أثارت نتائج دراسة حديثة بشأن تراجع إطلاق مواقع إخبارية جديدة في أوروبا وأميركا الجنوبية والشمالية خلال العامين الماضيين، تساؤلات بشأن السبب وراء هذا التراجع، وتأثيره في «مستقبل الإعلام»، وفي حين أرجع خبراء الأمر إلى «تشبّع السوق» فإنهم أشاروا إلى أن الوضع مختلف في المنطقة العربية التي تشهد حراكاً سياسياً وإعلامياً لافتاً.
الدراسة أعدها مشروع بحثي تموّله «مبادرة غوغل للأخبار»، وقد رصدت تباطؤاً في عدد شركات الإعلام الرقمي الناشئة في أوروبا وأميركا اللاتينية وأميركا الشمالية منذ عام 2022. وربطت الدراسة، التي نشرها أخيراً معهد «نيمان لاب»، المتخصّص في الدراسات الإعلامية، بين النمو البطيء والتحديات الاقتصادية والصراعات السياسية بوصفها أسباباً محتملة لتراجع عدد المشاريع الإعلامية. كذلك رأت الدراسة أن «التراجع قد يكون مؤشراً على أن الأسواق تقترب من نقطة التشبّع في بعض الأماكن، خصوصاً في المدن الكبرى»، بيد أنها قالت أيضاً إن التراجع في رصد المشاريع الجديدة قد يعود إلى أن عدداً منها ينطلق بشكل غير رسمي، ما يجعل من الصعب رصده بصفته مشروعاً إعلامياً جديداً.
جدير بالذكر أن دراسة معهد «نيمان لاب» حلّلت أكثر من 3 آلاف مؤسسة إعلامية في 68 دولة عبر أوروبا وأميركا اللاتينية وأميركا الشمالية. ولقد صنّفت أكثر من 60 في المائة من المؤسسات الإعلامية التي شملتها الدراسة بصفتها مؤسسات ربحية، و32 في المائة منها بصفتها مؤسسات لا ربحية، و5 في المائة تعمل بشكل غير رسمي، و3 في المائة مؤسسات هجينة، أي تجمع بين صفتي الربحية واللاربحية. ومن ثم، لفتت إلى «ارتفاع عدد المواقع الإخبارية التي توقفت في أميركا اللاتينية خلال العام الماضي، مقارنة بأي من السنوات التسع السابقة، إذ توقف 678 موقعاً عن النشر بحلول مايو (أيار) الماضي، في حين شهد عام 2022 إطلاق 46 موقعاً إخبارياً جديداً في أميركا الشمالية».
أنس بنضريف، الصحافي المغربي المتخصص في شؤون الإعلام الرقمي، ربط في لقاء مع «الشرق الأوسط» بين نتائج الدراسة وما بات يُعرف بظاهرة «تشبّع السوق»، وقال إنه مع رصد دراسة تباطؤ إصدار مواقع جديدة في أوروبا والأميركتين فإن الوضع في المنطقة العربية «لا يختلف كثيراً»، وأنه «بعد الانفجار الكبير في إطلاق مواقع ووسائل إعلام جديدة عقب أحداث (الربيع العربي) شهدت السوق تشبّعاً أثر في عدد المواقع الجديدة المدشّنة، لا سيما أن الزيادة العددية لم تنعكس تنوعاً في الشكل والمحتوى».
بنضريف أضاف سبباً آخر هو أن «غالبية المواقع الجديدة، لا سيما تلك المستقلة، لم تفرض نفسها بشكل كبير في سوق الإعلام العربي، بل ظلّت مواقع نخبوية». ولفت إلى «تحديات مالية تواجه إصدار مواقع جديدة أو حتى الحفاظ على القائم منها، في ظل قلة المستثمرين في مجال الإعلام، ونقص العائدات الإعلانية في ضوء المنافسة مع مواقع التواصل الاجتماعي».
ولاحظ الصحافي المغربي أيضاً «تغيّر سلوك الجمهور واعتماده على مواقع التواصل الاجتماعي، لا سيما (تيك توك) و(إنستغرام)، بوصفهما مصدرين للمعلومات والأخبار».
عودة إلى الدراسة نفسها، فإنها أفادت بأن الفترة الأخيرة شهدت تراجعاً في المنح التمويلية المقدمة لدعم الصحافة والإعلام. وأوضحت أن المنح الطارئة ساعدت عديداً من وسائل الإعلام على النجاة من تداعيات جائحة «كوفيد- 19»، ولكن مع نضوب هذه الأموال، عانى عدد من المواقع الإخبارية من آثار مالية هدّدت استمرار عملها. ومعلومٌ أن العديد من المواقع الإخبارية في أميركا الشمالية يعتمد على الإعلانات بصفتها مصدر دخل وحيداً.
في سياق موازٍ، برّر خالد البرماوي، الصحافي المصري المتخصص في شؤون الإعلام الرقمي، تراجع أو تباطؤ نمو المشاريع الإعلامية في أوروبا والأميركتين بـ«الهجمة الشرسة لبرامج وتطبيقات الذكاء الاصطناعي التي تنافس الإعلام بقوة». لكنه خلال حواره مع «الشرق الأوسط» قال إنه، في الوقت ذاته، لا يتوقع استمرار هذا التراجع، و«إن الفترة المقبلة قد تشهد اندماجات إعلامية، واستحواذات من شركات كبرى على شركات أصغر لمواكبة المتغيرات المتلاحقة في سوق الإعلام».
وبشأن المنطقة العربية، رأى البرماوي أن «الوضع مختلف، خصوصاً في ظل حراك سياسي مستمر من شأنه أن ينعكس على طبيعة الإعلام وتكوينه... ثم إن الإعلام العربي لا يزال في طور التحوّل والتغيّر، ومن هنا فالتوقّعات بشأن مستقبله مختلفة عن الوضع في الغرب». واختتم كلامه بالإشارة إلى أن «الدراسة تتكلّم عن نحو 60 في المائة من المشاريع الإعلامية الهادفة للربح، وهذا رقم كبير إذا ما قُورن بالوضع عربياً، إذ لا تتجاوز نسبة المشاريع الإعلامية العربية الربحية نسبة الـ20 في المائة، مقابل أخرى مدعومة من دول المنطقة».