تُشكِّل هذه الظاهرة اختباراً مباشراً لصدقيتها في أكبر أسواقها نمواً، إذ إن القدرة على التوفيق بين حرية التعبير، واعتبارات السلامة الرقمية، ومقتضيات نموذج الأعمال القائم على الإعلانات، تتطلّب قرارات استثمارية وإجرائية من توسيع فرق الإشراف المحلي، إلى تحسين نماذج الذكاء الاصطناعي الخاصة باللغة العربية، وصولاً إلى الإفصاح الدوري عن نتائج مكافحة التضليل والاحتيال بلغات المنطقة، وبشكل قابل للتدقيق.

وحقاً، يظل العالم التقني عالماً عميقاً يحتاج إلى ضبط إطار تنظيمي، حيث تتقاطع رسائل المسؤولين والخبراء عند نقطة واحدة، مفادها أنه «لا يمكن محاربة الاحتيال الرقمي بالمبادرات المتقطعة». وهذا بينما أصبح المطلوب إطار مستدام يجمع المنصات والجهات التنظيمية والمجتمع المدني، يوازن بين الابتكار والحماية، ويرفع تكلفة المخالفة على الجهات المُضلِّلة، ويعيد الثقة إلى الفضاء الرقمي.


مقالات ذات صلة

السعودية تطلق مبادرات رقمية لتعزيز التواصل الدولي

يوميات الشرق الدكتور عبد الله المغلوث مساعد وزير الإعلام أعلن عن المنصة الرقمية للتواصل الدولي خلال الملتقى (واس)

السعودية تطلق مبادرات رقمية لتعزيز التواصل الدولي

أطلقت وزارة الإعلام السعودية منصة رقمية شاملة تُعنى بتعزيز التواصل الدولي، وطورتها بالاشتراك مع هيئة الحكومة الرقمية.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
إعلام من "ادخلوا المتهم" ("إر ام سي")

الجريمة... مشاهدة عالية ومصدر إيرادات للقنوات الصغيرة

شهدت وسائل الإعلام الفرنسية خلال العقد الأخير تحوّلاً جذرياً في طبيعة المحتوى الذي تقدّمه للجمهور. فقد انتقلت قضايا القتل والحوادث الجنائية

أنيسة مخالدي (باريس)
إعلام زيادة الاعتماد تطبيقات الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

هل الذكاء الاصطناعي بريء من «تحريف الأخبار»؟

مرة أخرى تتجدد المخاوف بشأن زيادة انتشار «المعلومات المضللة» مع الإعلان عن نتائج بحث جديد، تظهر «تحريف» الذكاء الاصطناعي للأخبار.

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
إعلام مبنى "البنتاغون" بضواحي مدينة واشنطن (آ ب)

«قيود البنتاغون» تفتح نقاشاً دستورياً حول حرية الصحافة الأميركية

لم يكن خروج عشرات الصحافيين من مكاتبهم داخل مبنى «البنتاغون»، مقر وزارة الحرب الأميركية، منتصف أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، حدثاً إدارياً عابراً. فالمشهد، الذي…

إيلي يوسف ( واشنطن)
إعلام شعار "إكس") فوق أحد مقراتها في مدينة سان فرانسيسكو (رويترز)

هل تُسهم ميزة فتح الروابط على «إكس» في زيادة التفاعل مع الأخبار؟

أثار إعلان منصة «إكس» عن ميزة جديدة تتيح فتح الروابط داخل المنشورات تساؤلات بشأن تأثير ذلك في التفاعل مع الأخبار.

فتحية الدخاخني (القاهرة)

الجريمة... مشاهدة عالية ومصدر إيرادات للقنوات الصغيرة

من "ادخلوا المتهم" ("إر ام سي")
من "ادخلوا المتهم" ("إر ام سي")
TT

الجريمة... مشاهدة عالية ومصدر إيرادات للقنوات الصغيرة

من "ادخلوا المتهم" ("إر ام سي")
من "ادخلوا المتهم" ("إر ام سي")

شهدت وسائل الإعلام الفرنسية خلال العقد الأخير تحوّلاً جذرياً في طبيعة المحتوى الذي تقدّمه للجمهور. فقد انتقلت قضايا القتل والحوادث الجنائية من مجرد أخبار هامشيّة تحتل حيزاً ضئيلاً في النشرات الإخبارية، إلى ظاهرة إعلامية كاسحة تستحوِذ على اهتمام ملايين الفرنسيين. بل إن بعض المراقبين ما عادوا يترددون في وصف هذا الاهتمام بـ«الهَوَس الجماعي»، وهو وصف تدعمه أرقام المشاهدة الخيالية، والمبيعات القياسية للمجلّات المتخصّصة، والملايين من المتابعين على المنصّات الرقمية.

غير أن هذه الظاهرة لم تعُد مقتصرة على الحيِّز الإعلامي فحسب، بل تجاوزته لتصبح أداة سياسية فعّالة تستخدمها مختلف الأطراف السياسية لتحقيق مكاسب انتخابية وتمرير أجندات معيّنة، ما بات يثير تساؤلات جوهرية حول تأثير هذه التغطية المكثّفة على المجتمع الفرنسي ومنظومته القيَمية.

شعار "المعهد الوطني للسمعي البصري" INA (إينا)

الأرقام المُذهلة

الأرقام لا تكذب، وهي تؤكد بما لا يدَع مجالاً للشكّ أن القضايا الجنائية أصبحت جزءاً أساسياً من النظام الإعلامي للفرنسيين. فقد كشف استطلاع رأي أجرته مؤسسة «فيافوس» بمناسبة «المؤتمر السنوي للصحافة» في مدينة تور، بوسط فرنسا، عام 2025، عن أن 69 في المائة من الفرنسيين يتابعون بانتظام التغطية الإعلامية للحوادث والقضايا الجنائية. والأكثر دلالة أن 71 في المائة من هؤلاء المهتمّين يبحثون بشكل استباقيّ ومتعمّد عن معلومات حول القضايا الجنائية، بينما يتابع 26 في المائة منهم هذه الأخبار بشكل يوميّ ومُنتظم.

هذه المؤشّرات تنفي الزَّعم القائل بأن الاهتمام بالجريمة مجرّد فضول عابر أو اهتمام سطحي، بل هو سلوك متجذِّر وعميق يشكِّل جزءاً من الروتين اليومي لشريحة واسعة من المجتمع الفرنسي.

وعلاوة على ذلك، أكّد 62 في المائة من المُستجوَبين أنه «من الضروري» أن يتطرّق السياسيون إلى الحوادث الجنائية في خطاباتهم وبرامجهم، ما يوضح كيف تحوّلت هذه القضايا من مواضيع إعلامية بحتة إلى قضايا ذات أبعاد سياسية واجتماعية تشكّل الرّأي العام وتؤثّر في الخيارات الانتخابية.

التوسّع الكمّي في التغطية الإعلامية

من جهة ثانية، كشفت دراسة أخرى أجراها «المعهد الوطني للسمعي البصري» (INA) في فرنسا عن تطوّر مثير للقلق، فقد ازدادت حصّة الحوادث الجنائية في المساحة التحريرية لوسائل الإعلام بنسبة 73 في المائة بين عامي 2002 و2021.

هذه الزّيادة الهائلة تعني أن ما يقرُب من ثلاثة أرباع المساحة الإضافية في النشرات الإخبارية والبرامج أصبحت تخُصص لتغطية الجرائم والحوادث.

وتكشف المعطيات الجديدة عن منطق تجاريّ واضح، هو أن مثل هذه البرامج تحقّق نسب مشاهدة عالية، وبالتالي، تجني عوائد إعلانية ضخمة. وهذا ما يفسّر التفاوت في تغطية القنوات، فبينما تكاد الحوادث الجنائية تنعدم في القنوات العمومية والثقافية، كقناة «آر تي» الثقافية التي تخصّص أقل من 1 في المائة للأخبار الجنائية، فإنها تمثّل أكثر من 9 في المائة من تركيبة القنوات الإخبارية الخاصة كقناة «تي إف أو إم 6» مع تركيز خاص على أعمال العنف ضد الأشخاص، ولا سيما النساء والأطفال. وللعلم، هذا التفاوت ليس عبثياً، بل يعكس نموذج التمويل والضّغوط التجارية التي تخضع لها كل قناة. ذلك أن القنوات الأكثر اعتماداً على المنطق التجاري والإعلانات - إضافة إلى وسائل الإعلام المحلّية - تميل إلى منح حيّز أكبر لهذا النوع من الأخبار.

السبب بسيط، وهو أن الحوادث الجنائيّة سهلة الإنتاج، بسبب تعاون المصادر الأمنية والقضائية بسهولة مع الصحافيين، الأمر الذي يجعل كلفة إنتاج هذا المحتوى منخفضة بالمقارنة مع كلفة إنتاج التحقيقات الاستقصائية الأخرى، كما أن أرباحها كبيرة.

شعار قناة "دوبل في 9" (آ ف ب/غيتي)

مصدر إيرادات للقنوات الصغيرة

وبالفعل، غدت البرامج المتخصّصة في القضايا الجنائية مصدر إيرادات رئيس للقنوات الصغيرة بفضل أرقام المشاهدة الاستثنائيّة التي تحقّقها. وكمثال، هناك قناة «آر إم سي» التي استطاعت أن تتصدر المشهد لسنوات بفضل برنامج «أدخلوا المتهم»، وهو برنامج انطلق عام 2000 ووصل إلى موسمه السادس والعشرين عام 2024.

ويتناول هذا البرنامج القضايا الجنائية الكبرى في فرنسا، مستعيناً بإعادة تمثيل الأحداث وشهادات المحقّقين والخبراء، مع أسلوب سردي درامي يُصور في ديكورات مُظلمة توحي بالغموض.

الأرقام كشفت عن أن حلقات الموسم الثالث والعشرين من البرنامج حققت نحو 513.000 مشاهدة لكل حلقة، وهذه أرقام وإن بدت متواضعة مقارنة بالبرامج الترفيهية الكبرى، فإنها استثنائية بالنسبة لقناة صغيرة.

الوضع نفسه ينطبق على قناة صغيرة أخرى تدعى «دوبل في 9» التي نجحت بفضل برنامج «تحقيقات جنائية» في تحقيق نسب مشاهدة عالية؛ إذ سجلت حلقة من ديسمبر (كانون الأول) 2020 رقماً قياسياً هو 1.3 مليون مشاهدة، مع متوسط نِسَب مشاهدة عامة تصل إلى 600 ألف في الحلقة الواحدة. هنا أيضاً يقدّم البرنامج تحقيقات معمّقة في قضايا جنائيّة معقدة، مع تركيز خاص على الجوانب الإنسانية والنفسيّة للجرائم، وقد تكون استمرارية البرنامج لأكثر من 15 سنة، على الهواء، دليلاً قاطعاً على نجاحه التجاري وقدرته على الاحتفاظ بجمهوره.

قنوات أخرى كبيرة، مثل «تي إف1» و«كنال بلوس» و«فرانس 2»، لم تتخلف عن الركب، بل أطلقت هي الأخرى برامج متخصّصة، أو أفردت حيّزاً كبيراً ضمن برامجها الوثائقية لتغطية القضايا الجنائية، في سباق محموم للاستحواذ على حصّة من هذه السوق الإعلامية المربحة.

يوتيوب: ثورة رقمية في تغطية قضايا الإجرام

على صعيد موازٍ، إذا كانت القنوات التلفزيونية التقليديّة قد استثمرت بكثافة في برامج الجريمة، فإن منصّات التواصل الاجتماعي، وتحديداً «يوتيوب»، شهدت ثورة حقيقية في هذا المجال.

صانعو المحتوى الرقمي أدركوا مبكّراً حجم الطلب الجماهيري على القصص الجنائية، وتمكّنوا من بناء إمبراطوريات إعلامية مستقلّة تنافس القنوات التقليديّة. موقع «ترو كرايم» الفرنسي سجّل وجود أكثر من 67 قناة فيديو متخصّصةً في محتوى الجريمة، ما يعكس حجم هذه الصناعة الإعلامية الناشئة.

«ماك سكيز»

في هذا السياق، يُعد صانع المحتوى الفرنسي الشاب «ماك سكيز» النموذج الأبرز لهذا النجاح الرقمي؛ إذ أطلق قناته على «يوتيوب» عام 2018، وفي غضون ست سنوات فقط، وصل عدد المُشتركين إلى ما يقارب مليوني مشترك بحلول عام 2024، وهذا رقم يفوق حجم جمهور العديد من البرامج التلفزيونيّة المتخصّصة. ثم إن محتواه الأسبوعي يحصد بانتظام ملايين المشاهدات، ما يجعله أحد أنجح صانعي المحتوى الفرنسي على الإطلاق.

طبعاً، هذا النجاح لم يأتِ من فراغ، ذلك أن كل حلقة تحتاج لما بين 7 و10 أيام من البحث والتحضير، ويعمل معه فريق محترف يضمّ محرّرين للفيديو، وخمسة رسّامين، وثلاثة فنّانين متخصّصين في الرسوم الثّلاثية الأبعاد.


هل الذكاء الاصطناعي بريء من «تحريف الأخبار»؟

زيادة الاعتماد تطبيقات الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)
زيادة الاعتماد تطبيقات الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)
TT

هل الذكاء الاصطناعي بريء من «تحريف الأخبار»؟

زيادة الاعتماد تطبيقات الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)
زيادة الاعتماد تطبيقات الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

مرة أخرى تتجدد المخاوف بشأن زيادة انتشار «المعلومات المضللة» مع الإعلان عن نتائج بحث جديد، تظهر «تحريف» الذكاء الاصطناعي للأخبار. وفي حين أبدى خبراء مخاوف من تقويض ثقة الجمهور في الأخبار، شددوا على ضرورة «حوكمة» الذكاء الاصطناعي.

وفق بحث نشره اتحاد الإذاعات الأوروبية وهيئة الإذاعة البريطانية، الأسبوع الماضي، فإن «تطبيقات الذكاء الاصطناعي باتت تحرّف محتوى الأخبار في نصف ردودها تقريباً». وتابع البحث أن «45 في المائة من ردود الذكاء الاصطناعي احتوت على مشكلة واحدة كبرى على الأقل، و81 في المائة منها تتضمن شكلاً من أشكال المشاكل».

وكان البحث المشار إليه قد درس 3 آلاف ردّ على أسئلة عن الأخبار من تطبيقات الذكاء الاصطناعي، هي «تشات جي بي تي» و«جيميناي» و«كوبايلوت» و«بربليكستي» بـ14 لغة مختلفة. وشارك فيه 22 مؤسسة إعلامية للخدمة العامة من 18 دولة. بينها؛ فرنسا وألمانيا وإسبانيا وأوكرانيا وبريطانيا والولايات المتحدة.

وبيّن البحث أن ثلث إجابات مساعدي الذكاء الاصطناعي أظهرت أخطاء جسيمة في المصادر، مثل الإسناد المفقود أو المضلل أو غير الصحيح، كما تضمنت 72 في المائة من ردود «جيميناي» مشاكل كبيرة في المصادر، مقارنة بأقل من 25 في المائة للتطبيقات الأخرى. وأضاف أنه «كانت هناك مشاكل في الدقة في 20 في المائة من ردود جميع تطبيقات الذكاء الاصطناعي محل الدراسة».

«اتحاد الإذاعات الأوروبية» أعرب، في تعليق له على الحصيلة، عن «مخاوفه» من أن يتسبب ذلك في «تقويض ثقة الجمهور في الأخبار»، خصوصاً مع زيادة الاعتماد على تطبيقات الذكاء الاصطناعي بديلاً لمحركات البحث التقليدية. وقال جان فيليب دي تيندر، مدير الإعلام في «اتحاد الإذاعات الأوروبية»، في بيان صحافي نقلته «رويترز»، إنه «عندما لا يعرف الناس ما الذي يثقون به، ينتهي بهم الأمر إلى فقدان الثقة في أي شيء على الإطلاق».

من جهتها، صرّحت الدكتورة سالي حمود، الباحثة الإعلامية اللبنانية في شؤون الإعلام المعاصر والذكاء الاصطناعي، وأستاذة الإعلام والتواصل، لـ«الشرق الأوسط»، بالقول إن «الذكاء الاصطناعي، حتى هذه اللحظة يفتقر إلى كثير من الحوكمة، ما يجعل ردوده منحرفة وغير دقيقة بحسب المعلومات التي يجري تلقينه بها... والتحريف إنما يستهدف دعم سردية معينة على أخرى، ما جعل الذكاء الاصطناعي جزءاً من الصرع والحروب الحالية».

وأكدت حمود على «ضرورة أن يعي الصحافيون ذلك، وأن يضعوا ما ينتجونه من محتوى على المنصّات الرقمية في محاولة تغيير السرديات السائدة وتقليل انحراف الأخبار والمعلومات»، مشيرة إلى محاولات عدة لـ«حوكمة الذكاء الاصطناعي» ومشددة على «ضرورة مشاركة الجميع؛ باحثين وعلماء وإعلاميين في وضع أسس التعامل مع الذكاء الاصطناعي».

حمود اعتبرت من جانب آخر، أنه «لا بد من التعاون العربي في هذا المجال لحماية اللغة والسردية والفكر والثقافة العربية في ظل سيطرة السرديات الغربية»، وسط تزايد الاعتماد على تطبيقات الذكاء الاصطناعي كمصادر للأخبار. وللعلم، وفق تقرير الأخبار الرقمية لعام 2025 الصادر عن «معهد رويترز» فإن نحو 7 في المائة من جميع متصفّحي الأخبار على الإنترنت و15 في المائة ممّن تقل أعمارهم عن 25 سنة يستخدمون تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الحصول على الأخبار.

محمد فتحي، الصحافي المصري المتخصص في الإعلام الرقمي، علّق أيضاً على هذا الموضوع فقال لـ«الشرق الأوسط» إن «الذكاء الاصطناعي – في رأيه – يمثّل اليوم بالفعل تحدّياً وجودياً لسلامة المعلومات. وهو بدلاً من تحريف الأخبار... يختلق النموذج اللغوي الكبير حقائق تبدو مقنعة شكلاً، لكنها مضللة وغير صحيحة، ما يضخم التضليل المعلوماتي والتزييف العميق بكميات هائلة وبمصداقية شكلية فقط». وأردف فتحي: «هذا الواقع يبدّد الخط الفاصل بين الحقيقة والزيف، ويهدد ثقة المستخدمين في المحتوى الرقمي»، لافتاً في هذا الصدد إلى دراسة أخرى أفادت بأن «قدرة الإنسان على تمييز الفيديوهات المزيّفة تصل إلى نحو 24.5 في المائة فقط للفيديوهات العالية الجودة».


«قيود البنتاغون» تفتح نقاشاً دستورياً حول حرية الصحافة الأميركية

مبنى "البنتاغون" بضواحي مدينة واشنطن (آ ب)
مبنى "البنتاغون" بضواحي مدينة واشنطن (آ ب)
TT

«قيود البنتاغون» تفتح نقاشاً دستورياً حول حرية الصحافة الأميركية

مبنى "البنتاغون" بضواحي مدينة واشنطن (آ ب)
مبنى "البنتاغون" بضواحي مدينة واشنطن (آ ب)

لم يكن خروج عشرات الصحافيين من مكاتبهم داخل مبنى «البنتاغون»، مقر وزارة الحرب الأميركية، منتصف أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، حدثاً إدارياً عابراً. فالمشهد، الذي بدا أقرب إلى احتجاج جماعي صامت، كشف عن عمق التحوّل في علاقة المؤسسة العسكرية الأميركية بالإعلام، وأعاد إلى الواجهة سؤالاً قديماً جديداً هو: هل لا تزال الديمقراطية الأميركية قادرة على التوفيق بين مقتضيات الأمن القومي وحق المواطن في المعرفة؟

«البنتاغون» مغلق أمام الإعلام

القرار الذي أصدره وزير الحرب، بيت هيغسيث، بفرض وثيقة جديدة على الصحافيين المعتمدين داخل «البنتاغون»، تحظر عليهم طلب أو تداول أي معلومة غير مصرّح بها مسبقاً، فجّر عاصفة من الاعتراضات في الأوساط الإعلامية والقانونية.

الوثيقة، الممتدة على إحدى وعشرين صفحة، تحمل طابعاً تنظيمياً ظاهرياً، لكنها عملياً تعيد تعريف حدود العمل الصحافي في واحدة من أكثر المؤسّسات نفوذاً في العالم. إذ تنصّ على أن أي محاولة للاتصال بمسؤول من دون إذن رسمي تُعد «تشجيعاً على خرق القانون».

وزارة الحرب دافعت عن الإجراء بصفته «خطوة لحماية المعلومات الحسّاسة»، لكن معظم المؤسسات الإعلامية الأميركية الكبرى رأت فيه سابقة خطيرة تتعارض مع التعديل الأول للدستور الأميركي الذي يضمن حرية التعبير والصحافة، ويمنع الحكومة من فرض رقابة مسبقة.

وعن هذا علّق البروفسور جوناثان تيرلي، أستاذ القانون الدستوري في جامعة جورج واشنطن بالعاصمة الأميركية: «الشفافية ليست امتيازاً تمنحه الحكومة للإعلام، بل واجب دستوري لضمان المحاسبة العامة. وما يجري في البنتاغون يختبر صلابة هذا المبدأ في زمن صعود النزعات السلطوية».

وحدة غير مسبوقة في صفوف الإعلام

اللافت أنه في مشهد نادر، توحّدت مؤسسات إعلامية أميركية من مختلف الاتجاهات؛ من «فوكس نيوز» و«نيوزماكس» المحافظتين إلى «واشنطن بوست» و«سي إن إن» و«نيويورك تايمز» الليبرالية، في رفضها التوقيع على الوثيقة.

وأصدرت هذه المؤسسات بياناً مشتركاً قالت فيه إن «الصحافة الحرّة لا يمكن أن تعمل تحت إشراف الجهات التي يُفترض أن تراقبها».

وحدها شبكة «وان أميركا نيوز»، المقرّبة من الرئيس دونالد ترمب، وحركة «ماغا» (لنجعل أميركا عظيمة) وافقتا على الشروط الجديدة، لتصبح الوسيلة الوحيدة التي احتفظت بحق الوصول الدائم إلى مكاتبها داخل «البنتاغون». أما بقية المراسلين فقد غادروا المبنى حاملين ملفّاتهم وأجهزتهم في مشهد وصفته «واشنطن بوست» بأنه «الأكثر رمزية منذ الحرب العالمية الثانية»، حين أُغلقت أبواب وزارة الدفاع (الحرب، اليوم) أمام المراسلين لأول مرة منذ تأسيسها عام 1943.

بين الأمن القومي وحق المواطن

تكمن خطورة الأزمة، وفق عدد من الخبراء، في انتقالها من كونها مسألة تنظيم إداري إلى قضية دستورية وديمقراطية تمسّ جوهر النظام الأميركي.

ففي بلد تبلغ فيه ميزانية الدفاع نحو تريليون دولار سنوياً، يغدو الوصول إلى المعلومات العسكرية والسياسات الدفاعية جزءاً أساسياً من حق الجمهور في مراقبة كيفية إنفاق أمواله العامة.

ويوضح مايكل أوهانلون، الباحث في معهد بروكينغز، أن «الجيش الأميركي مؤسسة وطنية، لكنها ليست فوق المساءلة. وبالتالي، من دون إعلام حرّ، يصبح الحديث عن الرقابة المدنية على المؤسسة العسكرية مجرّد شعار».

غير أن البيت الأبيض تبنّى رواية مختلفة. إذ قال الرئيس ترمب، خلال مؤتمر صحافي مشترك مع هيغسيث: «لسنا بحاجة إلى صحافيين يتجوّلون بين جنرالاتنا كما لو كانوا في نزهة. نحن نحمي أسرار بلدنا». وأردف أن «الحكومة تحمي أسرارها؛ لا لأنها تخفي شيئاً، بل لأنها لا تثق بمَن يحاولون تسييسها». وهذه عبارة فسّرها مراقبون على أنها استمرار في نهج الإدارة الذي يرى في الإعلام «طرفاً معادياً» وليست «سلطة رقابية».

الوزير بيت هيغسيث (آ ب)

المعركة القانونية المقبلة

من جهة ثانية، استعانت نقابة مراسلي «البنتاغون» بمكتب محاماة لرفع دعوى أمام القضاء الفيدرالي، مطالبة بإلغاء الوثيقة بوصفها تقييداً غير دستوري لحريّة الوصول إلى المعلومات.

وتشير مصادر قانونية إلى أن الدعوى قد تتحوّل إلى قضية مفصلية في تاريخ القضاء الأميركي، على غرار قضايا «أوراق البنتاغون» خلال السبعينات التي أرست مبدأ حق الصحافة في نشر الوثائق السرّيّة إذا كان النشر يخدم المصلحة العامة.

ويقول المحامي توماس ديفين، الخبير في قضايا الشفافية، إن «النزاع الحالي لا يدور حول امتيازات الصحافيين، بل حول حق كل مواطن في معرفة ما تفعله حكومته بأمواله وباسمه. فحين تُغلق المعلومة، تُغلق الديمقراطية معها».

تسييس المؤسسة العسكرية

ولكنَّ جانباً آخر من الجدل يتّصل بشخصية الوزير نفسه. فبيت هيغسيث، وهو مقدّم سابق في الجيش ومذيع يميني سابق في «فوكس نيوز»، يُعدّ من أبرز المدافعين عن سياسات ترمب الإعلامية. ولقد بنى فريقه داخل الوزارة على قاعدة الولاء السياسي، وفق ما كشفت عنه تسريبات صحافية عدة. ولذا، يرى محلّلون أن ما يحدث راهناً في «البنتاغون» انعكاس لتسييس متزايد للمؤسسة العسكرية، وتحويلها من جهاز بيروقراطي مهني إلى سلاح في معركة ترمب المفتوحة مع الإعلام. ذلك أن القرار ليس فقط حول إدارة الوصول إلى المعلومة، بل حول مَن يملك رواية القوة في واشنطن: الصحافة أم السلطة؟

أيضاً، يرى مراقبون أن النتائج المُحتملة لهذا النهج قد تؤدي إلى تداعيات عدّة، أبرزها:

- إضعاف الرقابة المدنية. مع حرمان الصحافيين من مصادرهم غير الرسمية، ستتقلص قدرة الإعلام على الكشف عن التجاوزات أو مراقبة النفقات العسكرية.

- انزلاق قانوني محتمل. إذا أقرّت المحاكم بصلاحية الوثيقة، سيصبح ذلك سابقة قد تشجّع مؤسسات فيدرالية أخرى على فرض قيود مشابهة.

- تآكل الثقة العامة. في ظل انقسام سياسي حاد، قد يعمّق هذا القرار الشكوك في صدقية المؤسسات الرسمية وحيادها.

ولكن من منظور أوسع، تُعد «قيود البنتاغون» جزءاً من جدل أعمّ حول إعادة تعريف الشفافية في الحقبة الترمبية. إذ إن الإدارة الحالية تطرح نموذجاً يرى في الانضباط الإعلامي شرطاً للأمن القومي، في حين يرى منتقدوها أن الشفافية -في حد ذاتها- هي ضمانة هذا الأمن. بل يقول البعض إنه «في الديمقراطيات، المعرفة لا تهدِّد الدولة، بل الجهل هو الذي يهددها».

وهكذا في ضوء ما تقدّم، ما عادت قضية «البنتاغون» صراعاً عابراً بين الصحافة والسلطة، بل صارت اختباراً لمناعة النظام الأميركي أمام نزعة السرّيّة الحكومية. فكلّما ضاقت مساحة الوصول إلى المعلومة، تراجع حضور المواطن في المعادلة السياسية، وتحوّلت الديمقراطية إلى طقسٍ شكليّ خالٍ من الجوهر الرقابي.

وكذلك، بين مَن يرفع شعار الأمن القومي ومَن يتمسّك بحق المعرفة، تقف الولايات المتحدة أمام سؤالها المؤسس والأصعب منذ قيامها: مَن يراقب مَن في واشنطن؟